شبهات حول الإسلام

ادعاء أن القرآن ليس محفوظًا

تساءل بعضهم: كيف يكون القرآن محفوظًا من الله لم يتغير منذ عهد البعثة حتى الآن، ونحن نرى أنه قد لحقه النقط وعلامات التشكيل؟ ألا يُعَدُّ هذا تغييرًا؟

أو لا يتناقض مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: 9).

ونحن نردُّ التساؤل: لماذا بعث الله عز وجل الرسل؟! لماذا أنزل الكتب؟

لقد كان ذلك رعاية من الله لخلقه، ولطفًا بهم، وحتى يكون حسابه لهم ـ كي لا يتساوى الـمُحسن والمسيء ـ وجزاؤه إياهم على أفعالهم عدلاً إلهيًّا خالصًا مصداقًا

لقوله عز وجل: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:165)،

وقبل الرسالة المحمَّدية كانت مهمة حفظ كُتب الرسالات والشرائع موكولةً إلى أمم هذه الرسالات كجزء من التكليف لهم والاختبار لاستقامتهم في هذا التكليف،

قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} (المائدة:44).

لكنهم فرَّطوا في القيام بتكليف الحفظ للكتب بالنسيان حينًا وبالتحريف والإخفاء حينًا آخر،

قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} (المائدة: 13).

وحينما يحدث التَّحريف أو النسيان لهذه الكُتب، يبعث الله عز وجل رسولاً جديدًا بكتاب جديد.

أمَّا عندما أراد الله عز وجل ختم النبوات والرسالات بنبوَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فكان لا بُدَّ لحفظ كتاب الشريعة الخاتمة من حافظ لا يجوز عليه الإهمال، ولا يتأتى منه التحريف ولا يليق به النسيان، أي كان لا بُدّ من الحفظ المعصوم الأبدي لكتاب الله الـمُعجر الخالد.

ولذلك انتقلت مهمة حفظ الوحي الخاتم ـ القرآن الكريم ـ في الرسالة الخاتمة إلى الله عز وجل الذي لا يتخلَّف حفظه أبدًا بعد أن كانت هذه المهمة موكولةً للناس قبل ذلك.

فكان الوعد الإلهيُّ المؤكد في قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9).

ومن ثَمَّ هيّأ الله لتدوين القرآن الكريم من كَتَبَةِ الوحي ما لم يتهيَّأ لكتاب سابق، وجعل جمعه وعدًا إلهيًّا وإنجازًا ربانيًّا

في قوله عز وجل: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}(القيامة:16ـ 19)؛

وذلك حتى تستمر حجة الله على عباده، ويكون حسابه لهم عدلاً خالصًا، كما أن المولى عز وجل وعد بأن يورثه للذين اصطفاهم من عباده بعد أن أنزله على المصطفى

في قوله عز وجل: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:31 ـ 32).

ونلفت النظر إلى أنّّ من صفات القرآن: أنه كتاب عزيز، محفوظ من العبث به أو فيه، وأنه ممتنع عن الإبطال،

لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأي حال من الأحوال، قال عز وجل:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت: 41 ـ 42).

ومن صفات القرآن: أنه كتابٌ علىٌّ حكيم، فوق تطاول المتطاولين، بشرًا كانوا أو أزمنة ودهورًا،

قال عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 3 ـ 4).

ومن صفات القرآن: أنه كتابٌ مكنون أى: مَصُون ومحفوظ عن اللعب والعبث والتحريف،

قال عز وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (الواقعة: 77 ـ 78).

ولقد صدّق التاريخ على هذا الحفظ الإلهي لهذا القرآن المجيد، ومن يقرأ تاريخ التوراة ـ حتى ذلك الذي كتبه علماء اليهودية ـ يعلم ما أصابها من تحريف بعد نزولها،

وكيف أُعِيدت كتابة أسفارها على النحو الذي كتبه وصنعه “عزرا” وغيره من الأحبار، في صورة مليئة بالتحريف، ومن يتأمل تناقضات الأناجيل،

حتى الشهيرة منها والفروق الجوهرية بينها وبين غير الشهيرة من مثل: أناجيل “مخطوطات نجع حمادى”، و”مخطوطات البحر الميت”، و”إنجيل برنابا”،

يعلم ما أصاب الإنجيل بعد سنوات معدودة من بعثة المسيح عليه السلام.

لكن ها هو القرآن الكريم كما نزل به الروح الأمين على قلب الصَّادق الأمين، لم يتغير فيه حرفٌ ولا رسمٌ ولا حركةٌ ولا غُنّةٌ ولا مدّ،

وقد مضى على نزوله أكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا مرَّت فيها الأمة الإسلامية بأطوار من التراجع والانحطاط،

وفقدت فيها الذاكرة الإسلامية ملايين المخطوطات التي أبادتها غزوات الطغاة،

واندثرت فيها مذاهب وفلسفات. وظلّ القرآن الكريم عزيزًا منيعًا محفوظًا بحفظ الله خير الحافظين، فالتاريخ ـ هو الآخر ـ قد غدا شاهدًا على هذا الحفظ الإلهي للقرآن.

أمّا النَّقْط والتَّشكيل فليس تغييرًا في المصحف والقرآن، وإنما هو من سُنّة التطور التي تلحق باللغات،ولا علينا إذا تعرّفنا على هذه السُّنة.

معلوم أن المصحف العثماني لم يكن منقوطًا، حتى يُمكن بقاء الكلمة محتملة أن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها.

ونَقْط المصاحف لم يحدث على المشهور إلاّ في عهد عبد الملك ابن مروان، الذي رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت،

واختلط العرب بالأعاجم وكادت العُجمة تمسُّ سلامة اللغة، وبدأ اللَّبس والإشكال في قراءة المصاحف يلحق بالناس،

حتى لَيَشُقَّ على الكثير منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهى غير مُعْجَمَة.

هنالك رأى بثاقب النظر أن يتقدم للإنقاذ، فأمر الحجَّاج بن يوسف الثقفي أن يُعْنى بهذا الأمر الجَلَل، وندب الحجاجُ رجلين يعالجان هذا الـمُشْكِل

هما: نصر بن عاصم الليثى، ويحيى بن يعمر العدواني، وكلاهما كفءٌ قديرٌ لِمَا نُدب له، إذ جمعا بين العلم والعمل، والصلاح والورع،

والخبرة بأصول اللغة ووجوه القراءات، وقد اشتركا في التلمذة والأخذ من أبى الأسود الدُّؤلى.

ويرحم الله هذين الشيخين، فقد نجحا في هذه المحاولة، وأعجما المصحف الشريف لأول مرة،

ونقطا جميع حروفه المتشابهة، والتزما ألاّ تزيد النُّقَط في أيِّ حرف على ثلاث. وشاع ذلك في الناس بعدُ،

فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف.

أما التكيلشُ: فهو وضع علامات للضَّم والكسر والفتح والتسكين.

والمتفَق عليه بين المؤرخين أن العرب لم يكونوا على علم بشكل الحروف والكلمات؛ وذلك لأن سلامة لغتهم وصفاء سليقتهم كانت تُغنيهم عن الشَّكل.

ولكن حين دخلت الإسلامَ أممٌ جديدة منهم العجم الذين لا يعرفون العربية، بدأت العُجمة تحيف على لغة القرآن، بل قيل:

إنَّ أبا الأسود الدُّؤلى سمع قارئًا يقرأ قوله عز وجل: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3)،

فقرأها بجرّ اللام من كلمة “رسوله”، فأفزع هذا اللَّحنُ الشَّنيع أبا الأسود، وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله!

ثم ذهب إلى زِيَادٍ والِى البصرة وقال له: قد أجبتُك إلى ما سألت. وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله،

فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله،

وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين، وطفق الناس ينهجون منهجه، ثم امتدَّ الزمان بهم فبدءوا يزيدون ويبتكرون،

حتى جعلوا للحرف المشدَّد علامة كالقوس. إلى غير ذلك من علامات التشكيل.

وبعد هذا العرض الذي رأيناه، وجدنا أنَّ البرهان العقليّ المُتعلق بختم الرسالة الربَّانية وختم الوحي يجعل حفظ القرآن لإقامة الحجة ضرورةً عقليةً،

وما حدث من نَقْطٍ وتشكيل ما كان إلاّ سنَّةَ تطوُّر للغة فرضتها الظروف على العكس مما أرادوا وصار إحدى الطرق التي حفظ الله بها كتابه الحكيم.

وإذا كان النقط والتشكيل وسيلة إيضاح؛ فإن ذلك أَدْعَى إلى حفظ القرآن، ولكن العمدة في حفظ كتاب الله التلقِّي بالمشافهة،

ولا يزال قُرَّاء القرآن الكريم يتلقونه عن المشايخ لا من المصحف، وما زال كتاب الله ينتقل من جيل إلى جيل عن طريق التلقي الشَّفَهِىِّ،

ولا يقال لأحد إنه حافظ للقرآن ما لم يأخذه عن شيخ يوثق به في هذا العلم1.

إنَّ القرآن ـ وقد ثبت تاريخيًّا ـ أنه أصدق وأدق وثيقة حُفِظَت على التاريخ، وتظاهرت جميع صور الحفظ على الإمساك بها وصيانتها: من كتابة فى الصحف،

وحفظ فى الصدور، وتلاوة دائبة ليلاً ونهارًا فى الصلاة والتعبد به، ومراجعة لآياته فى معرفة أحكام الشريعة،

إلى نظر أهل الكتابِ والكفارِ فيه للوقوع على سقطة والعثور على عثرة، إن القرآن ـ وهذا شأنه ـ يشهد شهادة قاطعة مثبتة فى آيات متعددة منه ومتفرقة فيه،

بالتحدِّى، ثم بالعجز عن القيام لهذا التحدى. هذه حقيقة لا يجادل فيها أحد، ولا ينكرها أحد من خصوم الإسلام، بل ومن أشدِّهم عداوةً له؛ إذْ كانت أكبر من أن تُنْكَر،

وأظهر من أن تَخفَى أو يُشَوَّش عليها بجدل أو سفسطة!2.

• ثم زعم المشكِّكون ـ على النقيض من الشبهة السابقة ـ أن خُلُوَّ المصحف من النقط والتشكيل هو سبب اختلاف القراءات القرآنية.

إن هذه الفِرْية التى تزعم أن القراءات القرآنية نتجت عن خصوصية الخط العربى، مرجعها إلى المستشرق المجرى “جولدتسيهر”،

وخلاصة دعواه ـ التى تابعه عليها كثيرون ـ أن خُلُوَّ رسم المصحف من النقط والتشكيل أدَّى إلى أن يُقْرَأ القرآن بطرائق مختلفة، وضرب لذلك أمثلة بعدد

من الآيات وما فيها من قراءات، نحو قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (الأعراف: 57).

كلمة {بُشْراً} في الآية فيها ثمانى قراءات: بُشْرًا ـ بُشُرًا ـ بَشْرًا ـ بُشْرَى، نُشْرًا ـ نُشُرًا ـ نَشْرًا ـ نَشَرًا3.

وما ذهب إليه “جولدتسيهر” والذين اتَّبعوه على هذه الدعوى، خطأ فاحش يكفى لدحضه ما يلى:

• أن تَعَلُّم القرآن فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم ـ وحتى يومنا هذا ـ يقوم على التلقِّى مشافهةً،

وأن كتابة القرآن كانت محدودة فى نطاق ضيِّق من الصحابة هم كَتَبَةُ الوحى، ولَمَّا جُمِعَ القرآن فى عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه لم يُكْتَفَ بما هو مكتوب،

بل جُمِعَ القرآن من صدور الحُفَّاظ؛ وقد اشتهر عن العلماء قولهم: لا تأخذ القرآن عن مُصْحَفِيٍّ، ولا تأخذ العلم عن صُحُفِىٍّ.

ومعنى ذلك أن المشافهة كانت هى الأساس فى تلقِّى القرآن وتَعَلُّم سائر العلوم، ولا تزال هذه القاعدة هى المعمول بها فى حفظ القرآن إلى يومنا هذا.

• أن القراءات المختلفة ليست حادثة، بل هي سُنَّة تلقاها المسلمون عن النبى صلى الله عليه وسلم، وكلُّها تخرج من مشكاة الأحرف السبعة،

فقد ثبت فى صحيحى البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضى الله عنهما

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ”4.

وجاء عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ” سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،َ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ

فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ

الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ

إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْهُ. اقْرَأْ يَا هِشَامُ.

فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ. فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ”5.

وتعقيبه صلى الله عليه وسلم على قراءة هشام بقوله: “كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ”، وعلى قراءة عمر أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ” كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ “،

دليل قاطع على أن القراءات القرآنية وحى من الله عز وجل، وليس مَرَدُّها إلى استحسان من البشر أو تسلُّط منهم، فلا يُمكن للنبى صلى الله عليه وسلم أن يُبدِّل شيئًا

فى القرآن، قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس:15).

• أنه لَمَّا أرسل عثمان رضى الله عنه نسخًا من المصحف الإمام إلى البلاد المختلفة، كان أهل كل بلد قد ثبتوا على ما تلقَّوه من قراءات عن الصحابة رضى الله عنهم،

وتركوا القراءات المخالفة لِمَا تعلَّموا، ولو كان خُلُوُّ رسم المصحف العثمانى من النقط والتشكيل هو سبب نشأة القراءات ـ كما يدَّعُون ـ

لَمَا وجدنا قراءات خارجة عن رسم المصحف، لكنَّ الواقع أن هناك قراءات قرأ بها بعض الصحابة تخالف رسم المصحف،

بَيْدَ أن الإجماع على المصحف العثمانى صَيَّر تلك الوجوه كالمنسوخة، وما فعله عثمان رضى الله عنه لم يكن من عند نفسه،

وإنَّما وافقه عليه زهاء اثنى عشر ألفًا من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم، وصارت القراءة بِمَا يخالف ذلك بدعة وخطأ عند جميع العلماء

حتى إن صحت ورويت كما يقول صاحب “الإبانة”.

ومن ثَمَّ وضع العلماء شروطًا للقراءة الصحيحة، وهى:

– أن يصح سندها للنبى صلى الله عليه وسلم.

– أن توافق الرسم العثمانى.

– أن توافق العربية ولو بوجهٍ.

إذن فرسم المصحف لم يكن سببًا فى وجود القراءات؛ بل ـ على النقيض ـ كان رسم المصحف وسيلة لحفظ الاختلاف الموجود أصلاً؛

لأن القراءات المتواترة ـ كما أوضحنا ـ جميعها سُنَّة مُتَّبعة، وليست بدعة مخترعة، والرسم لا يُنْشئ القراءة بل يُجَسِّدها.

وقد استقرَّ هذا المبدأ لدى القُرَّاء ونَصَّ عليه العلماء كثيرًا، ومن ذلك ما أكَّده ابن الأنبارى وهو يتحدث عن القراءات والوجوه الجائزة فى اللغة العربية،

حيث تردَّد كثيرًا قوله: ومثل هذا يجوز فى العربية، ولا يجوز لأحد أن يقرأ به؛ لأنه لا إمام له6.

ومثل ذلك قول الزجاج خلال مناقشته لقراءة شاذة فى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة:161)،

حيث قرأ الحسن: (أجمعون)، قال الزجاج: وهذا جيِّد فى العربية، إلاَّ أننى أكرهه؛ لأن القراءة إنما ينبغى أن تُلْزَمَ فيها السُّنة7.

وكثير من علماء اللغة وعلوم القرآن نَصُّوا على هذا المبدأ: أن القراءة رواية لا قياس، والقراءة إنما تُؤخذ بالتلقي مشافهة.

ومكمن الخطأ الذى وقع فيه “جولدتسيهر” ومن ذهب مذهبه، هو افتراضهم أن القراءات إنما اختلفت باختلاف القراء،

والحق أن القراءات المتواترة كلها توقيفيَّة، أى مأخوذة عن النبى صلى الله عليه وسلم كما تلقَّاها عن جبريل عليه عليه السلام عن رب العزة جل جلاله 8.

• كما أن خُلُوَّ المصحف من النقط والتشكيل كانت له فائدة عظيمة، وهى التيسير على عباد الله؛ حيث استطاع كلٌّ أن يقرأ بلغته، فهذا يفتح تاء المضارعة وذاك يكسرها،

وهذا يُميل وذاك لا يُميل؛ إذ لو كُلِّف كلُّ إنسان أن يقرأ بغير لغته لكان فى هذا تكليفٌ بِمَا لا يُستَطاع9.

كلمة أخيرة:

والقضية كما أوردها صاحب هذه الشبهة مقلوبة؛ فليس خُلُوُّ المصحف العثمانى من النقط والإعجام هو سبب اختلاف القراءات، بل كان خُلُوُّ المصحف من النقط

والإعجام لاستيعاب القراءات كُلِّها، فمثلاً قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (الأعراف:57)،

كُتِبت كلمة (بشرا) بدون تشكيل ولا نقط لكى تستوعب القراءات الثمانى المذكورة، ولو كتبت منقوطة ومُشَكَّلةً لَمَا استوعبت هذه القراءات جميعًا.

وإذن فالنقط والتشكيل وغير ذلك من وجوه الضبط الكتابي ليس إلا وسيلة مساعدة في هذه المهمة العظمى، ألا وهي حفظ القرآن الكريم،

كما أن ذلك ينطبق على كل الوسائل التكنولوجية الأخرى، كالتسجيلات وأسطوانات الكمبيوتر… إلخ.

*************************

(1) انظر: البرهان 1/293، مناهل العرفان 1/412.

(2) إعجاز القرآن، عبد الكريم الخطيب، ص203.

(3) انظر: الكشاف 2/83 ـ 84، البحر المحيط 4/316، معجم القراءات، د. عبد اللطيف الخطيب 3/76.

(4) فتح البارى: 2241، 2980، 4607، 4608، 4653، مسلم بشرح النووى: 1354، 1355.

(5) المواضع السابقة من الصحيحين.

(6) إيضاح الوقف والابتداء، ابن الأنباري 1/321.

(7) إعراب القرآن ومعانيه،الزجاج 1/465.

(8) رسم المصحف: دراسة لغوية تاريخية، غانم قَدّوري الحمد، اللجنة الوطنية للاحتفال بمطابع القرن الخامس عشر الهجري: بغداد،ص717 ـ 724 (بتصرف وإيجاز)، وانظر: تاريخ القرآن،د. عبد الصبور شاهين، ص7، القراءات القرآنية ص210، د. عبد الصبور شاهين، رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات، د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، وقد كتب الدكتور عبد الفتاح كتابه هذا أساسًا لمناقشة “جولدتسيهر” والرد عليه، وكذا كتب الشيخ/ عبد الفتاح القاضي كتابه “القراءات في نظر المستشرقين والملحدين” لهذا الغرض [انظر هوامش المرجع السابق ص719 ـ 720].

(9) انظر: مناهل العرفان 1/260 ـ 265.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى