العدل دوام العمران
رحم الله ابن خلدون وهو يناقش في مقدمته المشهورة ما يديم العمران وما يؤذن بخرابه، حيث خصص فصلا بعنوان (في أن الظلم مؤذن بخراب العمران)، يفصّل فيه بعض أنواع الظلم، والظلم ابتداء هو وضع الشيء في غير مكانه الصحيح، فيقول في هذا الفصل: “ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور؛ بل الظلم أعم من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله. واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال”.
ومن هنا نفهم ما جاء في الحديث القدسي المشهور: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا”، فالظلم من صفات النقص التي هي ضد الكمال، فالله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وليس هذا في الآخرة عند الحساب فقط، بل في كل ما أمر ونهى وشرّع سبحانه، وهو توجيه لكل الناس عموما، ولأهل المسؤولية خصوصا، فالناس تبع لحكامهم ومسؤوليهم.
يروى أن عمر بن عبد العزيز رفع له واليه الجراح بن عبدالله يقول له: إن أهل خراسان قومٌ ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن في ذلك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم. والسلام.
العمران الحقيقي (المادي والمعنوي معا) لا يقوم إلا برضى الناس وقناعاتهم وشعورهم بالعدل الذي ينبغي أن يسودهم، وأي ظلم ينشأ مؤذن بحصول ثلمة في قناعتهم هذه، وبالتالي في هذا العمران، وإذا كثر الظلم يخرب العمران، ولنا أن نتخيل أبعاد هذا الخراب، إذ قد يقع معه القتل والانهيار التام، كما حصل لحضارات اندثرت معالمها، وآثارهم تدل عليها.
مظاهر الظلم –كما يقول ابن خلدون- كثيرة تتجاوز المظاهر الواضحة التي لا يختلف عليها أحد، وبتتبع مواضع كلمة الظلم في القرآن ندرك هذه المظاهر، فكل شيء يوضع في غير موضعه فهو ظلم، فعبادة غير الله تعالى ظلم، والولاء لغير الله ورسوله والمؤمنين ظلم، والحكم بغير ما أنزل الله ظلم، وخداع النفس وغشها باقتراف ما يوردها المهالك ظلم لها (وهذا الذي ذكره الله تعالى بأنهم ظلموا أنفسهم)، وتنصيب الأقل خبرة في مناصب ومسؤوليات مع وجود مَن هم أعلم وأكفأ منهم ظلم، وهكذا. أما المظاهر الواضحة من سلب الناس أموالهم بغير حق، واحتقارهم وغشهم وتضييع حقوقهم ومحاباة أهل القربى وغير ذلك فهي مع وضوحها إلا أن انتشارها سبب أكيد لخراب العمران.
العقلاء يتجهون إلى دوام العمران، ويغلقون أبواب الخراب، والعدل كفيل بهذا، سواء كانت الدولة مسلمة أم غير مسلمة، وما نشوء الدول وتفوقها وتجاوز مشكلاتها إلا حين أقامت العدل، وتجاوزت أسباب الخراب وحاربت الفساد وسدّت أبوابه، وحين كرّمت الإنسان وأعطته حريته وحقوقه، هنا يعيش الناس أحرارا كراما منقادين تلقائيا لبناء وطنهم والنهوض به، بل لوجود الثقة بينهم وبين من يحكمهم تراهم يدفعون من خواص أموالهم ما يدعمون به سلطان دولتهم وقوتها وحضارتها.
الظلم طريق أكيد لاستعباد الناس وهدر كرامتهم، وحين تكون الغالبية من المواطنين عبيدا فأنّى لهذه الأوطان أن تنهض وتَعْمُر، بل أن تقف في وجه أعدائها، فمن أراد لسلطانه أن يدوم فلا بد من وجود الأحرار، ولا يكون الأحرار إلا حين يستشعرون العدل والتكريم، وحينها يؤدي كل واحد ما عليه من واجبات مختارا بل مندفعا، لأنه وثق بمن ولي أمره.
إن الدول التي تسعى إلى إفقار شعوبها والتلذذ برؤيتهم يستجدون الناس وينكسرون أمام قسوة الحياة، وسبب ذلك الظلم وفشل السياسات نتيجة لتنصيب من لا يستحق، فهنا تكون العلامات الأكيدة للخراب، ولو كان هذا الضيق ابتلاء عاما وتلاحم الجميع لتجاوز المرحلة بوجود ثقة بين الجميع –وهذا من مظاهر العدل- فحينها ينجو الجميع، بل تقوّيهم الشدائد، وينهضون مرة أخرى بوازع ذاتي، ويؤكدون على عمارة أوطانهم.
مصيبة كثير من الناس أنهم يرون الخلل واضحا، ولا يؤشّرون عليه، خوفا أو اجتهادا بأن الحكمة تأخير الحديث عنها وفق مبدأ ترتيب الأولويات، وينعق بعض المنافقين بشعارات تديم الظلم ومظاهره، فلا يلبث هذا الخلل أن ينتشر ويتعمّق حتى يصبح ثقافة، وتكون له أنياب ومخالب، وحينها يتسع الخرق على الراقع، ويعم الفساد ويحل الخراب.
المصدر : الغد الاردني