العدل في الإسلام أهميته وحقيقته
العدلمن القيم الإنسانية الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مقومات الحياةالفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، وهو ميزان الله على الأرض، به يُؤخَذللضعيف حقه، ويُنصَف المظلوم ممن ظلمه، والعدل مع من نحب ومن لا نحب، ولا يُفَرِّقُبين مسلم وغير مسلم، بل يتمتَّعُ به جميعُ المقيمين على أرض الإسلام
قيمة العدل في الإسلام
يُعَدُّ العدل من القيم الإنسانية الأساسيةالتي جاء بها الإسلام، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسريةوالاجتماعية والسياسية، حتى جعل القرآنُ إقامةَ القسط – أي العدل – بين الناس هوهدف الرسالات السماوية كلها، فقال تعالى: {لَقَدْأَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَوَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وليس ثمةتنويه بقيمة القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الله تعالىرُسُله، وإنزاله كتبه؛ فبالعدل أُنْزِلَتِ الكتب، وبُعِثَتِ الرسل، وبالعدل قامتالسموات والأرض[1].
وفي تقريرواضح وصريح لإحقاق العدل وتطبيقه ولو كُنَّا مبغضين لمن نَحْكُم فيهم، يقول اللهتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِوَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، ويقولأيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُلِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، قال ابنكثير[2]: “أي لايحملنَّكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كُلِّ أَحَدٍ؛صديقًا كان أو عدوًّا”[3].
فالعدلفي الإسلام لا يتأثَّر بحُبٍّ أو بُغْضٍ، فلا يُفَرِّقُ بين حَسَب ونَسَب، ولا بينجاهٍ ومالٍ، كما لا يُفَرِّقُ بين مسلم وغير مسلم، بل يتمتَّعُ به جميعُ المقيمينعلى أرضه من المسلمين وغير المسلمين، مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودَّة أو شنآنٍ.
مواقف من العدل في الإسلام
ومنالمواقف التي تدلل على ما سبق قصة أسامة بن زيد مع المرأة المخزومية،فلمَّا حاول أسامة بن زيدأن يتوسَّط لامرأة من قبيلة بني مخزوم ذات نسب؛ كي لا تُقطَعَ يَدُها في جريمةسرقة، ما كان من رسول الله إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، ثم خطب خطبة بليغة أوضح فيها منهجالإسلام وعدله، وكيف أنه سوَّى بين كل أفراد المجتمع رؤساء ومرءوسين، فكان ممَّاقاله في هذه الخطبة: “إِنَّمَا أَهْلَكَالَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ،وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْـحَدَّ، وَايْمُ اللهِ!لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”[4].
وقدروى الإمام أَحمد عن جابر بن عبد الله -رضي اللهعنهما-أنهقال: أفاء الله خيبر على رسول الله r، فأقرَّهم رسول الله r كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم؛ فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها[5] عليهم، ثم قاللهم: “يا معشر اليهود،أنتم أبغض الخَلْقِ إليَّ، قتلتم أنبياء الله ، وَكَذَبْتُمْ على الله، وليس يحملني بغضي إيَّاكم على أن أحيف عليكم؛قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم،وإن أبيتم فَلِي”. فقالوا: بهذاقامت السموات والأرض، قد أخذنا[6].
فرغم بُغض عبد الله بن رواحة لليهود إلاَّ أنه لم يظلمهم، بل أعلنها لهم صريحة أنه لا يحيف عليهم، وما شاءواأَخْذَهُ من أي القسمين من التمر فليأخذوه.
حقيقة العدل في الإسلام
وحقيقةالعدل في الإسلام، أنه ميزان الله على الأرض، به يُؤْخَذُ للضعيف حَقُّه، ويُنْصَفُالمظلومُ ممن ظلمه، ويُمَكَّن صاحب الحقِّ من الوصول إلى حَقِّه من أقرب الطرقوأيسرها، وهو واحد من القيم التي تنبثق من عقيدة الإسلام في مجتمعه؛ فلجميع الناسفي مجتمع الإسلام حَقُّ العدالة وحقُّ الاطمئنان إليها.
وإذاكان الإسلام قد أَمَرَ بالعدل مع الناس -كُلِّ الناسِ كما رأينا في الآياتالأُوَلِ- العدل الذي لا يَعْرِفُ العاطفة؛ فلا يتأثَّرُ بحُبٍّ أو بُغْضٍ، فإنهقد أمر بالعدل ابتداءً من النفس، وذلك حين أمر المسلم بالموازنة بين حقِّ نفسهوحقِّ ربِّه وحقوق غيره، ويظهر ذلك حين صدَّق رسول الله r سلمان الفارسي لمَّا قال لأخيه أبي الدرداء الذي جار على حقِّزوجته بِتَرْكِها، ومداومة صيام النهار، وقيام الليل: “إِنَّلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَحَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”[7].
وأَمَرَالإسلامُ كذلك بالعدل في القول، فقال تعالى: {وَإِذَاقُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، كما أمربالعدل في الحكم، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْبَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. كما أمربالعدل في الصُّلْـح، فقال تعالى: {وَإِنْطَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْبَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَإِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِوَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
تحريم الظلم في الإسلام
وبقدرما أَمَرَ الإسلامُ بالعدل وحثَّ عليه، حَرَّمَ الظلم أشدَّ التحريم، وقاومه أشدَّالمقاومة، سواء ظُلْـم النفس أم ظُلْـم الآخرين، وبخاصة ظُلْـم الأقوياء للضعفاء،وظُلْـم الأغنياء للفقراء، وظُلْـم الحُكَّام للمحكومين، وكلَّما اشتدَّ ضعفالإنسان كان ظلمه أشدَّ إثمًا[8]؛ ففي الحديثالقدسي: “يَاعِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْمُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا”[9].
ويقولالرسول لمعاذ: “… وَاتَّقِدَعْوَةَ الْـمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ”[10]. وقال: “ثَلاَثَةٌلاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ،وَدَعْوَةُ الْـمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَاأَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْبَعْدَ حِينٍ”[11].
وهكذاهو العدل.. ميزان السماء في مجتمع الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يوسفالقرضاوي: ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده ص133.
[2] ابن كثير:هو أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (701- 774هـ / 1302- 1373م) حافظ، مؤرخ،فقيه، ولد في قرية من أعمال بُصرى الشام، وتوفي بدمشق، من كتبه: “البدايةوالنهاية”. انظر: الحسيني: ذيل تذكرة الحفاظ ص57، 58. [3] ابن كثير:تفسير القرآن العظيم 2/43. [4] البخاري:كتاب الأنبياء، باب “أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ”(3288)، ومسلم: كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره (1688). [5] خَرَصَ:أي قَدَّر وحزَّر ما على النخيل من الثمار تخمينًا، انظر: العظيم آبادي: عونالمعبود 4/344، وابن منظور: لسان العرب، مادة خرص 7/21. [6] مسند أحمد(14996)، وابن حبان (5199) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والبيهقي: السننالكبرى (7230)، والطحاوي: شرح معاني الآثار (2856)، وعبد الرزاق: المصنف (7202)،وصححه الألباني، انظر: غاية المرام (459). [7] البخاري:كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفقله (1832)، والترمذي (2413). [8] انظر:يوسف القرضاوي: ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده ص135. [9] مسلم منحديث أبي ذر : كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2577)، وأحمد (21458)،والبخاري في الأدب المفرد (490)، وابن حبان (619)، والبيهقي في شعب الإيمان (7088)،والسنن الكبرى (11283). [10] البخاري:كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (4000)، ومسلم:كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (27). [11] الترمذي:كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية (3598) وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (1752)،وأحمد (8030) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بطرقه وشواهده.********************************
د. راغب السرجاني