وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ (النازعات)
جاءت هذه الآية الكريمة في مطلع الربع الأخير من سورة النازعات, وهي سورة مكية, تعني كغيرها من سور القرآن المكي بقضية العقيدة, ومن أسسها الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, واليوم الآخر, وغالبية الناس منشغلين عن الآخرة وأحوالها, والساعة وأهوالها, وعن قضايا البعث, والحساب, والجنة, والنار وهي محور هذه السورة.
وتبدأ السورة الكريمة بقسم من الله( تعالي) بعدد من طوائف ملائكته الكرام, وبالمهام الجسام المكلفين بها, أو بعدد من آياته الكونية المبهرة, علي أن الآخرة حق واقع, وأن البعث والحساب أمر جازم, وربنا( تبارك وتعالي) غني عن القسم لعباده, ولكن الآيات القرآنية تأتي في صيغة القسم لتنبيه الناس إلي خطورة الأمر المقسم به, وأهميته أو حتميته.
ثم تعرض الآيات لشيء من أهوال الآخرة مثل( الراجفة والرادفة) وهما الأرض والسماء وكل منهما يدمر في الآخرة, أو النفختان الأولي التي تميت كل حي, والثانية التي تحيي كل ميت بإذن الله, وتنتقل الآيات إلي وصف حال الكفار, والمشركين, والملاحدة, المتشككين, العاصين لأوامر رب العالمين في ذلك اليوم الرهيب, وقلوبهم خائفة وجلة, وأبصارهم خاشعة ذليلة, بعد أن كانوا ينكرون البعث في الدنيا, ويتساءلون عنه استبعادا له, واستهزاء به: هل في الإمكان ان نبعث من جديد بعد أن تبلي الأجساد, وتنخر العظام؟ وترد الآيات عليهم حاسمة قاطعة بقرار الله الخالق أن الأمر بالبعث صيحة واحدة فإذا بكافة الخلائق قيام يبعثون من قبورهم ليواجهوا الحساب, أو كأنهم حين يبعثون يظنون أنهم عائدون للدنيا مرة ثانية فيفاجأون بالآخرة…
وبعد ذلك تلمح الآيات إلي قصة موسي( عليه السلام) مع فرعون وملئه, من قبيل مواساة رسولنا( صلي الله عليه وسلم) في الشدائد التي كان يلقاها من الكفار, وتحذيرهم مما حل بفرعون وبالمكذبين من قومه من عذاب, وجعل ذلك عبرة لكل عاقل يخشي الله( تعالي) ويخاف حسابه.
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلي منكري البعث من كفار قريش وإلي الناس عامة بسؤال تقريعي توبيخي: هل خلق الناس ـ علي ضآلة أحجامهم, ومحدودية قدراتهم, وأعمارهم, وأماكنهم من الكون ـ أشد من خلق السماء وبنائها, ورفعها بلا عمد مرئية إلي هذا العلو الشاهق ـ مع ضخامة أبعادها, وتعدد أجرامها, ودقة المسافات بينها, وإحكام حركاتها, وتعاظم القوي الممسكة بها؟ ـ وإظلام ليلها, وإنارة نهارها؟ وأشد من دحو الأرض, وإخراج مائها ومرعاها منها بعد ذلك, وإرساء الجبال عليها, وإرساء الأرض بها, تحقيقا لسلامتهم وأمنهم علي سطح الأرض, ولسلامة أنعامهم ومواشيهم.
وبعد الإشارة إلي بديع صنع الله في خلق السماوات والأرض كدليل قاطع علي إمكانية البعث عاودت الآيات الحديث عن القيامة وسمتها( بالطامة الكبري) لأنها داهية عظمي تعم بأهوالها كل شيء, وتغطي علي كل مصيبة مهما عظمت, وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان أعماله من الخير والشر, ويراه مدونا في صحيفة أعماله, وبرزت جهنم للناظرين, فرآها كل إنسان عيانا بيانا, وحينئذ ينقسم الناس إلي شقي وسعيد, فالشقي هو الذي جاوز الحد في الكفر والعصيان, وفضل الدنيا علي الآخرة, وهذا مأواه جهنم وبئس المصير, والسعيد هو الذي نهي نفسه عن اتباع هواها انطلاقا من مخافة مقامه بين يدي ربه يوم الحساب, وهذا مأواه ومصيره إلي جنات النعيم بإذن الله.
وتختتم السورة بخطاب إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) متعلق بسؤال كفار قريش له عن الساعة متي قيامها؟, وترد الآيات بأن علمها عندالله الذي استأثر به, دون كافة خلقه, فمردها ومرجعها إلي الله وحده, وأما دورك أيها النبي الخاتم والرسول الخاتم فهو إنذار من يخشاها, وهؤلاء الكفار والمشركون يوم يشاهدون قيامها فإن هول المفاجأة سوف يمحو من الذاكرة معيشتهم علي الأرض, فيرونها كأنها كانت ساعة من ليل أو نهار, بمقدار عشية أو ضحاها, احتقارا للحياة الدنيا, واستهانة بشأنها أمام الآخرة, ويأتي ختام السورة متوافقا مع مطلعها الذي أقسم فيه ربنا( تبارك وتعالي) علي حقيقة البعث وحتميته, وأهواله وخطورته, لزيادة التأكيد علي أنه أخطر حقائق الكون وأهم أحداثه, لكي يتم تناسق البدء مع الختام, وهذا من صفات العديد من سور القرآن الكريم.
وهنا يبرز التساؤل عن معني دحو الأرض, وعلاقته بإخراج مائها ومرعاها, ووضعه في مقابلة مع بناء السماء ورفعها ـ علي عظم هذا البناء وذلك الرفع كصورة واقعة لطلاقة القدرة المبدعة في الخلق, وقبل التعرض لذلك لابد من استعراض الدلالة اللغوية للفظة الدحو الواردة في الآية الكريمة:
الدلالة اللغوية لدحو الأرض
(الدحو) في اللغة العربية هو المد والبسط والإلقاء, يقال:( دحا) الشيء( يدحوه)( دحوا) أي بسطه ومده, أو ألقاه ودحرجه, ويقال:( دحا) المطر الحصي عن وجه الأرض أي دحرجه وجرفه, ويقال: مر الفرس( يدحو)( دحوا) إذا جر يده علي وجه الأرض فيدحو ترابها و(مدحي) النعامة هو موضع بيضها, و(أدحيها) موضعها الذي تفرخ فيه.
شروح المفسرين للآية الكريمة:
في شرح الآية الكريمة:(والأرض بعد ذلك دحاها) ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه: فسره بقوله تعالي(أخرج منها ماءها ومرعاها), وقد تقدم في سورة فصلت أن الأرض خلقت قبل خلق السماء, ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء بمعني أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلي الفعل, عن ابن عباس(دحاها) ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعي, وشقق فيها الأنهار, وجعل فيها الجبال والرمال, والسبل والآكام, فذلك قوله:(والأرض بعد ذلك دحاها)….
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله):( والأرض بعد ذلك دحاها) أي بسطها ومهدها لتكون صالحة للحياة, وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو.(أخرج) حال بإضمار قد أي: دحاها مخرجا( منها ماءها ومرعاها) بتفجير عيونها, و(مرعاها) ماترعاه النعم من الشجر والعشب, ومايأكله الناس من الأقوات والثمار, وإطلاق المرعي عليه استعارة.
وذكر صاحب الظلال(يرحمه الله): ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها, بحيث تصبح صالحة للسير عليها, وتكوين تربة تصلح للإنبات,…, والله أخرج من الأرض ماءها سواء مايتفجر من الينابيع, أو ماينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر; وأخرج من الأرض مرعاها, وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام, وتعيش عليه الأحياء مباشرة أو بالواسطة..وجاء في( صفوة البيان لمعاني القرآن):’ ودحا الأرض ـ بمعني بسطها ـ وأوسعها, بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء, ورفع سمكها, وتسويتها, وإغطاش ليلها, وإظهار نهارها, وقد بين الله الدحو بقوله:(أخرج منها ماءها) بتفجير العيون, وإجراء الأنهار والبحار العظام.( ومرعاها) أي جميع مايقتات به الناس والدواب بقرينة قوله بعد:(متاعا لكم ولأنعامكم)…….. وأخبرنا بعد ذلك بأنه هو الذي بسط الأرض, ومهدها لسكني أهلها ومعيشتهم فيها: وقدم الخبر الأول لأنه أدل علي القدرة الباهرة لعظم السماء, وانطوائها علي الأعاجيب التي تحار فيها العقول. فبعدية الدحو إنما هي في الذكر لا في الإيجاد, وبجعل المشار إليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليها لا أنفسها, لايكون في الآية دليل علي تأخر الدحو عن خلق السماوات وما فيها…..’.
وجاء في(صفوة التفاسير):(والأرض بعد ذلك دحاها) أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهدها لسكني أهلها(أخرج منها ماءها ومرعاها) أي أخرج من الأرض عيون الماء المتفجرة, وأجري فيها الأنهار, وأنبت فيها الكلأ والمرعي مما يأكله الناس والأنعام’.
وجاء في(المنتخب في تفسير القرآن الكريم):’ والأرض بعد ذلك بسطها ومهدها لسكني أهلها, وأخرج منها ماءها بتفجير عيونها, وإجراء أنهارها, وإنبات نباتها ليقتات به الناس والدواب..
وهذا الاستعراض يدل علي أن المفسرين السابقين يجمعون علي أن من معاني دحو الأرض هو إخراج الماء والمرعي من داخلها, علي هيئة العيون وإنبات النبات.
دحو الأرض في العلوم الكونية
أولا: إخراج كل ماء الأرض من جوفها:
كوكب الأرض هو أغني كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه, ولذلك يطلق عليه اسم( الكوكب المائي) أو( الكوكب الأزرق) وتغطي المياه نحو71% من مساحة الأرض, بينما تشغل اليابسة نحو29% فقط من مساحة سطحها, وتقدر كمية المياه علي سطح الأرض بنحو1360 مليون كيلومتر مكعب(1.36*910); وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه علي سطح الأرض, من أين أتي؟ وكيف نشأ؟
وقد وضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض, تقترح احداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولي من خلق الأرض, وذلك بتفاعل كل من غازي الأيدروجين والأوكسيجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض, وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المذنبات, وتري ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من داخل الأرض.والشواهد العديدة التي تجمعت لدي العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من جوفها, ولايزال خروجه مستمرا من داخل الأرض عبر الثورات البركانية.
ثانيا: إخراج الغلاف الغازي للأرض من جوفها:
بتحليل الأبخرة المتصاعدة من فوهات البراكين في أماكن مختلفة من الأرض اتضح أن بخار الماء تصل نسبته إلي أكثر من70% من مجموع تلك الغازات والأبخرة البركانية, بينما يتكون الباقي من اخلاط مختلفة من الغازات التي ترتب حسب نسبة كل منها علي النحو التالي: ثاني أكسيد الكربون, الإيدروجين, أبخرة حمض الأيدروكلوريك( حمض الكلور), النيتروجين, فلوريد الإيدروجين, ثاني أكسيد الكبريت, كبريتيد الإيدروجين, غازات الميثان والأمونيا وغيرها.
ويصعب تقدير كمية المياه المندفعة علي هيئة بخار الماء إلي الغلاف الغازي للأرض من فوهات البراكين الثائرة, علما بأن هناك نحو عشرين ثورة بركانية عارمة في المتوسط تحدث في خلال حياة كل فرد منا, ولكن مع التسليم بأن الثورات البركانية في بدء خلق الأرض كانت أشد تكرارا وعنفا من معدلاتها الراهنة, فإن الحسابات التي أجريت بضرب متوسط ما تنتجه الثورة البركانية الواحدة من بخار الماء من فوهة واحدة, في متوسط مرات ثورانها في عمر البركان, في عدد الفوهات والشقوق البركانية النشيطة والخامدة الموجودة اليوم علي سطح الأرض أعطت رقما قريبا جدا من الرقم المحسوب بكمية المياه علي سطح الأرض.
ثالثا: الصهارة الصخرية في نطاق الضعف الأرضي هي مصدر مياه وغازات الأرض:
ثبت أخيرا أن المياه تحت سطح الأرض توجد علي أعماق تفوق كثيرا جميع التقديرات السابقة, كما ثبت أن بعض مياه البحار والمحيطات تتحرك مع رسوبيات قيعانها الزاحفة إلي داخل الغلاف الصخري للأرض بتحرك تلك القيعان تحت كتل القارات, ويتسرب الماء إلي داخل الغلاف الصخري للأرض. عبر شبكة هائلة من الصدوع والشقوق التي تمزق ذلك الغلاف في مختلف الاتجاهات, وتحيط بالأرض إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين150,65 كيلومترا.
ويبدو أن الصهارة الصخرية في نطاق الضعف الأرضي هي مصدر رئيسي للمياه الأرضية, وتلعب دورا مهما في حركة المياه من داخل الأرض إلي السطح وبالعكس, وذلك لأنه لولا امتصاصها للمياه ماانخفضت درجة حرارة انصهار الصخور, وهي إذا لم تنصهر لتوقفت ديناميكية الأرض, بما في ذلك الثورات البركانية, وقد ثبت أنها المصدر الرئيسي للغلاف المائي والغازي للأرض.وعلي ذلك فقد أصبح من المقبول عند علماء الأرض أن النشاط البركاني الذي صاحب تكوين الغلاف الصخري للأرض في بدء خلقها هو المسئول عن تكون كل من غلافيها المائي والغازي, ولاتزال ثورات البراكين تلعب دورا مهما في إثراء الأرض بالمياه, وفي تغيير التركيب الكيميائي لغلافها الغازي وهو المقصود بدحو الأرض.
وذلك نابع من حقيقة أن الماء هو السائل الغالب في الصهارات الصخرية علي الرغم من أن نسبته المئوية إلي كتلة الصهارة قليلة بصفة عامة, ولكن نسبة عدد جزيئات الماء إلي عدد جزيئات مادة الصهارة تصل إلي نحو15%, وعندما تتبرد الصهارة الصخرية تبدأ مركباتها في التبلور بالتدريج, وتتضاغط الغازات الموجودة فيها إلي حجم أقل, وتتزايد ضغوطها حتي تفجر الغلاف الصخري للأرض بقوة تصل إلي مائة مليون طن, فتشق ذلك الغلاف وتبدأ الغازات في التمدد, والانفلات من الذوبان في الصهارة الصخرية, ويندفع كل من بخار الماء والغازات المصاحبة له والصهارة الصخرية إلي خارج فوهة البركان أو الشقوق المتصاعدة منها, مرتفعة إلي عدة كيلومترات لتصل إلي كل أجزاء نطاق التغيرات المناخية(8 ـ18 كيلومترا فوق مستوي سطح البحر), وقد تصل هذه النواتج البركانية في بعض الثورات البركانية العنيفة إلي نطاق التطبق(30 ـ80 كيلومترا فوق مستوي سطح البحر وغالبية مادة السحاب الحار الذي تتراوح درجة حرارته بين500,250 درجة مئوية يعاود الهبوط إلي الأرض بسرعات تصل إلي200 كيلومتر في الساعة لأن كثافته أعلي من كثافة الغلاف الغازي للأرض.
والماء المتكثف من هذا السحاب البركاني الحار الذي يقطر مطرا من بين ذرات الرماد التي تبقي عالقة بالغلاف الغازي للأرض لفترات طويلة يجرف معه كميات هائلة من الرماد والحصي البركاني مكونا تدفقا للطين البركاني الحار علي سطح الأرض في صورة من صور الدحو.
ومنذ أيام ثار بركان في احدي جزر الفلبين فغمرت المياه المتكونة أثناء ثورته قرية مجاورة آهلة بالسكان بالكامل.
وقد يصاحب الثورات البركانية خروج عدد من الينابيع, والنافورات الحارة وهي ثورات دورية للمياه والأبخرة شديدة الحرارة تندفع إلي خارج الأرض بفعل الطاقة الحرارية العالية المخزونة في أعماق القشرة الأرضية.
ويعتقد علماء الأرض أن وشاح كوكبنا كان في بدء خلقه منصهرا انصهارا كاملا أو جزئيا, وكانت هذه الصهارة هي المصدر الرئيسي لبخار الماء وعدد من الغازات التي اندفعت من داخل الأرض, وقد لعبت هذه الأبخرة والغازات التي تصاعدت عبر كل من فوهات البراكين وشقوق الأرض ـ ولا تزال تلعب ـ دورا مهما في تكوين وإثراء كل من الغلافين المائي والغازي للأرض وهو المقصود بالدحو.
رابعا: دورة الماء حول الأرض:
شاءت إرادة الخالق العظيم أن يسكن في الأرض هذا القدر الهائل من الماء, الذي يكفي جميع متطلبات الحياة علي هذا الكوكب, ويحفظ التوازن الحراري علي سطحه, كما يقلل من فروق درجة الحرارة بين كل من الصيف والشتاء صونا للحياة بمختلف أشكالها ومستوياتها.
وهذا القدر الذي يكون الغلاف المائي للأرض موزونا بدقة بالغة, فلو زاد قليلا لغطي كل سطحها, ولو قل قليلا لقصر دون الوفاء بمتطلبات الحياة عليها.
ولكي يحفظ ربنا( تبارك وتعالي) هذا الماء من التعفن والفساد, حركه في دورة معجزة تعرف باسم دورة المياه الأرضية تحمل في كل سنة380,000 كيلو متر مكعب من الماء بين الأرض وغلافها الغازي, ولما كانت نسبة بخار الماء في الغلاف الغازي للأرض ثابتة, فإن معدل سقوط الأمطار سنويا علي الأرض يبقي مساويا لمعدل البخر من علي سطحها, وإن تباينت أماكن وكميات السقوط في كل منطقة حسب الارادة الإلهية, ويبلغ متوسط سقوط الأمطار علي الأرض اليوم85,7 سنتيمتر مكعب في السنة, ويتراوح بين11,45 متر مكعب في جزر هاواي وصفر في كثير من صحاري الأرض. وصدق رسول الله( صلي الله عليه وسلم) إذ قال: ما من عام بأمطر من عام.
وإذ قال:… من قال أمطرنا بنوء كذا أو نوء كذا فقد كفر; ومن قال أمطرنا برحمة من الله وفضل فقد آمن.
وتبخر أشعة الشمس من أسطح البحار والمحيطات320,000 كيلو متر مكعب من الماء في كل عام وأغلب هذا التبخر من المناطق الاستوائية حيث تصل درجة الحرارة في المتوسط إلي25 درجة مئوية, بينما تسقط علي البحار والمحيطات سنويا من مياه المطر284,000 كيلو مترا مكعبا, ولما كان منسوب المياه في البحار والمحيطات يبقي ثابتا في زماننا فإن الفرق بين كمية البخر من أسطح البحار والمحيطات وكمية ما يسقط عليها من مطر لابد وأن يفيض إليها من القارات.
وبالفعل فإن البخر من أسطح القارات يقدر بستين ألف كيلو متر مكعب بينما يسقط عليها سنويا ستة وتسعون ألفا من الكيلو مترات المكعبة من ماء المطر والفارق بين الرقمين بالإيجاب هو نفس الفارق بين كمية البخر وكمية المطر في البحار والمحيطات(36,000 كيلو متر مكعب) فسبحان الذي ضبط دورة المياه حول الأرض بهذه الدقة الفائقة.
ويتم البخر علي اليابسة من أسطح البحيرات والمستنقعات, والبرك, والأنهار, وغيرها من المجاري المائية, ومن أسطح تجمعات الجليد, وبطريقة غير مباشرة من أسطح المياه تحت سطح الأرض, ومن عمليات تنفس وعرق الحيوانات, ونتح النباتات, ومن فوهات البراكين.
ولما كان متوسط ارتفاع اليابسة هو823 مترا فوق مستوي سطح البحر, ومتوسط عمق المحيطات3800 مترا تحت مستوي سطح البحر, فإن ماء المطر الذي يفيض سنويا من اليابسة إلي البحار والمحيطات( ويقدر بستة وثلاثين ألفا من الكيلومترات المكعبة) ينحدر مولدا طاقة ميكانيكية هائلة تفتت صخور الأرض وتتكون منها الرسوبيات والصخور الرسوبية بما يتركز فيها من ثروات أرضية, ومكونة التربة الزراعية اللازمة لإنبات الأرض, ولو أنفقت البشرية كل ما تملك من ثروات مادية ما استطاعت أن تدفع قيمة هذه الطاقة التي سخرها لنا ربنا من أجل تهيئة الأرض لكي تكون صالحة للعمران…!!!.
خامسا: توزيع الماء علي سطح الأرض:
تقدر كمية المياه علي سطح الأرض بنحو1360 مليون كيلو متر مكعب, أغلبها علي هيئة ماء مالح في البحار والمحيطات(97,20%), بينما يتجمع الباقي(2,8%) علي هيئة الماء العذب بأشكاله الثلاثة الصلبة, والسائلة, والغازية; منها(2,15% من مجموع مياه الأرض) علي هيئة سمك هائل من الجليد يغطي المنطقتين القطبيتين الجنوبية والشمالية بسمك يقترب من الأربعة كيلو مترات, كما يغطي جميع القمم الجبلية العالية, والباقي يقدر بنحو0.65% فقط من مجموع مياه الأرض يختزن أغلبه في صخور القشرة الأرضية علي هيئة مياه تحت سطح الأرض, تليه في الكثرة النسبية مياه البحيرات العذبة, ثم رطوبة التربة الأرضية, ثم رطوبة الغلاف الغازي للأرض, ثم المياه الجارية في الأنهار وتفرعاتها.
وحينما يرتفع بخار الماء من الأرض إلي غلافها الغازي فإن أغلبه يتكثف في نطاق الرجع( نطاق الطقس أو نطاق التغيرات المناخية) الذي يمتد من سطح البحر إلي ارتفاع يتراوح بين16 و17 كيلو مترا فوق خط الاستواء, وبين6 و8 كيلو مترات فوق القطبين, ويختلف سمكه فوق خطوط العرض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية, فينكمش الي ما هو دون السبعة كيلو مترات في مناطق الضغط المنخفض ويمتد إلي نحو الثلاثة عشر كيلو مترا في مناطق الضغط المرتفع, وعندما تتحرك كتل الهواء الحار في نطاق الرجع من المناطق الاستوائية في اتجاه القطبين فإنها تضطرب فوق خطوط العرض الوسطي فتزداد سرعة الهواء في اتجاه الشرق متأثرا باتجاه دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق.
ويضم هذا النطاق66% من كتلة الغلاف الغازي للأرض, وتتناقص درجة الحرارة والضغط فيه باستمرار مع الارتفاع حتي تصل الي نحو60 درجة مئوية تحت الصفر والي عشر الضغط الجوي العادي عند سطح البحر في قمته المعروفة باسم مستوي الركود الجوي وذلك لتناقص الضغط بشكل ملحوظ عنده.
ونظرا لهذا الانخفاض الملحوظ في كل من درجة الحرارة والضغط الجوي, والي الوفرة النسبية لنوي التكثف في هذا النطاق فإن بخار الماء الصاعد من الأرض يتمدد تمددا ملحوظا مما يزيد في فقدانه لطاقته, وتبرده تبردا شديدا ويساعد علي تكثفه وعودته الي الأرض مطرا أو بردا أو ثلجا, وبدرجة أقل علي هيئة ضباب وندي في المناطق القريبة من الأرض.
سادسا: دحو الأرض معناه إخراج غلافيها المائي والغازي من جوفها:
ثبت أن كل ماء الأرض قد أخرجه ربنا( تبارك وتعالي) من داخل الأرض عن طريق الأنشطة البركانية المختلفة المصاحبة لتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض.
كذلك فإن ثاني أكثر الغازات اندفاعا من فوهات البراكين هو ثاني أكسيد الكربون, وهو لازمة من لوازم عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعددا من عناصر الأرض لبناء خلايا النبات وأنسجته, وزهوره, وثماره, ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات الأرض من باطن الأرض تعبيرا مجازيا بإخراج المرعي, لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض, ولا كستها الخضرة.
سابعا: من معجزات القرآن الإشارة إلي تلك الحقائق العلمية بلغة سهلة جزلة:
علي عادة القرآن الكريم فإنه عبر عن تلك الحقائق الكونية المتضمنة إخراج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض من داخل الأرض بأسلوب لا يفزغ العقلية البدوية في صحراء الجزيرة العربية وقت تنزله, فقال( عز من قائل):( والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها) والعرب في قلب الجزيرة العربية كانوا يرون الأرض تتفجر منها عيون الماء, ويرون الأرض تكسي بالعشب الأخضر بمجرد سقوط المطر, ففهموا هذا المعني الصحيح الجميل من هاتين الآيتين الكريمتين, ثم نأتي نحن اليوم فنري في نفس الآيتين رؤية جديدة مفادها أن الله( تعالي) يمن علي الأرض وأهلها وعلي جميع من يحيا علي سطحها أنه( سبحانه) قد هيأها لهذا العمران بإخراج كل من أغلفتها الصخرية والمائية والغازية من جوفها حيث تصل درجات الحرارة الي آلاف الدرجات المئوية مما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة, وببديع الصنعة, وبكمال العلم, وتمام الحكمة, كما يشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقي هذا الوحي الخاتم بأنه( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السموات والأرض, فلم يكن لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بحقيقة ان كل ماء الأرض, وكل هواء الأرض قد أخرجه ربنا( تبارك وتعالي) من داخل الأرض, وهي حقيقة لم يدركها الإنسان الا في العقود المتأخرة من القرن العشرين فسبحان منزل القرآن من قبل أربعة عشر قرنا ووصفه بقوله الكريم: قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما( الفرقان:6)
وصلي الله وسلم وبارك علي رسولنا الأمين الذي تلقي هذا الوحي الرباني فبلغ الرسالة, وأدي الأمانة, ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين, والذي وصفه ربنا( سبحانه وتعالي) بقوله الكريم: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا( النساء:166).
د. زغلول راغب النجار
http://www.eajaz.org