القرآن

الأثر النفسي للقرآن

 

من إعجاز القرآن العظيم أنه يستولي على قلوب القارئين والسامعين ويتسامى بأرواحهم، حتى ليكاد الإنسان يشعر وكأنه قد تخلص من طبيعته الأرضية، واكتسب روحًا نورانية، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظَّها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتَغَشَّاها الخوف والفَرَق، تقشعرُّ منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يَحُول بين النفس وبين مُضمَراتها وعقائدها الراسخة فيها؛ فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفُتَّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحوَّلوا عن رأْيهم الأَول، وأَن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا1.

 

خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمد لقتله، فسار إلى دار أخته وهى تقرأَ سورة طه، فلمَّا وقع في سمعه لم يلبث أَن آمن.

 

وبعث الملأُ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقوه على أمور أرسلوه بها، فقرأَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من سورة فصلت، فلما أَقبل عتبة وأَبصره الملأَ من قريش قالوا: أَقبل أَبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

 

ولَمَّا قرأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأَنصار، آمنوا به وعادوا إلى المدينة فأظهروا الدين بها، فلم يَبْقَ بيت من بيوت الأنصار إلاَّ وفيه قرآن. وقد رُوِىَ عن بعضهم أنه قال: فُتِحَت الأَمصار بالسيوف وفُتِحَت المدينة بالقرآن.

 

ولَمَّا سمعته الجن لم تتمالك أن قالت:

 

{إنَّا سَمعنا قرآنًا عَجَبًا* يَهْدِى إِلى الرُّشْد فآمَنِّا بهِ} (الجن: 1ـ 2).

 

ومصداق ما وصفناه في أَمر القرآن في قول الله تعالى:

 

{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: 21).

 

وقوله عز وجل:

 

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23).

 

وقوله عز وجل:

 

{إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2).

 

وغير ذلك الكثير من الآيات، لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهو من عظيم آياته، ودلائل معجزاته2.

 

وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة ـ وكان سيدًا حليمًا ـ قال يومًا: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه فأعرض عليه أمورًا لعلَّه أن يقبل منها بعضها فنعطيه أيها شاء؟ وذلك حين أسلم حمزة رضى الله عنه ورأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكثرون، قالوا: نعم يا أبا الوليد!

 

فقام إليه ـ وهو صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده ـ فقال: يا ابن أخي! إنك مِنَّا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به بين جماعتهم وسفَّهت أحلامهم وعِبْت آلهتهم، وكفَّرت مَنْ مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها، فقال صلى الله عليه وسلم: قل. قال: إن كنت إنما تريد المال بما جئت به من هذا القول، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سوَّدناك حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيًّا (أي شيطانًا) لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوَى منه، أو لعلَّ هذا شعر جاش به صدرك، فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا نقدر عليه! حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو قَد فرغت؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني. قال: قل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (فصلت: 1 ـ 4).

 

ثم مضى فيها يقرؤها، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال له: قد سمعتَ ما سمعت فأنت وذاك! فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمَّا جلس قالوا: ما وراءَك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت بمثله قط، وما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعت نبأٌ؛ فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب به فمُلكه ملككم وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.

 

ومنه ما جاءَ في حديث أبي ذر في سبب إسلامه: رُوي أنه قال: قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة إلى مكة، فانطلق، فمكث طويلاً، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يقول إن الله تعالى أرسله.

 

فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، ساحر، كاهن. قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء، قال: تالله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.

 

ومن ذلك ما روي أن الوليد بن عقبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأْ. فقرأَ عليه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90)؛ فقال: أعِدْ، فأعاد، فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لَمُغدِق، وإن أعلاه لَمُثمِر، وما يقوَى على هذا بَشَرٌ!3.

 

وكلُّ من طالع القرآن الكريم قد أحس بشيء من هذا التأثير الطاغي والسلطان الآسر لكلام الله عز وجل، وهو سر من أسرار القرآن باقٍ ما بقيت السماوات والأرض.

 

ولم يُعْرَف في تاريخ البشر أنَّ كلامًا قَارَبَ القرآن في قُوَّة تأثيره في العقول والقلوب؛ فهو الذي قلب طباع الأمَّة العربية، وحوَّلها عن عقائدها وتقاليدها، وصرفَها عن عاداتها وعداواتها، وبدَّلها بأمِّيَّتِهَا حكمةً وعلمًا، وألَّف من قبائلها المتفرقة أمَّةً واحدة سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها وعلومها وفنونها.

 

***************************

 

(1) رسالة الخطابى ضمن كتاب “ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن”، ص24.

 

(2) من كتاب: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، للرماني والخطَّابي وعبد القاهر الجرجاني، ص 70 ـ 71.

 

(3) من رسالة عبد القاهر الجرجاني، ضمن كتاب: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 123ـ 125.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى