السماحة منهج أمة ودستور حياة
كم نحن بحاجة إلى السماحة والتي تعني التسامح والتيسير والسهولة واللين وبذل المعروف وكف الأذى في سلوكنا ومعاملاتنا وعلاقتنا مع من حولنا، خاصة ونحن في زمن قست فيه القلوب وكثرت فيه المشاكل وساءت العلاقات بين بني الإنسان على مستوى البيت والأسرة والمجتمع وبين شعوب الأرض وحضاراته، الأمر الذي أدى قيام الصراعات والحروب والعداوات وحب الانتقام حتى سفكت الدماء واستطال الإنسان في عرض أخيه، وتعدى على ماله، وضعفت المبادئ والقيم والأخلاق، ولا يمكن أن تكون هذه هي الحياة التي أرادها الله للناس رغم اختلافهم في التفكير والرؤى وفي الاعتقاد والدين وفي نمط الحياة وفي النظر لهذا الكون، ومع هذا الاختلاف والتباين بين الناس كانت دعوة الإسلام إلى السماحة والسهولة والتعاون والتعرف واليسر في علاقة الإنسان بغيره قال – تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13).. ومن ينظر إلى تشريعات الإسلام وتوجيهاته في جميع شؤون الإنسان وحياته يجد السماحة واليسر والبعد عن الحرج ومراعاة الواقع وتقدير الظروف قال تعالى: (هوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج آية 78) وقال – تعالى-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(سورة المائدة الآية 6) قال ابن كثير – رحمه الله -: ” أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة.. )..
ولا عجب فهذا دين الله – سبحانه وتعالى- الذي من أسمائه العفو والغفور والرحيم والتواب.. يغفر الذنوب والزلات ويعفو ويسامح ويتفضل على عباده ويتجاوز عنهم وإذا ما أخطأوا في حقه – سبحانه – ودعتهم نفوسهم لارتكاب الموبقات والانغماس في الذنوب والمعاصي ناداهم – سبحانه وتعالى- (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، لاحظ هنا (يا عبادي) نداء من الله – عز وجل -، لمن؟ للذين أسرفوا على أنفسهم، ويسميهم (عباد) ويضيفهم نسبة إليه (يا عبادي) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ) لقد بلغوا حداً كبيرا في الغفلة والوقوع في المخالفة (لا تقنطوا من رحمة الله).. فأي عفو وأي تسامح هذا؟ بل خاطب – سبحانه وتعالى – نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلمه كيف تكون علاقته بمن حوله قائلاً: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [المائدة: 13]، وقال – سبحانه -: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة: 109]… فالتسامح خلق الأنبياء فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعيش هذا الخلق بين أصحابه ومع أعداءه واقعاً في الحياة.. فعندما دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – مكة منتصرًا، جلس – صلى الله عليه وسلم – في المسجد، والمشركون ينظرون إليه، وقلوبهم مرتجفة خشية أن ينتقم منهم، أو يأخذ بالثأر قصاصًا عما صنعوا به وبأصحابه. فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟))… قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))… فأين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين؟! سئِلَت عائشة – رضي الله عنها – عن خلُق رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: ” لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح” (رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين) قال – تعالى-: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 36، 37].
ومع شدة الهجمة على الإسلام والمسلمين وتكرارها وتنوعها من قبل أعدائه من يهود ونصارى ومنافقين وعلمانيين ورويبضات الزمان وأنصاف الرجال ووصفهم لهذا الدين بالعنف والشدة والإرهاب وإقصاء الآخر ومصادرة الحقوق أصبح كثير من المسلمين بسبب جهلهم بدينهم يتبنون هذه الأطروحات، والبعض الآخر يدافع عن الدين دفاع المتهم الذي يشعر بضعف حجته وأدلته ويحاول التبرير واختلاق الأعذار الواهية، وهناك طرف آخر من المسلمين أخذته العاطفة والحب لهذا الدين مع سوء فهم وتفسير مغلوط لأحكامه وتشريعاته إلى أن يتبنى العنف والشدة وسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولم يفرق بين مسلم ومعاهد وذمي، ولا بين المصالح والمفاسد، ظناً منهم أن هذه الطريق هي طريق الخلاص وبها ينصر الدين ويعز الإسلام وأهله، فكان من نتائج سوء الفهم سفك الدماء وذهاب الأمن وانتشار الظلم وتشويه الصورة الناصعة لهذا الدين عند الآخرين وتعرض أبناء المسلمين للمطاردة والملاحقة والإيذاء، واسُتغل هذا الوضع للكيد للإسلام والمسلمين ومحاربة قيمه وتشويه تشريعاته وتحذير العالم وتخويف الناس منه.. نعم إن الإسلام يبني في المسلم العزة والقوة والإرادة، ولا يقبل منه الضعف والخور والاستكانة، لأنه يحمل دين الله وهو خليفة الله في أرضه.. ولكن هذه القوة والعزلة ليس فيها ظلم لأحد مهما كان دينه أو عقيدته أو بلاده طالماً أنه لم يعتدي على مسلم أو شارك في قتاله أو كان سبب في ظلمه وانتقاص حقه قال – تعالى-: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).. وهذه هي سماحة الإسلام مع الآخرين من الأديان والممل والمذاهب الأخرى تظهر في جميع تشريعاته وأحكامه ففي جانب العقيدة ترك الإسلام الحرية للإنسان بأن يختار دينه وأن لا يكره عليه قال – تعالى -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256) وعاش اليهود والنصارى والمجوس في ظل دولة الإسلام قرون من الزمان ولم يكرهوا على هذا الدين ولم تقام لهم محاكم التفتيش ولا الإبادة الجماعية كما حدث للمسلمين في أسبانيا وألبانيا والبوسنة والهرسك والإتحاد السوفيتي سابقاً وقتل المسلم بالهوية ومن خلال اسمه وشعائر دينه، فهل بعد ذلك يكون دين الإسلام دين إرهاب وظلم وإكراه؟
لقد حرم الإسلام وأغلظ في العقوبة على أبنائه وأتباعه إذا بدر منهم ظلم أو تعدى على أي إنسان دخل بلاد المسلمين من غيرهم فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)).. وانظروا إلى هذا السلوك الحي المفسر لأخلاق الإسلام وسماحته.. جاء في صفة الصفوة أن عمير بن سعد والي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على حمص قدم المدينة يريد من أمير المؤمنين أن يقيله من منصبه، فلما سأله عمر عن السبب، قال عمير: إن ذلك شيء لا أعمله لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك، لقد عظم على عمير قوله لرجل من غير المسلمين: أخزاك الله، وهو دعاء، وما ذكر خطأ اقترفه في ولايته على حمص أعظم من هذا، وفي ذلك دليل على أن هذا الدين ما جاء إلا بالرحمة والهداية وإنقاذ البشر من الضلال إلى الهدى ومن ظلمات الكفر إلى نور الطاعة، ولا عجب فمن مدرسة النبوة تخرج هذا الصحابي وغيره… إنها سماحة الإسلام التي تأمر بالعدل والإحسان حتى مع غير المسلمين من أجناس الأرض، قال – تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].. بل لقد مر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- بباب قوم وعليه سائل يسأل: ” شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم” (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.. وعندما أمر عمر بن عبد العزيز – رحمه الله- مناديه ينادى: ” ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، قام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله – تعالى-، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد قم فاردد عليه ضيعته فردها عليه”… وهذا مُجاهدٍ يقول أنَّه ذبح شاةً لعبدَ اللهِ بنَ عمرو في أهلهِ فلمَّا جاءَ قال أهديتُمْ لجارنَا اليهوديِّ؟ أهديتُمْ لجارنا اليهوديِّ؟ سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يقول: (( ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ)) (رواه الترمذي وقال: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ). بل لم ينه الإسلام الذين آثروا الشرائع الأخرى عن الاحتكام إلى ما بأيديهم من الكتب، بل أمرهم بتحكيمها: ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) (المائدة: 47)، ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) (المائدة 43).. وإذا كانت الدهشة تملك قلوب أهل هذا العصر الحاضر وعقولهم من هذا السخاء في المساواة والعدل والإنصاف الذي أعطاه الإسلام ودولته “للآخر الديني” قبل أربعة عشر قرنا، فإن هذه الدهشة دهشة الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام ستزداد وتتعاظم عندما يعلمون وتعلم الدنيا أن الإسلام لم يطلب من هذا “الآخر الديني” مقابل كل هذا السخاء في “الحقوق” سوى “واجب واحد” هو أن يكون هذا “الآخر” لبنة في جدار الأمن الوطني والحضاري للدولة الإسلامية، وأن يكون ولاؤه كاملا للدولة والوطن، وانتماؤه خالصا للأمة، التي هو جزء أصيل فيها، وألا يكون ثغرة اختراق لحساب أي من الأعداء.
حتى في الحرب التي تأكل الأخضر واليابس وتزهق فيها الأرواح وتدمر المدن والقرى ويموت الصغير والكبير أمر الإسلام بالسماحة والعدل وحرم الظلم فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا”.. وصاغ أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وهو على رأس دولة الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية “وثيقة أخلاق الحرب التي لم تعرف الدنيا مثلها” فقد أوصى “يزيد بن أبي سفيان وهو يودعه أميراً على الجيش الذاهب إلى الشام، فقال له: “إنك ستجد قوماً زعموا أَنَّهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أَنَّهُم حبسوا أنفسهم له.. وإني أوصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجر مثمرا، ولا تخربنَّ عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إِلاَّ لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن..“(رواه مالك في الموطأ).. وانظروا إلى حروب أوربا وأمريكا وشرق آسيا في اليابان وكوريا والحرب الصينية والحرب العالمية ملايين من البشر قتلوا ومدن ودول محيت من الخريطة، وأسلحة فتاكة لا تفرق بين صغير وكبير ومريض وامرأة وعجوز وشاب ومحارب وغيره، بل أقيمت المجازر في الحرب الدينية بين الأوربيين أنفسهم ودمرت الحياة بكل معانيها والتي دامت أكثر من قرنين داخل النصرانية ذاتها، بين الكاثوليك والبروتستانت، في القرنين السادس عشر والسابع عشر حيث أبيد فيها 40% من شعوب وسط أوروبا.. ووفق إحصاء “فولتير” [1694- 1778م] بلغ ضحاياها عشرة ملايين نصراني!… وفي المقابل دارت الحرب في جزيرة العرب عند بداية الإسلام بين المسلمين والمشركين وانتصر المسلمون عليهم، في عشرين موقعة هي التي دار فيها قتال.. ما بين سنة 2هـ وسنة 9هـ – هذا الانتصار الذي غير وجه الدنيا والحضارة والتاريخ، كيف أن ضحايا كل هذه المعارك من الفريقين لم تتجاوز 386 قتيلا 183 هم مجموع شهداء المسلمين و203 هم كل قتلى المشركين وعندما حكم الإسلام بعد ذلك لم تقم حرب عالمية أولى ولا ثانية ولا ثالثة.. فأي دين أعظم وأرحم من دين الإسلام؟
ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبا هذا التفاوت بيننا *** فكل إناء بما فيه ينضح
فاللهم ردنا إلى دينك رداً جميلا… قلت قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(2)
فإذا كانت سماحة الإسلام مع غير المسلمين بهذه العظمة والسمو فإن السماحة بين المسلمين أنفسهم يجب أن ترتقي أعلاء من ذلك فالمجتمع المسلم يجب أن يعيش أبناءه في حب وتسامح وتراحم وأن يسود حياتهم اللين والسهولة واليسر، إن العنف والشدة والحقد ودوافع الانتقام والكراهية تنذر بالهلاك، فتقطع الأرحام وتكثر الصراعات وتنزع الرحمة ويحل الشقاء ويذهب الخير بين الناس وتقوض مجتمعات بسبب ذلك وتتلاشى أمم وتنهار حضارات… وإِنَّ من طبيعة النفس البشرية بغض الإنسان غليظ الطباع قاسي القلب سريع الغضب فجاء الإسلامِ بالتيسير والرفق فكان سمَة عَظِيمَة ظاهرة، تتجلَّى في عقائدِه وعباداتِه ومعاملاتِه وأخلاقِه، وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَا خُيِّرَ – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتَهَك حُرمةُ الله؛ فينتقم لله – تعالى -[متفقٌ عليه].. ألا فلننشر السماحة والتسامح فيما بيننا ولنعفو عن بعضنا البعض ولنجعل علاقاتنا قائمة على السهولة واليسر في بيعنا وشرائنا واختلافنا وحوارنا وذهابنا وإيابنا.. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من كان سهلاً ليناً هيناً حرمه الله على النار)) صحيح الجامع، وقال: ((ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً، على كل لين قريب سهل)).. وقال – صلى الله عليه وسلم -: (( رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)) (رواه البخاري) إن السماحة منهج أمة ودستور حياة للمسلمين وليست شعارات جوفاء وأخلاق بعيدة عن الواقع أمر بها الإسلام ودعا إليها القرآن وبها سعادة الإنسان ورضا الرحمن…
والحمد لله رب العالمين.
المصدر: المختار الإسلامي