النصرانية

التعصب والتسامح بين الإسلام والمسيحية

إذا أخذنا كلمة الإسلام، بمعناها القرآنى نجدها لا تدع مجالا لهذا السؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية.
فالإسلام ـ فى لغة القرآن ـ ليس اسما لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذى هتف به كل الأنبياء وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء.
هكذا نرى نوحا يقول لقومه: (وأمرت أن أكون من المسلمين).
ويعقوب يوصى بنيه : (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
وأبناء يعقوب يجيبون أباهم : (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون).
وموسى يقول لقومه: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين).
والحواريون
يقولون لعيسى : (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون).
بل إن فريقا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن: (قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين).
وبالجملة نرى اسم الإسلام شعارا عاما يدور فى القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية.

 

ثم نرى القرآن يجمع هذه القضايا كلها فى قضية واحدة يوجهها إلى قوم محمد، ويبين لهم فيها أنه لم يشرع لهم دينا جديدا، وإنما هو دين الأنبياء من قبلهم: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
ثم نراه ـ بعد أن يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ـ ينظمهم فى سلك واحد، وبجعل منهم جميعا أمة واحدة لها إله واحد، كما لها شريعة واحدة: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
ما هذا الدين المشترك الذى اسمه الإسلام، والذى هو دين كل الأنبياء المرسلين؟.

إن الذى يقرأ القرآن يعرف كنه هذا الدين: إنه هو التوجه إلى الله رب العالمين فى خضوع خالص لا يشوبه شرك.
وفى إيمان واثق مطمئن بكل ما جاء من عنده على أى لسان وفى أى زمان أو مكان، دون تمرد على حكمه، ودون تمييز شخصى أو طائفى أو عنصرى بين كتاب وكتاب من كتبه، أو بين رسول ورسول من رسله.
هكذا يقول القرآن : (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين).
ويقول: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).


نقول ـ إذا ـ إن الإسلام بمعناه القرآنى الذى وصفناه لا يصلح أن يكون محلا للسؤال عن علاقة بينه وبين سائر الأديان السماوية.
وإذ لا يسأل عن العلاقة بين الشئ ونفسه، فهاهنا وحدة لا انقسام فيها ولا اثنينية.
غير أن كلمة ” الإسلام ” قد أصبح لها فى عرف الناس مدلول معين، هو مجموعة الشرائع والتعاليم التى جاء بها محمد أو التى استنبطت مما جاء به.
كما أن كلمة! اليهودية ” أو ” الموسوية ” تخص! شريعة “موسى” وما اشتق منها.
وكلمة ” النصرانية” أو ” المسيحية ” تخص شريعة ” عيسى ” وما تفرع عنها.
فالسؤال الآن إنما هو عن ” الإسلام ” بمعناه العرفى الجديد.
أعنى عن العلاقة بين المحمدية وبين الموسوية والمسيحية.
وللإجابة عن هذا السؤال ينبغى أن نقسم البحث إلى مرحلتين: المرحلة الأولى: فى علاقة الشريعة المحمدية بالشرائع السماوية السابقة.
وهى ـ فى صورتها الأولى ـ لم تبعد عن منبعها، ولم يتغير فيها شئ بفعل الزمان ولا بيد الإنسان.
المرحلة الثانية: فى علاقته بها بعد أن طال عليها الأمد، وطرأ عليها شئ من التطور.
أما في المرحلة الأولى: فالقرآن يعلمنا أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل، قد جاء مصدقا ومؤكد لما قبله: فالإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة.
والقرآن مصدق ومؤيد للإنجيل والتوراة ولكل ما بين يديه من الكتب ” 5 : 46 ـ 48″.
وقد أخذ الله الميثاق على كل نبى إذا جاءه رسول مصدق لما معه أن يؤمن به وينصره ” 3 : 81″.
غير أن ها هنا سؤالا يحق للسائل أن يسأله: أليست قضية هذا التصادق الكلى بين الكتب السماوية أن تكون الكتب المتأخرة إنما هى تجديد، للمتقدمة وتذكير بها، فلا تبدل فيها معنى، ولا تغير حكما.
وإلا فكيف يقال: إنها تصدق إلخ بينما هى تبدل وتعدل؟.
وإذا كان من قضية التصادق الكلى بين الكتب ألا يغير المتأخر منها شيئا من المتقدم فهل الواقع هو ذلك؟ الجواب: ليس الواقع ذلك.
فقد جاء الإنجيل بتعديل بعض أحكام التوراة.
إذ أعلن عيسى أنه جاء ليحل لبنى إسرائيل بعض الذى حرم عليهم” 3 : 50 ” وكذلك جاء القرآن بتعديل بعض أحكام الإنجيل والتوراة.
إذ أعلن أن محمدا جاء ليحل للناس كل الطيبات، ويحرم عليهم كل الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم ” 7 : 157 “.
ولكن يجب أن يفهم هذا وذاك، لم يكن من المتأخر نقضا للمتقدم، ولا إنكارا لحكمة أحكامه فى إبانها.
وإنما كان وقوفا بها عند وقتها المناسب، وأجلها المقدر..
مثل ذلك مثل ثلاثة من الأطباء، جاء أحدهم إلى الطفل فى الطور الأول من حياته فقرر قصر غذائه على اللبن.
وجاء الثانى إلى الطفل فى مرحلته التالية، فقرر له طعاما لينا وطعاما نشويا، خفيفا.
وجاء الثالث فى المرحلة التى بعدها، فأذن له بغذاء قوى كامل.
لا ريب أن هاهنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوفيق فى علاج الحال التى عرضت عليه.
نعم إن هناك قواعد صحية عامة فى النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها، لا تختلف باختلاف الأسنان ” الأعمار “.
فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا باختلاف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.
هكذا الشرائع السماوية كلها صدق وعدل فى جملتها وتفصيلها.
وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها.

ولكن هذا التصديق على ضربين:
1 –
تصديق القديم مع الإذن ببقائه واستمراره.
2 – وتصديق له مع إبقائه فى حدود ظروفه الماضية.

ذلك أن الشرائع السماوية تحتوى على نوعين من التشريعات:
1 –
” تشريعات خالدة” لا تتبدل بتبدل الأصقاع والأوضاع “كالوصايا التسع ” ونحوها.

وتشريعات موقوتة، بآجال طويلة أو قصيرة.

2 – فإذا فرض أن أهل شريعة سابقة تناسوا هذا الضرب من التشريع جاءت الشريعة اللاحقة بمثله ” أى أعادت مضمونه تذكيرا” وتأكيدا له.

فهذه تنتهى بانتهاء وقتها وتجئ الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة..
وهذا ـ والله أعلم ـ هو تأويل قوله تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ولولا اشتمال الشريعة السماوية على هذين النوعين ما اجتمع فيها العنصران الضروريان لسعادة المجتمع البشرى.

عنصر الاستمرار الذى يربط حاضر البشرية بماضيها.

وعنصر الإنشاء والتجديد، الذى يعد الحاضر للتطور والرقى اتجاها إلى مستقبل أفضل وأكمل

ونحن إذا نظرنا نظرة فاحصة إلى سير التشريع السماوى من خلال الشرائع الثلاث نجد فيه هذين العنصرين واضحين كل الوضوح.
إذ نجد كل شريعة جديدة تحافظ على الأسس الثابتة التى أرستها الشريعة السابقة، ثم تزيد عليها ما يشاء الله زيادته.
نرى شريعة التوراة مثلا قد عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك ” لا تقتل و لا تسرق “..
إلخ.
ونرى الطابع البارز فيها هو طابع الحقوق وطلب العدل والمساواة بينها.
ثم نرى شريعة ” الإنجيل ” تجئ بعدها فتقرر هذه المبادئ الأخلاقية وتؤكدها، ثم تترقى فتزيد عليها آدابا مكملة: ” لا تراء الناس بفعل الخير ” أحسن إلى من أساء إليك “.
ونرى الطابع البارز فيها التسامح والرحمة والإيثار والإحسان..

وأخيرا تجىء شريعة القرآن: فنراها تقرر المبدأين كليهما فى نسق واحد : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) مقدرة لكل منهما درجته فى ميزان القيم الأدبية، مميزة بين المفضول منهما والفاضل : (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين).
ثم نراها ـ وقد أضافت إليها فصولا جديدة ـ صاغت فيها قانون آداب اللياقة.
رسمت بها مناهج السلوك الكريم فى المجتمعات الرفيعة.
ففى التحية والاستئذان، والمجالسة والمخاطبة إلى غير ذلك..
كما نراه فى سورة النور والحجرات والمجادلة.
هذا مثال من أمثلة الجمع فى سير التشريعات السماوية بين عنصر المحافظة على القديم الصالح، وعنصر الأخذ بالجديد الأصلح.
والأمثلة كثيرة لا يتسع لها نطاق هذا البحث.
هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ولبنات متراكمة فى بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع.
وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أنها أكملت البنيان وملأت ما بقى فيه من فراغ.
وأنها ـ فى الوقت نفسه ـ كانت بمثابة حجر الزاوية الذى يمسك أركان البناء.
وصدق الله حين وصف خاتم أنبيائه بأنه : ( جاء بالحق وصدق المرسلين).
وحين وصف اليوم الأخير من أيامه بأنه كان إتماما للنعمة وإكمالا للدين : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي).
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صور الرسالات السماوية فى جملتها أحسن تصوير: ” مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة .
فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين! ” (البخارى ، كتاب المناقب ، باب خاتم النبيين).
إنها إذا سياسة حكيمة رسمتها يد العناية الإلهية، لتربية البشرية تربية تدريجية لا طفرة فيها ولا ثغرة، ولا توقف فيها ولا رجعة، ولا تناقض ولا تعارض.
بل تضافر وتعانق، وثبات واستقرار، ثم نمو واكتمال وازدهار.

وننتقل الآن إلى المرحلة الثانية.
“المرحلة الثانية ” فى بحث العلاقة بين الشريعة المحمدية والشرائع السماوية بعد أن طال الأمد على هذه الشرائع، فنالها شئ من التطور والتحرر.
رأينا فى المرحلة السابقة كيف كان القرآن يعلن عن نفسه دائما أنه جاء (مصدقا لما بين يديه من الكتاب).
ونرى الآن أن القرآن أضاف إلى هذه الصفة صفة أخرى، إذ أعلن أنه جاء أيضا “مهيمنا” على تلك الكتب ” 5 : 48 ” حارسا أمينا عليها.
ومن قضية الحراسة الأمينة على تلك الكتب ألا يكتفى الحارس بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه ـ فوق ذلك ـ أن يحميها من الدخيل الذى عساه أن يضاف إليها بغير حق.
وأن يبرز ما تمس إليه الحاجة من الحقائق التى عساها أن تكون قد أخفيت منها.
وهكذا كان من مهمة القرآن أن ينفى عنها الزوائد، وأن يتحدى من يدعى وجودها فى تلك الكتب.
(قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين).
كما كان من مهمته أن يبين ما ينبغى تبيينه مما كتموه منها : (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب).
وجملة القول أن علاقة الإسلام بالديانات السماوية فى صورتها الأولى هى علاقة تصديق وتأييد كلى وأن علاقته بها ـ فى صورتها المنظورة ـ علاقة تصديق لما بقى من أجزائها الأصلية، وتصحيح لما طرأ عليه من البدع والإضافات الغريبة عنها.
هذا الطابع الذى تتسم به العقيدة الإسلامية ـ وهو طابع الإنصاف والتبصير الذى يتقاضى كل مسلم، ألا يقبل جزافا، ولا ينكر جزافا، وأن يصدر دائما عن بصيرة وبينة فى قبوله ورده ـ ليس خاصا بموقفها من الديانات السماوية.
بل هو شأنها أمام كل رأى وعقيدة.
وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية، ترى القرآن يحللها ويفصلها.
فيستبقى ما فيها من عناصر الخير والحق والسنة الصالحة، وينحى ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
1 ـ ت 2 ـ  1 ـ 2 ـ 1 ـ  2 ـ .

الشيخ محمد عبد الله دراز

نقلا عن كتاب التعصب والتسامح بين الإسلام والمسيحية للشيخ محمد الغزالى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى