” … وَتَأْتُـونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَـرَ … ” (العنكبوت:29)
بقلم : د زغلول النجار- التاريخ : 2006-07-10
هذا النص القرآني الكريم جاء في نهاية النصف الأول من سورة العنكبوت, وهي سورة مكية, وآياتها(69) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى بيت العنكبوت، وهو أوهن البيوت على الإطلاق مادياً لكثرة الفتحات بين خيوطه, ومعنوياً لانعدام الرحمة والمودة فيه.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية الإيمان بالله, وتكاليف ذلك الإيمان في المعركة الأزلية بين الحق والباطل, وبين الإيمان والكفر, وما يمكن أن يتعرض له المؤمنون من ابتلاءات في هذه المعارك بسبب تمسكهم بدين الله والدعوة إليه.
وتأكيداً لهذه السنة الدهرية عرضت سورة العنكبوت لقصص عدد من أنبياء الله ورسله, وما لاقوه من المصاعب والعقبات في طريق دعوتهم إلى دين الله, كما عرضت لعدد من الشخصيات والأمم الطاغية المتجبرة، وكيف أخذهم الله بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر؛ وذلك تحقيراً لشأنهم, وضرباً للأمثال بهم.
و ربطت سورة العنكبوت بين الحق المنزل في دين الله والحق القائم في السماوات والأرض, وأكدت وحدانية الله ـ تعالى ـ فوق جميع خلقه, كما أكدت وحدة رسالة السماء, وعلى الأخوة بين الأنبياء.
وتبدأ سورة العنكبوت بالحروف المقطعة الثلاثة (الم) التي تكررت في مطلع ست من سور القرآن الكريم, وقد سبق لنا مناقشتها، وبعد هذا الاستهلال تؤكد هذه السورة الكريمة أن ابتلاء المؤمنين بالفتن هو من سنن الله في الأرض من أجل إعدادهم لتحمل أمانة التبليغ عن الله وعن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:
“ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ “ ( العنكبوت:3,2).
ومن الفتن التي يتعرض لها الإنسان في هذه الحياة الدنيا شهوات النفس, وإغراءات المال, وغوايات الشيطان بالمعاصي, والذوبان في عوالم الضياع والفتن التي يعيشها إنسان اليوم, واستبطاء الرزق أو النصرة، وفتن الأهل والأقارب في زمن اختلال الموازين وانقلاب المعايير, وفتنة النساء في زمن التعري الفاضح, وفتن الانحرافات العقدية والسلوكية العديدة، وغير ذلك من حبائل شياطين الأنس والجن وما أكثرها، ولا يستطيع المؤمن الثبات على إيمانه إلا بالانتصار على هذه الفتن, والاستعلاء بعلاقته بربه فوق الدنيا وما فيها, والأنس بمعية الله, والثقة الراسخة في إلوهيته وربوبيته ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه, وبأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله؛ وذلك لأن النفس الإنسانية تصقلها الشدائد، وتطهرها وتوقظ كوامن الخير فيها, وتأخذ بزمامها إلى مسارات الجد الذي لا هزل فيه, وتصرفها عن كل تافه وحقير في هذه الحياة, وتحفظها من الضياع والضلال في دروبها المتشعبة, وذلك على مستوى الأفراد والجماعات, فلا يبقى صامداً صابراً في الابتلاءات إلا من زكت نفسه وشرفت خصاله, وخلصت نواياه وأعماله لله الخالق البارئ المصور وحده ـ بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد ـ فيبقى المؤمن ثابتاً على عهد الله حتى يلقاه وهو ـ تعالى ـ راضٍ عنه, وقد أسلم الراية من بعده إلى من يكمل المسيرة من ورائه, فلا يحرم أجر ذلك حتى قيام الساعة.
أما الذين يفسدون في الأرض, ويتجبرون على الخلق, ويفتنون المؤمنين, ويعملون السيئات عن قصد وعمد، فلن يفلتوا أبداً من عقاب الله في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب مقيم، ولذلك تقول الآيات:
“ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ . مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ” (العنكبوت:4 ـ6).
وتؤكد الآيات أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وتوصي الإنسان بوالديه إلا في الأمر بالشرك أو الكفر بالله, ثم تقابل مواقف المؤمنين الثابتين في الفتن بمواقف الضعفاء المستخذين فيها, وهو موقف من مواقف النفاق, والله لا يحب المنافقين.
وهناك فرق واضح بين تجاوز الفتنة ـ في بعض الحالات ـ كل قدرات الاحتمال عند الإنسان، فيضعف المؤمن ويبقى واثقاً من نصر الله, بينما يلجأ غيره إلى اليأس والقنوط من رحمة الله.
وتستعرض الآيات في سورة العنكبوت بعد ذلك قصص عدد من الأنبياء والرسل, ومواقف أقوامهم منهم, وما نزل من عقاب الله على الجاحدين من أبناء تلك الأقوام جماعات وأفراداًً, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:
“ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ” (العنكبوت:40).
وبعد استعراض مصارع هؤلاء من الطغاة المتجبرين في الأرض والمفسدين فيها, تعود الآيات للتأكيد أنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله, ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه ـ سبحانه ـ وأن قوى أهل الشر الطغاة المتجبرين هزيلة ضعيفة واهنة, مهما تعاظمت وتجبرت, وأن اللجوء إليها والاحتماء بها كاحتماء العنكبوت ببيتها الهزيل الواهن الضعيف, والذي تصفه السورة الكريمة بأنه (أوهن البيوت) فتقول:
” مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ” (العنكبوت:41).
ثم تنتقل الآيات بالخطاب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقول:
” اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ” (العنكبوت:45).
وتأمر الآيات في سورة العنكبوت المسلمين بحسن مجادلة أهل الكتاب فتقول:
” وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ” (العنكبوت:46).
وتستمر الآيات في تعظيم شأن القرآن الحكيم, وفي التحذير من فجائية الآخرة وأهوالها, مؤكدة أن جهنم بنيرانها قريبة من المفسدين في الأرض.
ثم تنتقل الآيات بالخطاب مرة أخرى إلى المؤمنين، تدعوهم إلى الهجرة إذا ضيق عليهم في بلادهم, فأرض الله واسعة, ويكرمهم الله ـ تعالى ـ بنسبتهم إلى ذاته العلية، وذلك بندائهم بقوله ـ عز من قائل ـ: ” يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ... “مؤكداً لهم أن أقصى ما يمكن أن يتعرض له العبد في هذه الحياة الدنيا هو الموت, وهو حق على كل مخلوق, وأن جزاء الصابرين المتوكلين على ربهم هو الجنة ـ ونعم أجر العاملين ـ وأن الله ـ تعالى ـ هو الذي ” …. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (العنكبوت:62).
ومن تناقضات المشركين أنهم لا ينكرون أن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق السموات والأرض, وسخر الشمس والقمر, وهو الذي نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها, وعلى الرغم من ذلك يشركون به, والله ـ تعالى ـ يحذرهم بقوله العزيز:
” وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ” (العنكبوت:64).
وتستمر الآيات في عرض ما وقع فيه المشركون من قريش من تناقضات أفضت بهم إلى الكفر بأنعم الله ـ ولا تزال ـ من أجل التمتع المؤقت ببعض قشور الحياة الدنيا الفانية, وهم الذين أكرمهم الله ـ تعالى ـ بحرم مكة الآمن, ومن حولهم القبائل في اقتتال وتناحر مستمر, ولا يجدون الأمن إلا في ظل هذا البيت الحرام, وبدلاً من تعظيمه، ملئوا ساحته بالأصنام والأوثان التي أشركوها في عبادة الله ـ تعالى ـ ظلماً وعدواناً بغير علم.
وتختتم السورة الكريمة بقول الحق تبارك وتعالى ـ:
” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ . وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ” (العنكبوت:69,68).
من ركائز العقيدة في سورة العنكبوت:
(1) الإيمان بأن الله يبتلي عباده بالمحن والتكاليف حتى يُثْبِتُوا حقيقة إيمانهم.
(2) اليقين بحتمية الموت، وبحقيقة البعث والحشر، والحساب والجزاء, والجنة والنار, وبأن لقاء الله حق, وبأنه آت لا محالة, وبأن أحداً لا يستطيع الفرار من قدر الله.
(3) التصديق بأن من جاهد ” … فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ” (العنكبوت:6), وبأن الرزق يقدره الله.
(4) التسليم بأن الله ـ تعالى ـ يكفر السيئات عن عباده المؤمنين إذا تابوا إليه وأنابوا واستغفروه, وقد تعهد بجزائهم أحسن الذي كانوا يعملون, وبإدخالهم في الصالحين، وفي جنات النعيم.
(5) الإيمان بأن بر الوالدين فريضة إسلامية فرضها الله على جميع عباده, وعلى الأولاد طاعتهما إلا في الأمر بالشرك أو الكفر بالله.
(6) اليقين بأن الله أعلم بما في صدور جميع عباده, ويعلم الذين آمنوا ويعلم المنافقين, وهو الذي يعذب من يشاء ويرحم من يشاء بعلمه وعدله وحكمته وإرادته.
(7) التصديق بكل ما جاء بالقرآن الكريم, والاعتبار بقصص الأولين, والتسليم بأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين.
(8) الاعتقاد بالوحدانية المطلقة لله فوق جميع خلقه,( بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد)، وبتنزيهه ـ سبحانه وتعالى ـ عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, واليقين بأنه ـ تعالى ـ هو الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم.
(9) الإيمان بأن الله هو الذي يُبدِْئ الخلق ثم يعيده, وأن ذلك على الله يسير, وبأن قدرته محيطة بجميع خلقه في السماوات وفي الأرض، فلا ملجأ من الله إلا إليه.
(10) اليقين بأن كل خروج عن الفطرة مهلك للإنسان, وبأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه, وبأن الدنيا لعب ولهو، وأن الدار الآخرة هي الحيوان، أي الحياة الحقيقية لخلودها ودوامها بلا نهاية.
من الإشارات الكونية في سورة العنكبوت:
1 ـ التأكيد على أن الله ـ تعالى ـ هو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده، وأن ذلك على الله يسير. ونحن نرى صورة مصغرة لذلك في دورة الحياة والموت التي تتكرر في الأحياء بالتناسل المستمر إلى أن يشاء الله, ودورة تخلق أجرام السماء من دخان الكون وإفنائها إلى دخان الكون, وإعادة خلقها منه بإرادة الله ـ تعالى ـ ودورة الماء حول الأرض, ودورة الصخور, ودورات تشكل سطح الأرض, ودورات تخلق كلٍ من المادة والطاقة وتبادلهما وإفنائهما, وإعادة خلق كلٍ منهما, إلى غير ذلك من دورات.
2 ـ الإشارة إلى أن السير في الأرض وتأمل صخورها ودراسة بقايا الحياة في تلك الصخور هي وسيلة تعرف الإنسان على تاريخ الأرض, وعلى كيفية بدء الخلق, وهذا ما أثبتته الدراسات في مجال علوم الأرض.
3 ـ التأكيد على أن النشأة الآخرة بعد تدمير الكون سوف تسير على نفس الخطى, وتتبع نفس النظام الذي وضعه الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ للخلق الأول.
4 ـ تسجيل حقيقة أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت على الإطلاق من الناحيتين المادية والمعنوية, وهو ما ثبت مؤخراً في علم دراسة حيوانات الأرض وسلوكياتها.
5 ـ هذا بالإضافة إلى العديد من الإشارات التاريخية والنفسية التي تقع من الدراسات العلمية في الصميم.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها, ولذا فسوف أركز هنا على مخاطر الإعلان بالمنكرات والفواحش على المجتمعات الإنسانية، وهو ما جاء استنكاره وتحريمه وتجريمه في الآية القرآنية الكريمة رقم(29) من سورة العنكبوت.
من الدلالات اللغوية للنص القرآني الكريم:
يصف النص الكريم الوقوع في جريمة الشذوذ الجنسي بوصف( المنكر)، وهو واحد (المناكير)، أي كل ما أنكرته الفطرة السليمة ومجته, وحكمت العقول الصحيحة بقبحه، وأنكره كلٌ من القلب, واللسان, والشريعة المنزلة لخطره على حياة الإنسان، وعلى نفسيته واحترامه لذاته واحترام الآخرين له.
والقرآن الكريم سمي هذا (المنكر) في مقام آخر باسم (الفاحشة) و(الفحش) هو كل شيء جاوز حده, و(الفحش)، و(الفحشاء), و(الفاحشة) كل ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال, ويعبر بها عن جريمة (الزنى) كما يعبر بها عن جريمة الشذوذ الجنسي التي وصف القرآن الكريم الواقعين فيها بوصف (الظالمين)، وبوصف (المجرمين) ـ أي المذنبين ـ لأن (الجرم) و(الجريمة) هو الذنب أو الاكتساب المكروه, وبوصف (المفسدين)، وهو عكس المصلحين, وبوصف (المسرفين) ـ أي المتجاوزين الحد في أمورهم ـ ووصف عملهم بـ(الفسق)، وهو الخروج عن الشرع.
وكلٌ من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد حرما الشذوذ الجنسي بمختلف أشكاله وألوانه وصوره تحريماً قاطعاًً, فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلعن الواقع في هذه الجريمة النكراء ثلاث مرات فيقول:” لعن الله من عمل عملَ قوم لوط, ولعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط, ولعن الله من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط “ (أخرجه الإمام أحمد).
و(اللعن) هو الطرد من رحمة الله, ومسكين ذلك المطرود من رحمة الله حتى يتوب ويعود إلى رحاب رحمته ـ سبحانه وتعالى ـ ولذلك قال المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: ” من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ” (أخرجه الإمام أبو داود).
وواضح الأمر أن جريمة الشذوذ الجنسي أشد خطراً من جريمة الزنى ـ على قبحها ـ لأن الشذوذ محرم عقلاً وطبعاً وشرعاًً, وحرمته لا تزول أبداً, ولذلك فكل من يبيحه يعتبر مرتداً عن شريعة الله, واقعاً في حد من أخطر حدوده.
وقد انتشر الشذوذ الجنسي في عالم اليوم انتشار النار في الهشيم حتى ليقدر الشواذ من الجنسين تعدادهم في بلد مثل الولايات المتحدة بنحو 10% من مجموع السكان البالغ قرابة الثلاثمائة مليون نسمة, وإن حاولت الجهات الرسمية إنكار هذه النسبة العالية وإنقاصها إلى نحو2,3% فقط مع الاعتراف بأن هذه هي نسبة الذين يعلنون عن أنفسهم بذلك, وأن هناك من الشواذ من لا يستطيع الإعلان عن نفسه.
وهذه النسب التي تصل إلى أكثر من أربعة ملايين من الشواذ الذكور، ومليونين من الشواذ الإناث قد تضاعفت اليوم أضعافاً كثيرة، خاصة بعد رفع الشذوذ الجنسي من قائمة الأمراض العقلية في سنة1970 م. وتعطي الدراسات المنشورة ـ مثل دراسة كنساي (Alfred Kinsay) ـ
ما يلي:
(1) أن10% من مجموع الذكور البيض الذين تتراوح أعمارهم بين (55,16 سنة) كانوا شواذاً جنسياً طوال الثلاث سنوات السابقة للدراسة، والتي غطت الفترة من أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.
(2) أن نحو 5% من مجموع الإناث البيض اعترفوا اعترافاً علنياً بأنهن شواذ جنسياًً.
(3) أن50 % فقط من الذكور أعلنوا أنهم لم يمارسوا الشذوذ الجنسي، ولا يجدون في أنفسهم ميلاً إليه.
وفي دراسة أخرى بعنوان الشذوذ الجنسي وابتزاز الأطفال جنسياًً,
ذكر أن نسبة الشواذ جنسياً في الولايات المتحدة الأمريكية تتراوح بين 1 %,3% من مجموع تعداد السكان المقدر بنحو (260) مليون في منتصف التسعينيات من القرن العشرين, ومن هذه الأعداد 46% من الشواذ الذكور, و22% من الشواذ الإناث تعرضوا لتحرش جنسي شاذ أثناء طفولتهم، في مقابل 7% فقط من غير الشواذ الذكور, و1% فقط من الإناث غير الشاذات.
وهذا الشيوع المذهل جعل الشذوذ الجنسي أمراً مقبولاً في معظم الدول الغربية كنظام بديل للحياة العادية إذا كان بين البالغين وبدون إكراه, إلى الحد الذي تعترف به الحكومات وتشرع له الدساتير, وتحميه القوانين وترحب به الكنائس، بل تسمح بزواج الأمثال فيها, وتصرح لهم بالتبني, وتنفق عليهم الدولة في حالات البطالة أو العجز عن العمل، وتكونت آلاف الجمعيات والمنظمات التي ترعى شئون الشواذ جنسياً، وتحمل قضاياهم, وخصص العديد من الجامعات منحاً دراسية لهم.
وتبقى الفطرة السليمة في بعض الأفراد الذين حرموا على أبنائهم وبناتهم الذهاب إلى المدارس صوناً لهم من الوقوع في هذه الرذائل من أقرانهم أو معلميهم أو حتى من الإداريين في المدارس, وفضلوا تعليمهم في البيوت إلى أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم.
وينتشر الشذوذ الجنسي بين الرهبان والراهبات وغيرهم من الذكور والإناث المنخرطين في أديان لا تسمح لهم بالزواج, وبين المسجونين والمسجونات, وبين البحارة والكشافة عند فقدان الجنس الآخر, وانعدام التربية الصحيحة.
من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم:
إن الوصف القرآني للشذوذ الجنسي بأنه منكر, وبأنه فاحشة من الفواحش, ووصف الواقعين فيه بالمجرمين والفاسقين، وبالظالمين, والمسرفين، والمفسدين، يدل على مدى خطر هذا السلوك البشع على المجتمعات الإنسانية أفراداً وجماعات، وهذا ما أثبتته جميع الدراسات المكتسبة، والتي تلخص أضرار هذه الجريمة النكراء
فيما يلي:
أولاً: من الأضرار الصحية للشذوذ الجنسي:
يؤدي الشذوذ الجنسي إلى الإصابة بكل الأمراض التي تصيب الزناة وبغيرها من الأمراض التي يصعب علاجها ـ بل يستحيل في كثير منها ـ حتى يفضي إلى الموت بعد معاناة طويلة، وتشوهات خلقية عديدة, وآلام مبرحة، وقد سبق لنا استعراض ذلك في حديثنا عن تحريم الاقتراب من مقدمات الزنى, ولا أرى حاجة إلى إعادته هنا، ولذلك أكتفي بالنتائج المعلنة التالية والمأخوذة عن بحث للدكتور فرانك جوزيف والمعنون
(1) إن الشواذ جنسياً يمثلون60% من مرضى المرض الجنسي المعروف باسم الإفرنجي أو الزهري (Syphilis,3)، و4% من مرضى السيلان (Gonorrhea,17%) من داخل المستشفيات, هذا عدا الذين يلجأون للأطباء الروحانيين.
(2) إن الشواذ جنسياً يحيون حياة غير صحية، ولذلك يمثلون غالبية المصابين بالأمراض الجنسية الخطيرة وغيرها من أمراض الجسد، مثل الوباء الكبدي ـ ب(Hepatitis-B) الذي يحمل الشواذ نسباً تتراوح بين 26%,80% من مرضاه, ومرض متلازمة أمعاء الشواذ (The Gay Bowel Syndrome) الذي يهاجم الأمعاء ويؤدي إلى إصابتها إصابات خطيرة, وأمراض كلٍ من السل (Tuberculosis)، والحمى المضخمة للخلايا (Cytomegalovirus)K وأمراض نقص المناعة مثل مرض الإيدز(AIDS) الذي لم ينتشر في بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية إلا عن طريق الشذوذ الجنسي، ويمثل الشواذ فيه أكثر من50% من المصابين بهذا المرض الخطير.
(3) إن25% ـ33% من الشواذ جنسياً مدمنون للخمور, و64% مدمنون على المخدرات.
(4) إن39% إلى59% من الشواذ جنسياً مصابون بالعديد من الطفيليات التي لا تتوافر إلا في أقذر الأوساط البيئية.
(5) إن الشذوذ الجنسي يؤدي بصاحبه إلى التعاسة والشعور بالنقص والسادية التي قد تنتهي بقتل الشريك في الجريمة (بنسبة37% من الحالات).
(6) إن50% من المنتحرين هم من المنحرفين جنسياً.
(7) إن متوسط عمر الشواذ جنسياً من الذكور هو نحو(42) سنة، ومن الإناث هو(45) سنة، بينما قد يفلت من الموت نحو(9%) فقط من مجموع الشواذ الذكور, و24% من الشواذ الإناث ليصلوا إلى ما بعد الخامسة والستين يقضونها في معاناة صحية ونفسية، وآلام جسدية لا تطاق، وينزل هذا المعدل إلى(39) سنة فقط إذا أصيب الشاذ بمرض الإيدز.
ثانياًً: من الأضرار الاجتماعية للشذوذ الجنسي:
(أ) نقص تعداد السكان لقناعة الشواذ بإشباع شهواتهم الدنيئة دون وعي لضرورة الإنجاب, وهي ظاهرة سائدة اليوم في أغلب الدول الغربية، وتصيبها في مجموعها بالشيخوخة.
(ب) زيادة نسبة كبار السن والمقعدين والعجزة عن نسبة الشباب في المجتمع وأضرار ذلك.
(جـ) ارتفاع معدلات العنف والجريمة، مثل جرائم الاعتداء على الأطفال, واغتصاب الكبار, والاعتداء والإيذاء البدني والقتل للشركاء في هذه الرذائل، ففي دراسة دكتور فرانك جوزيف التي سبقت
الإشارة إليها جاء ما يلي:
(1) إن الشواذ جنسيا معرضون للقتل أكثر مائة مرة في الذكور, و(534) مرة في الإناث من غيرهم، وعادة ما يتم ذلك بواسطة شركائهم في هذه الجريمة البشعة، وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن50% من حوادث قتل النساء في بلد مثل الولايات المتحدة هي للشاذات جنسياً.
(2) إن الشواذ جنسياً معرضون للانتحار أكثر (25) مرة من غيرهم, وللقتل عن طريق حوادث الطرق أكثر (19) مرة عن غيرهم.
(3) إن 33% من الشواذ جنسياً يعترفون بالاعتداء على كلٍ من الأطفال الصغار والكبار، وهناك مجموعات عديدة مكونة من آلاف الشواذ جنسياً في بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية منها مجموعة
تسمي نفسها باسم:
وهي مجموعة متخصصة في الاعتداء جنسياً على الأطفال الصغار, وتمثل أكثر من 33% من تلك الحوادث البشعة, ويعترف 53% منهم باقتراف هذه الجريمة مع من هم دون التاسعة عشرة من العمر.
(4) إن 59,6 % من الشواذ جنسياً في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية هم من خريجي الجامعات, و49% منهم يحتلون مراكز تخصصية وإدارية بارزة في مجتمعاتهم.
(د) تدمير مؤسسة الأسرة, وإشاعة الفواحش في المجتمعات الإنسانية, ومحاربة الأديان التي تجرم فحشهم.
(هـ) يتسلل الشواذ جنسياً في مختلف المجتمعات لإفساد غيرهم من أجل زيادة أعداد المفسدين في الأرض؛ نصرةً لشذوذهم وانحرافاتهم, ولزيادة المطالبة بحقوق لهم، وهم في ذلك يصيبون الأبرياء بما يحملون من مسببات المرض.
( و) الشذوذ الجنسي يصيب الواقع فيه بالشعور بالدونية الشديدة, أو بالوقاحة وقلة الحياء، والاستهتار بكل المعتقدات والآداب والقيم, وبالعديد من الاضطرابات والعقد النفسية, والقلق وتشتت الفكر, والاكتئاب والشراسة والكراهية وغيرها من الأمراض العصبية, والعجز الجنسي المؤقت أو الدائم, ولذلك يخدعون أنفسهم بتسمية أنفسهم بالفرحين، وهم عكس ذلك تماماًً.
( ز) إن حياة الشواذ جنسياً هي حياة غير مستقرة, وتربية الأطفال بينهم تدمير لفطرتهم السليمة، ومن ثم فهو تدمير لمستقبل الأمة التي تسمح لمثل هذه الفواحش بالشيوع بين أبنائها، ويحزننا أن يأتي أحد الأفلام المصرية اليوم ليدعو علناً إلى هذا الفحش بدعوى حرية التعبير.
ثالثاً: من الأضرار الاقتصادية للشذوذ الجنسي:
(1) تعتمد الحضارات الإنسانية على الأجيال الشابة من أبنائها، والشذوذ الجنسي يحرم الأمة من إنتاج هذه الأجيال, فيؤدي إلى تناقص تعداد السكان باستمرار, وإلى تناقص الأجيال الشابة، وزيادة أعداد المتقاعدين عن العمل.
(2) إن تفشي الأمراض المستعصية بين الشواذ جنسياً يضعف من إنتاجيتهم، ويستهلك من أموال الدولة جزءاً كبيراً لعلاجهم.
(3) كذلك فإن تفشي الأمراض المستعصية بين الشواذ جنسياً قد يُعْجِز أعداداً منهم عن العمل، مما يجعلهم حملاً على ذويهم وعلى الدولة التي تؤويهم.
(4) إنه نتيجة لعدم الاستقرار بين زواج الأمثال لمنافاته للفطرة، فإن المحاكم سوف تتكدس أمامها قضايا الجريمة بمختلف أشكالها وأحجامها, وقضايا الطلاق وما تقتضيه من إنفاق يعجز كثير من الأفراد والدول على تحمله.
(5) إن العنف الذي يسود مثل هذه العلاقات المشينة، وما ينتج عنه من إصابات بدنية ونفسية ودمار، لا يستطيع مواجهته أي مجتمع معاصر, ولا أي نظام أمني من مثل الشرطة وغيرها.
هذا قليل من الكثير الذي من أجله حرم القرآن الكريم، كما حرمت السنة النبوية المطهرة جريمة الشذوذ الجنسي بمختلف أشكاله وألوانه وصوره, ومن هنا كان الإعجاز العلمي والتشريعي واللغوي والتاريخي في قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:
“ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ … “ (العنكبوت:28، 29).
فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام, والصلاة والسلام عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.