واقعة الأسراء والمعراج
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (الإسراء:1)
هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع سورة الإسراء, وهي سورة مكية, وآياتها مائة واحدي عشرة(111) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالتأكيد علي معجزة الإسراء برسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلي المسجد الأقصى في القدس الشريف, ثم العروج به ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من المسجد الأقصى إلي سدرة المنتهي, مرورا بالسماوات السبع, حيث التقي بسكانها سماء تلو سماء, حتى شرف بالمثول بين يدي خالقه ـسبحانه وتعالي ـ ففرض عليه وعلي أمته خمس صلوات في كل يوم وليلة, ثم أرجع ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي بيت المقدس ليؤم جميع الأنبياء والمرسلين في صلاة, وليعود إلي بيته في مكة المكرمة فيجد فراشه لا يزال دافئا منذ تركه, لأن الله ـ تعالي ـ أوقف له الزمن, كما طوي مسافات الكون الشاسعة, فتمت المعجزة بغير زمان ولا مكان, والله ـ تعالي ـ قادر علي كل شيء, وعلي أن يفعل ما يشاء دون أسباب.
وقد كان في هذه الرحلة من التكريم لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ ما لم ينله مخلوق من قبل, ولا من بعد.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الإسراء حول قضية العقيدة الإسلامية, ولذلك بدأت بقول الحق ـ تبارك وتعالي: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (الإسراء:1) ثم تنتقل السورة الكريمة إلي الحديث عن التوراة, ذلك الكتاب الذي آتاه الله ـ سبحانه وتعالي ـ عبده ونبيه موسي بن عمران لكي يكون هدي لبني إسرائيل فانصرفوا عنه.
ثم تمتدح سورة الإسراء القرآن الكريم, ذلك الكتاب الخاتم الذي أنزله الله ـ تعالي ـ بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه فتم حفظه في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا, وتعهد ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم حجة الله ـ تعالي ـ علي خلقه إلي قيام الساعة فتقول الآية التاسعة من هذه السورة المباركة:: ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ ( الإسراء:9).
وتقرر الآيات بعد ذلك أن الله ـ تعالي ـ قد أعد للذين لا يؤمنون بالآخرة عذابا أليما, وأن الإنسان في طبعه شيء من الاندفاع والعجلة, ومن المبادرة بالدعاء بالشر قبل الدعاء بالخير, علما بأن الله ـ تعالي ـ قد فصل له كل شيء, كما تقرر الآيات المسئولية الفردية في الهدي والضلال, وذلك بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ: ولا تزر وازرة وزر أخري, وأن الله ـ سبحانه وتعالي ـ لا يعذب أحدا دون إنذار فقال: ﴿…وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ ( الإسراء:15).
كذلك تقرر الآيات في سورة الإسراء قاعدة التبعية الجماعية في التصرفات والسلوك, وتحذر من الترف المخل الذي يؤدي إلي الفسوق, ومن ثم إلي التدمير والهلاك, كما تحذر من الإقبال علي الدنيا ونسيان الآخرة, ومن عواقب ذلك, وتدعو إلي السعي للآخرة مع الإيمان الكامل بحتمية وقوعها, مؤكدة أن الله ـ تعالي ـ يمد بعطائه الدنيوي كلا من المؤمنين والكافرين, وأن التفاضل في درجات الآخرة أكبر وأعظم من التفاضل في أمور الدنيا.
وتحذر الآيات من أخطار الشرك بالله, مؤكدة أن الواقع في هذه الكبيرة مذموم مخذول, وأن الله ـ سبحانه وتعالي ـ قد قضي بألا يعبد سواه, وتثني بعد ذلك بالحض علي بر الوالدين, وإيتاء ذوي القربى, والمساكين, وأبناء السبيل في غير إسراف ولا تبذير, وتأمر بتحريم كل من قتل الذرية, والاقتراب من جريمة الزنا, والقتل بغير الحق تحريما قاطعا, كما تأمر برعاية مال اليتيم, وبالوفاء بالعهود, و بتوفية كل من الكيل والميزان, وبالمسئولية عن الحواس, وتنهي عن الخيلاء والكبر, وتكرر التحذير من الشرك, مؤكدة أن جزاء الواقع فيه هو الخلود في جهنم مذموما مدحورا.
وتستنكر الآيات في سورة الإسراء فرية الولد والشريك لله ـ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا ـ مبينة ما فيها من اضطراب وتهافت, وكفر وشرك, ومقررة توحيد الكون كله لله ـ تعالي ـ وخضوع كل من فيه لذات الله العلية بالعبادة والتسبيح والتقديس والتنزيه عن كل وصف لا يليق بجلاله.
ثم تنتقل الآيات إلي الحديث عن أوهام الوثنية الجاهلية المشركة حول نسبة البنات والشركاء إلي الله ـ تعالي ـ وإلي موقف كفار قريش ـ وموقف الكفار والمشركين من بعدهم في كل زمان ومكان ـ من الاستماع إلي القرآن الكريم وهم يجاهدون أنفسهم في صم آذانهم عنه, وإغلاق عقولهم عن الإنصات إلي حجيته, وصد قلوبهم عن التحرك بما نزل فيه من الحق, وصرف فطرته عن أن تستجيب لندائه الصادق.
وبعد ذلك تستعرض الآيات في هذه السورة المباركة موقف الكفار والمشركين من إنكار نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وإنكار البعث, مؤكدة نزغ الشيطان بين الناس وعداوته لهم, وعلي أن الله ـ تعالي ـ هو المتصرف في شئون الخلائق بلا معقب لحكمه, وأنه ـ تعالي ـ أعلم بمن في السماوات والأرض, وقد فضل بعض النبيين علي بعض, وأن دور الرسول منحصر في التبليغ عن ربه ـ سبحانه وتعالي ـ وفي الإنذار والتبشير.
ثم تبين الآيات السبب في أن معجزات الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ لم تكن كلها من قبيل الخوارق المادية التي كذب بها الأولون, فمعجزته الخالدة هي القرآن الكريم, والخوارق المادية شهادة علي من رآها من الناس, والقرآن باق إلي ما شاء الله, كما تتناول الآيات في سورة الإسراء تكذيب المشركين لما رآه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في رحلة الإسراء والمعراج, ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس وإعلانه أنه سيكون حربا علي ذرية آدم, وتعقب الآيات بتخويف البشر من عذاب الله, وتذكيرهم بنعمه عليهم, وبتكريمه للإنسان, وبمصائرهم في يوم القيامة.
ويأتي في الجزء الأخير من هذه السورة المباركة استعراض كيد المشركين لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه, ومحاولة إخراجه من مكة المكرمة, ولو أخرجوه قسرا قبل أن يأذن له الله ـ تعالي ـ بذلك لحل بهم العذاب والهلاك الذي حل بالأمم من قبلهم حين أخرجوا رسلهم أو قاتلوهم أو قتلوهم.
وتأمر الآيات هذا النبي الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ بالاستمرار في طريقه متعبدا لله ـ تعالي ـ بما أمر, داعيا إياه ـ سبحانه ـ أن يحسن مدخله ومخرجه, وأن يعلن مجيء الحق وظهوره, وزهوق الباطل وانحداره, مؤكدا أن هذا القرآن فيه شفاء وهدي للمؤمنين, بينما الإنسان علمه قليل, وقدراته محدودة.
وتختم هذه السورة الكريمة كما بدأت بحمد الله, وبتقرير وحدانيته( بلا شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد) وتنزهه عن الحاجة إلي الولي والنصير, وهو العلي الكبير المتعال, فتقول آمرة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ والمؤمنين به بأمر الله القائل: قل أدعو الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسني ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا* وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا( الإسراء:111,110).
من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة الإسراء:
1 ـ ضرورة تنزيه الله ـ تعالي ـ عن كل وصف لا يليق بجلاله.
2 ـ الإيمان بقدسية كل من المسجد الحرام والمسجد الأقصى, وضرورة تطهيرهما من دنس الكفار والمشركين, والمحافظة علي وجودهما بأيدي المسلمين, والدفاع عنهما بالنفس والنفيس.
3 ـ التسليم بما جاء عن رحلة الإسراء والمعراج, وما اطلع عليه المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ أثناءها من أحداث ومرائي عديدة.
4 ـ اليقين في أن الله ـ تعالي ـ هو رب السماوات والأرض ومن فيهن, وهو قيوم السماوات والأرض ومن فيهن, المهيمن علي الوجود كله, الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر, والذي يرحم من يشاء ويعذب من يشاء, وأنه ـ تعالي ـ هو السميع البصير الخبير, وهو الحليم الودود الغفور, وأنه ـ تعالي ـ ما كان معذبا أحدا حتى يبعث رسولا, وأن الكون بجميع من فيه وما فيه يخضع له ـ سبحانه وتعالي ـ بالعبادة والطاعة والتسبيح إلا عصاة الإنس والجن.
5 ـ الإيمان بأن التوراة أنزلت بالتوحيد الكامل لله ـ تعالي ـ الذي أيد عبده ورسوله موسي ـ عليه السلام ـ بتسع آيات بينات, كفر بها فرعون وجنده فأغرقهم الله أجمعين, ولذلك فإن توحيد الله ـ تعالي ـ واجب علي كل العباد, نزلت به كل الشرائع, ومن هنا كان الشرك بالله كفرا به, وكان من موجبات الذم والخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة, وبالإلقاء في جهنم باللوم والدحور, حيث لا يملك الذين أشركوا بهم كشف الضر عنهم أو تحويله.
6 ـ التصديق بأن إفساد بني إسرائيل في الأرض وعلوهم فيها هو مرتان فقط, مضت أولاهما بطردهم من جزيرة العرب, وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿…فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ﴾ ( الإسراء:7).
7 ـ اليقين بأن جهنم هي مثوى الكافرين الضالين المنكرين للبعث, أو الجاحدين لبعثة النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ.
8 ـ التسليم بأن القرآن الكريم قد أنزل بالحق, وأنه: ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ ( الإسراء:9).
وأنه كذلك هو: ﴿…شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً ﴾ ( الإسراء:82).
وأن هذا الكتاب معجز لا تقوي قوة علي وجه الأرض أن تأتي بشيء من مثله: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ ( الإسراء:88).
9 ـ الإيمان بأن كل إنسان مسئول مسئولية كاملة عن أعماله, وأنه سوف يسلم كتابا تفصيليا بتلك الأعمال في يوم القيامة حتى يكون حسيبا علي نفسه: ﴿…عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى… ﴾ ( الإسراء:15).
10 ـ التصديق بأن الترف المسرف هو من موجبات التدمير الذي حدث للعديد من الأمم السابقة, وأن السعي المشكور هو السعي للآخرة, مع عدم إهمال مسئولية الفرد في الحياة الدنيا, وأن التفاضل في السعي للآخرة أكبر من التفاضل في جمع ماديات الدنيا, وأن البعث بعد الموت حتمي وضروري.
11 ـ التسليم بأن الإنسان مخلوق مكرم, خلقه الله ـ تعالي ـ بيديه, ونفخ فيه من روحه, وعلمه من علمه, وأدخله جنته, وأسجد له الملائكة, وفضله علي كثير من خلقه, وأن الشيطان عدو مبين للإنسان.
12 ـ اليقين بأن مهمة الأنبياء والمرسلين هي التبيلغ عن الله ـ تعالي ـ والإنذار والتبشير, وأن الله ـ جل شأنه ـ قد فضل بعض النبيين علي بعض, وآتي داود كتابا اسمه الزبور.
13 ـ التصديق بأن كل أناس في الآخرة سوف يدعون بإمامهم: ﴿…فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ ( الإسراء:71).
14 ـ الإيمان بأن الروح غيب لا يعلمه إلا الله ـ تعالي ـ وعلي ذلك فلا يجوز الخوض في أمر الروح.
15 ـ التسليم بأن الله ـ تعالي ـ هو المستحق للحمد وللتكبير, وأنه ـ سبحانه وتعالي ـ منزه عن الشريك, والشبيه, والمنازع, والصاحبة والولد, وعن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله: ﴿ وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾ ( الإسراء:111).
من التشريعات الإسلامية في سورة الإسراء:
1 ـ التأكيد علي أن بر الوالدين فريضة إسلامية, ومن أعظم الطاعات لله, ومن موجبات رحمته ومغفرته, وكذلك إيتاء ذي القربى حقه, والمسكين, وابن السبيل, وعدم التبذير والإسراف; وعدم البخل والتقتير, فكل ذلك من الصفات المذمومة في الإنسان.
2 ـ تحريم قتل الأولاد خشية الإملاق.
3 ـ النهي القاطع عن الاقتراب من الزنا, ومن جميع مقدماته:﴿…إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾( الإسراء:32).
4 ـ النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وعن الإسراف في الثأر لذلك.
5 ـ النهي عن أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتي يبلغ أشده.
6 ـ الأمر بالوفاء بالعهد وبتأكيد المسئولية عنه, وبالوفاء بكل من الكيل والميزان.
7 ـ الأمر بالمحافظة علي الحواس ـ مثل: السمع والبصر والفؤاد ـ والتأكيد علي مسئولية الإنسان عن حواسه.
8 ـ النهي عن الاختيال والزهو بالنفس, وعن الاستعلاء والاستكبار في الأرض.
9 ـ الأمر بإقامة الصلاة لدلوك الشمس إلي غسق الليل, وبتلاوة القرآن في الفجر; لأن: قرآن الفجر كان مشهودا( الإسراء:78), وبالتهجد به نافلة بالليل.
من الإشارات الكونية في سورة الإسراء:
1 ـ التأكيد علي وقوع معجزة الإسراء والمعراج.
2 ـ الإشارة إلي آيتي الليل والنهار ـ أي نورهما ـ حيث كان الليل ينار بظاهرة بقي منها اليوم ما يعرف باسم( ظاهرة الفجر القطبي), وكان النهار ينار ـ كما ينار اليوم ـ بالحزمة المرئية من ضوء الشمس, فمحا الله ـ تعالي ـ نور الليل بنطق الحماية المتعددة التي خلقها للأرض, وأبقي ظاهرة الفجر القطبي دلالة علي ذلك.
3 ـ الإشارة إلي ما وهب الله ـ سبحانه وتعالي ـ الماء من قدرات تمكنه من حمل الفلك في البحر بقانون الطفو.
4 ـ الإشارة إلي تسبيح كل شيء في هذا الوجود لله ـ سبحانه وتعالي ـ ما عدا عصاة كل من الجن والإنس. وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ ( الإسراء:44).
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك سأركز في المقال القادم إن شاء الله ـ تعالي ـ علي الإعجاز العلمي والتاريخي في معجزة الإسراء والمعراج.
هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع سورة الإسراء, وهي سورة مكية, وآياتها مائة واحدي عشرة(111) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالتأكيد علي معجزة الإسراء برسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلي المسجد الأقصى في القدس الشريف, وقد تلا ذلك العروج به إلي سدرة المنتهي, كما جاء في مطلع سورة النجم, مرورا بالسماوات السبع وسكانها حتى شرف بالمثول بين يدي خالقه ـ سبحانه وتعالي ـ ففرض عليه وعلي أمته خمس صلوات في اليوم والليلة, ثم أرجع ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي بيت المقدس ليؤم جميع الأنبياء والمرسلين في صلاة, وبعد ذلك يعود إلي بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا منذ أن تركه, لأن الله ـ تعالي ـ أوقف له الزمن, كما طوي له مسافات الكون الشاسعة, فتمت المعجزة بلا زمان ولا مكان, والله ـ تعالي ـ قادر علي أن يفعل ما يشاء دون أسباب, وقد كان في هذه المعجزة من التكريم لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما لم ينله مخلوق من قبل ولا من بعد. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة الإسراء, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والتشريعات الإسلامية, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز العلمي والتاريخي في واقعة الإسراء والمعراج, والدروس والعبر المستقاة منها.
من الإعجاز العلمي والتاريخي في واقعة الإسراء والمعراج:
هذه الآية الكريمة تؤكد واقعة الإسراء, وهي واقعة تاريخية لم ينكرها كفار قريش, وإن تعجبوا من كيفية وقوعها. فقد روي القاضي عياض في كتابه المعنون الشفا بتعريف حقوق المصطفي أن حادثة الإسراء والمعراج كانت قبل هجرته الشريفة بسنة, وأنه لما رجع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من رحلته المعجزة أخبر قومه بذلك في مجلس حضره من صناديد قريش كل من المطعم بن عدي, وعمرو بن هشام, والوليد بن المغيرة, فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ: إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد, وصليت به الغداة, وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس, فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم, وموسي, وعيسي, وصليت بهم وكلمتهم.
فقال عمرو بن هشام مستهزئا: صفهم لي, فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ: أما عيسي ففوق الربعة, ودون الطول, عريض الصدر, ظاهر الدم, جعد أشعر تعلوه صهبة( أي بياض بحمرة), كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسي فضخم آدم طوال, كأنه من رجال شنوءة, متراكب الأسنان, مقلص الشفة, خارج اللثة, عابس, وأما إبراهيم فو الله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا. فقالوا: يا محمد! فصف لنا بيت المقدس, قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ: دخلت ليلا وخرجت منه ليلا, فأتاه جبريل بصورته في جناحه, فجعل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يصفه لهم قائلا: باب منه كذا, في موضع كذا, وباب منه كذا, في موضع كذا.
ثم سألوه عن عيرهم( أي قوافل إبلهم), فقال لهم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: أتيت علي عير بني فلان بالروحاء, قد أضلوا ناقة لهم, فانطلقوا في طلبها, فانتهيت إلي رحالهم ليس بها منهم أحد, وإذا بقدح ماء فشربت منه, فاسألوهم عن ذلك قالوا: هذه والإله آية. وأضاف ـ صلي الله عليه وسلم ـ قوله: ثم انتهيت إلي عير بني فلان, فنفرت مني الإبل, وبرك منها جمل أحمر, عليه جوالق( وهو العدل الذي يوضع فيه المتاع) مخطط ببياض, لا أدري أكسر البعير, أم لا, فاسألوهم عن ذلك, ـ قالوا: هذه والإله آية. وأضاف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قائلا: ثم انتهيت إلي عير بني فلان في التنعيم, يقدمها جمل أورق( أي لونه أبيض وفيه سواد), وها هي تطلع عليكم من الثنية, فقال الوليد بن المغيرة: ساحر; فانطلقوا فنظروا, فوجدوا الأمر كما قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ وبدلا من أن يصدقوه, رموه بالسحر ـ شرفه الله عن ذلك ـ مضيفين إلي بهتانهم هذا قولهم الباطل: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال. وتسارعوا إلي أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قائلين: هل لك إلي صاحبك, يزعم أنه أسري به الليلة إلي بيت المقدس, فقال أبو كر: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم, قال: لئن كان قال ذلك فقد صدق, قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلي بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر: نعم, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. ولذلك لقب أبو بكر بلقب الصديق.( المستدرك للحاكم).
وهذا الحديث الصحيح هو وثيقة تاريخية علي وقوع حادثة الإسراء, أما حادثة المعراج فقد أكدتها الآيات(1 ـ18) في مطلع سورة النجم, وهي من خوارق المعجزات التي أخبرنا بها الله ـ سبحانه وتعالي ـ في محكم كتابه وهو خير الشاهدين.
ومن الدروس المستفادة من هذه المعجزة الكبرى ما يلي:
أولا: الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود والتي أسرت برسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من مكة المكرمة إلي بيت المقدس, ثم عرجت به إلي سدرة المنتهي عبر السماوات السبع, ثم رجعت به أعادته إلي بيت المقدس ليصلي إماما بجميع أنبياء الله تأكيدا لمقامه ـ صلي الله عليه وسلم ـ ثم رجعت به إلي بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا. فقد أوقف الله ـ تعالي ـ له الزمن, وطوي المكان, ولا يقدر علي ذلك إلا رب العالمين.
ولكي ندرك ضخامة هذه المسافات أقول إن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تزيد علي25 بليون سنة ضوئية, والسنة الضوئية تقدر بنحو(9.5 مليون مليون كم). بمعني أنه لو تمكن الإنسان من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء, وهذا مستحيل, فإنه سوف يحتاج إلي25 بليون سنة ليصل إلي آخر ما نري من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سماوات فوق ذلك إلي سدرة المنتهي, حيث شرف المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بالمثول بين يدي ربه, وتلقي منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة عليه وعلى أمته.
ثانيا: الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ الذي خلق كلا من المادة والطاقة, والمكان والزمان, هو فوق ذلك كله, ومنزه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, فلا تحده حدود المكان والزمان, ولا حدود المادة والطاقة, وهو ـ تعالي ـ قادر علي إيقاف الزمن, وطي المكان, كما أنه قادر علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه.
ثالثا: التأكيد علي مقام رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عند رب العالمين, فهو أحب خلق الله إلي الله ـ تعالي ـ, ولذلك أوصله إلي مقام لم يصل إليه غيره من البشر, والتأكيد علي مقامه ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين, وهو خاتمهم أجمعين, ولذلك صلي بهم إماما تأكيدا علي قيادته وريادته لهم, وعلي نسخ شريعته الخاتمة لجميع شرائعهم. وفي ذلك إشارة إلي من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين إلي ضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم وبالقرآن الكريم الذي أوحي إليه وإتباع الدين الذي جاء به، كما تبعه جميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بالمسجد الأقصى, إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين, وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة علي جميع الخلق.
رابعا: الإيمان بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا, وهي قيم إسلامية أكدتها إمامة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ لجميع أنبياء الله ورسله ـ علي اختلاف أعراقهم, ولغاتهم, وألوان بشراتهم ـ وعالم اليوم المضطرب بالعديد من الفتن والمظالم, والغارق في بحار من الدماء والأشلاء, والذي يعاني من الإفساد والخراب والدمار في كل مجال, ما أحوجه إلي استعادة هذه القيم الربانية من جديد!!
خامسا: التأكيد علي حرمة كل من مكة المكرمة وبيت المقدس. فقد سئل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عن أول مسجد عبد الله ـ تعالي ـ فيه في الأرض قال: الكعبة. قيل ثم أي, قال: المسجد الأقصى, قيل وكم كان بينهما؟ قال: أربعون عاما.
ومن الثابت أن الله ـ تعالي ـ خلق أرض مكة المكرمة كأول جزء من اليابسة, ودحيت منها الأرض( أي مدت) وأمر ملائكته ببناء الكعبة المشرفة في الحرم المكي استعدادا لمقدم أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ وكان ذلك في بدء خلق السماوات والأرض, وعندما وصل مد اليابسة إلي مكان المسجد الأقصى أمر الله ملائكته ببناء المسجد الأقصى فتم بناؤه بعد بناء الكعبة المشرفة بأربعين سنة.
وأنزل الله أبوينا آدم وحواء في مكة المكرمة ثم أسكن عددا من أنبيائه في أرض فلسطين والأردن, وأمر إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يضع زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل في مكان البيت حتى يأتي من نسله خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ ليلتقي أول النبوة بخاتمها, ثم يسري بخاتم أنبيائه من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى تأكيدا علي وحدة رسالة السماء, وعلي الأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا.
سادسا: التأكيد علي فضل الصلاة التي فرضت من الله ـ تعالي ـ مباشرة إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهي علي ذلك معراج المسلم إذا أدي حقها بالخشوع والاطمئنان, ومن هنا كانت آخر ما أوصي به رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قبل وفاته.
سابعا: الإيمان بجميع المرائي التي اطلع عليها رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في أثناء رحلته المعجزة انطلاقا من الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ هو خالق كل من الزمان والمكان, وأن كلا من الماضي والحاضر والمستقبل عنده كله حاضر.
ثامنا: الإيمان بالغيوب المطلقة التي أخبر عنها القرآن الكريم, ومنها الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, وبحتمية الآخرة, وما فيها من الحساب والجزاء, والجنة والنار, والبيت المعمور, وسدرة المنتهي, وعظمة البناء الكوني وضخامة أبعاده.
تاسعا: التأكيد علي ضرورة الالتجاء إلي الله ـ تعالي ـ في كل شدة, واليقين بأنه ليس بعد العسر إلا اليسر, لأن التكريم العظيم الذي لقيه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في رحلة الإسراء والمعراج جاء بعد عام الحزن الذي كان رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد فقد فيه كلا من زوجه أم المؤمنين السيدة خديجة ـ عليها رضوان الله ـ وعمه أبو طالب, فاشتدت وطأة كفار ومشركي قريش عليه حتى أخرجوه من مكة, فلجأ إلي أهل الطائف فأغروا به جهالهم الذين أدموا قدميه الشريفتين, فوقف في الطريق بين الطائف ومكة يناجي ربه بمناجاة تهز القلب والعقل معا, ثم دخل مكة بجوار( أي في حماية) أحد كبار مشركيها, ثم جاءت معجزة الإسراء والمعراج تكريما وتشريفا خاصا له ـ صلي الله عليه وسلم ـ من دون الخلائق, ليطلعه ربه ـ تبارك وتعالي ـ علي عوالم من الغيب لم يرها غيره من البشر, بما في ذلك الأنبياء والمرسلون الذين بعثهم الله ـ تعالي ـ جميعا لمبايعته علي إمامتهم وقدوتهم وختام بعثتهم في تلقي وحي السماء.
عاشرا: التأكيد علي أخطار المفاسد السلوكية علي الإنسان أفرادا ومجتمعات, وعلي شدة العقوبة عليها في الآخرة تحريما لها, ومنعا للوقوع فيها. فقد شاهد رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من المرائي في رحلة المعراج ما يفزع من الوقوع في أي منها, فقد رأي عقوبات عدد من الجرائم مثل الزنا, ومنع الزكاة, والوقوع في الغيبة والنميمة, وأكل أموال اليتامى ظلما, وأكل الربا, وأكل أموال الناس بالباطل, كما رأي عقاب وخطباء الفتنة, وجزاء تضييع الأمانة, وغير ذلك من الجرائم. ولو أدرك عقلاء الناس هول العقاب علي كل جريمة من هذه الجرائم ما وقعوا في أي منها.
كذلك رأي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في أثناء عروجه في السماوات العلي بعض ثواب المجاهدين في سبيل الله الذين تضاعف لهم حسناتهم الحسنة بسبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة… والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
هذه بعض الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج, وهي بالإضافة إلي كونها معجزة كونية, فإنها تبقي من أعظم الأحداث في تاريخ البشرية التي سجلتها الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم : د زغلول النجار
المصدر : http://www.elnaggarzr.com