المفكر الغربي ( دافيد هيوم ) – نقد علمي لفكره –
حياته :
ولد (( دافيد هيوم )) لأسرة إسكتلندية برجوازية ، وجهته أسرته إلى دراسة القانون . لكنه كان شغوفا بالفلسفة ، فخرج على رغبة أسرته في دراسة القانون واتجه إلى دراسة الفلسفة . بعد أن تخرج من جامعة ( أدنبره) اتجه إلى التجارة شان الأسر المتوسطة ( البورجوازية) في ذلك الوقت لكنه فشل في تجارته ، فتركها إلى الاشتغال بالكتابة . فسافر إلى فرنسا وهو في سن الثالثة والعشرين ، ومكث بها ثلاث سنين وهو يكتب ويحرر بعض المقالات ، ثم عاد إلى وطنه ليواصل الاشتغال بالتأليف ، ثم عين وزيراً في الحكومة البريطانية ، وبقى في منصبه عاما ً واحدا (( 1768م )) ثم ترك الوزارة وأقام بمدينة (( أدنبره)) مسقط رأسه ، واشتغل بتحرير فلسفته والتصنيف فيها حتى مات (( 1776م))
مؤلفاته :
سافر (( هيوم )) إلى فرنسا وهو في الثالثة والعشرين ، وظل ثلاث سنين يحرر مقالاته وآراءه فلما عاد إلى إنجلترا نشر أفكاره وآراءه تلك في مجلدين ، ثم أتبعهما بمجلد ثالث ، وكان من ذلك ما أسماه (( رسالة في الطبيعة الإنسانية )) ثم وضع كتاباً آخر تحت عنوان (( مقالات سياسية)) ثم نشر كتابا تحت عنوان : (( تاريخ بريطانيا العظمى )) الذي لقي قبولا من الأوساط الأدبية ، فخفف عنه فشله في كتابة الأول ، ثم كتب مؤلفا سماه (( محاورات في الدين الطبيعي )) لم يشأ أن ينشره في حياته ، خوفا من محتوى الكتاب الذي يهاجم فيه عقائد الناس ومقدساتهم . ثم وضع كتاباً في نفس الموضوع سماه : (( التاريخ الطبيعي للدين )) . أما كتابه (محاورات في الدين الطبيعي ) فقد نشر بعد موته بثلاث سنين فاكتمل بذلك مذهبه الإلحادي ، وأفكاره الضالة عن الدين وكل ما يتصل به . وقد تميزت أفكاره وكتاباته عن الدين بالسفسطة والمغالطة ، إلى مافيها من هجوم عنيف يدل على ما كان لدى الرجل من عداء للدين بكافة صورة
الأسس التي تقوم عليها فلسفته :
تقوم فلسفة (( هيوم )) الإلحادي على عدد من الأسس أهمها ::
أولاً : تنطلق فلسفته وآراؤه جميعها من الحس كمجال وحيد للمعرفة ، ومنبع فريد للإدراك . فالمعارف عنده تقوم على أساس حسي بحت ، والمادة الجامدة هي مصدر المعارف ، وليس هناك مصدر آخر يستقي الإنسان منه معارفه . وكل ما يتحدث عنه المتدينون من مصادر للمعرفة غير الحس والمادة ، فإنما هي أوهام لا حقيقة لها ، ولا وجود لها إلا في مخيلة أصحابها .
ثانياً : أكد على الذاتية في مقابل الواقعية والموضوعية . وذهب إلى أن معتقدات الإنسان وآراءه عن العالم الخارجي إنما هي من وحي خيال الإنسان ومن خلق أوهامه وأنها لا ترجع إلى العالم الخارجي، وإنما ترجع في حقيقة الأمر إلى ما يتوهمه الإنسان عن العالم الخارجي ، وذلك نتيجة لما لديه من معتقدات سابقة ، ومدركات ذهنية مختزنه ، فهو يسقط كل ذلك على العالم الخارجي ويفسره بها ، فتكون الحصيلة أن يعلن عن ذاته . وعن مكونات نفسه ، ولا يعلن عن الحقائق الخارجية التي يزخر بها العالم الواقعي .
ثالثاً: استمراراً في تأكيده على الذاتية في مقابل الموضوعية ، ونتيجة لذلك ، فقد جعل أفعال الإنسان وسلوكه إنما هي ردود أفعال لما يعتمل في نفسه من إحساس باللذة أو الألم ، واستجابة لكل ما يشعر به اتجاه الأشياء من سعادة أو شقاء ، فأفعال الإنسان تحكمها الحواس الظاهرة من الإحساس باللذة والألم ، ويتبع الحواس الظاهرة الحواس الباطنية مثل المحبة والكراهية ، أو الرجاء والخوف ، والفرق بين الحواس الظاهرة والحواس الباطنية أن الأولى مباشرة ، فاللذة والألم يحس بها الإنسان مباشرة من مصادر كل منهما . ثم يأتي رد الفعل بعد ذلك على هيئة إحساس باطني أو انفعال وجداني ، فنحب النوع الأول ، ونحرص عليه ونرجو تحقيقه ، ونكره النوع الثاني الذي هو الألم ، ونتجنبه ونفر منه .
رابعاً : تأكيدا على ماتقدم ، وتأسيسا عليه ، يذهب (( هيوم )) إلى أن الفرق بين ما هو خير ، وما هو شر ، إنما يكمن فيما ينتج من كل من لذه أو ألم ، فالفيلسوف (( هيوم)) يربط بين اللذه والخير ، والألم والشر ، فكل ما سبب للإنسان لذة أو سعادة فهو خير ، وكل ما سبب له ألماً أو تعاسة فهو شر .وبالتالي فإن الفضيلة والرذيلة تخضعان لنفس المقياس ، مقياس اللذة والألم ، فكل ما يحقق للإنسان لذة فهو فضيلة ، وكل ما يسبب له ألماً فهو رذيلة .
ويأتي هنا سؤال هام وخطير : أين محل إرادة الإنسان من كل هذا ؟ ثم ما أثرها في توجيه الإنسان ما دامت أفعاله ردود أفعال؟
والجواب الواضح والحتمي بناء على المبادئ التي يعتنقها (( هيوم)): إن إرادة الإنسان الحرة المختارة لا وجود لها ، إن الإنسان يتحرك كآله تحركها مشاعر الألم واللذة ، وتتحكم فيها أو هامة ، وخيالاته عن العالم الخارجي ، الذي لا يتعامل معه إلا من خلال ردود الأفعال .
وهكذا قضى الرجل على الأخلاق على مرحلتين :
الأولي : حين ربط بين الخير واللذة ، والشر والألم ، ثم ربط الفضيلة إلى اللذات ، والرذيلة إلى الآلام ، فجعل الأخلاق في أساسها تقوم على أصول حسية مادية بحتة .
الثانية : حين جرد الإنسان من مسئوليته على أفعاله بأن جعل كل أفعاله إنما هي ردود أفعال ، وقيد إرادته الحرة التي تقوم عليها المسئولية الفردية والخلقية بما يحس به من لذة وما يحس به من ألم ، فإنه يندفع إلى الأولى بلا وعي وينفر من الثانية كذلك بلا وعي .
مفتاح شخصيته :
1- طبق الفيلسوف مبدأه في ذاتية المعارف في مقابل موضوعية العالم الخارجي على قانون السببية والعلية .
فقد أنكر أن يكون هناك قانون للسببية أو العلية ، بل إنه أنكر ما يسمى بالأسباب والعلل . مدعيا أن ما يزعمه الناس من قوانين للأسباب والمسببات ، أو العلل والمعلولات ، إنما هو من أوهام النفس وخداع الذات ، وأن الواقع أنه لا يوجد ما يسمى بالسببية أو العلىة .
أما كيف يفسر الرجل دعواه هذه؟
فإن الرجل يدعي أن ما يسمى سببا وما يسمى مسبباً ، كل منهما ظاهرة منفصلة تماما عن الأخرى ، وانه لا توجد أية علاقة حقيقية بين الظاهرتين ، كل ما هنالك أن الناس لاحظوا أن الظاهرة الثانية تأتي عقب الظاهرة الأولى ، فربطوا بينهما بسبب اقترانها في الوجود زماناً ومكانا ، وهذا الربط إنما هو افتراض ذهني ذاتي قائم على تداعي المعاني ، ولا حقيقة له فالإنسان يشعل النار ، وهذه ظاهرة ، ثم يشعر بالحرارة والدفء ، وهذه ظاهرة أخرى قد جاءت عقب الظاهرة الأولى ، ولا يوجد دليل في العقل أو الواقع على ضرورة وجود الظاهرة الثانية دائما عقب وجود الظاهرة الأولى كمالا يوجد دليل على علاقة بين الظاهرتين .
وهو يضرب مثالا بكرات (( البلياردو )) التي يضرب اللاعب بإحدى الكرات لتصطدم بالكرات الأخرى وتحركها إلى حيث يريد اللاعب .. فيقول : إنني أرى كرة البلياردو تتحرك ، فتصادم كرة أخرى ، فتتحرك الأخرى ، وليس في حركة الأولى دليل على ضرورة تحرك الثانية حين تصطدم بها الأولى . ويضرب الرجل مثالاً ثالثاُ يقوم على تحرك أعضاء الجسم تبعاً لإرادة الإنسان فيقول : نرى الإنسان يريد أن يأكل تفاحة وضعت أمامه, فتتحرك يده لتلقط التفاحة وترفعها إلى فمه, ويبدأ في قضمها مرة بعد مرة, ولا توجد علاقة بين رغبة الإنسان في أكل التفاحة ، وامتداد يده إليها ورفعها إلى فمه . فالرجل يدعي أنه لا علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده نحو التفاحة وحملها إلى فمه ، ويرفض أن تكون إرادة الإنسان هي السبب أو العلة في حركة اليد . ويقول :
(( أنا لا أدري كيف يمكن لفعل ذهني – يقصد إرادة الإنسان – أن يحرك عضوا ماديا ً – يقصد يد الإنسان – إني لا أدرك علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده ))
إن الرجل يرجع قانون العلية والسببية إلى ما سماه قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان
وهو يقصد بالتقارن في الزمان والمكان ـ أن ظاهرة السبب وظاهرة المسبب قد ألف الناس اقترانها في الوجود معاً متعاقبين في نفس الزمان والمكان ، فقد ألف الناس أن اصطدام العصا باليد – في حالة الضرب بالعصا – تحدث شعورا بالألم ، وأن هناك اقترانا بين الأمرين أو الظاهرتين في الزمان والمكان . فبسبب هذا الاقتران توهموا علاقة بين الظاهرتين سموها علاقة السببية !!
وقد تحقق نفس الألم عقب الاصطدام بين العصا واليد ، في كل مرة يحدث ذلك ، فهناك تشابه في كل الحالات . وهذا ما سماه الرجل ( قانون التشابه )!
فهو يزعم أن القول بالسببية والعلية ناشئ عن هذا الاقتران والتشابه . ويسمى ذلك : قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان ويسميها كذلك : (( قوانين تداعي المعاني )) ويفسر قانون تداعي المعاني بقوله :(( إن ما يسمى بالعلة شئ كثر بعده تكرار شئ آخر حتى إن حضور الشيء الأول يجعلنا – عن طريق تداعي المعاني – دائما نفكر في حضور الشيء الثاني )).
موقف(( هيوم )) من الدين :
(( هيوم)) فيلسوف ملحد لا يؤمن إلا بالمادة وحدها ، ولا يرى وسيلة للمعرفة إلا الحس الذي يستقي معارفه ، ويستمد علومه من المادة . وهو يرفض الإيمان بأي شئ خارج نطاق العلم الطبعي المحسوس . ومن ثم فقد أعلن (( هيوم)) الحرب على الدين ، وسخر فلسفته في جانبها الأكبر والأهم لمحاربة الدين ، وإقامة أوهامة التي اعتبرها أدلة على بطلان الدين ، وإثبات أن الدين ما هو إلا خرافة ووهم من الأوهام التي تعود إلى الذاتية ، والتي لا حقيقة لها في الخارج .
ليس هذا فحسب ؛ بل إن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها فلسفة هذا الملحد إنما وضعها وأكد عليها ليصل من خلالها إلى إثبات أن الدين باطل ،وإنه من أوهام النفس وخيالات الذات .
وواضح أن الرجل بدأ ملحدا، ثم رسم لنفسه من بدايات اشتغاله بالفكر والتفلسف أن يسخر فكره وفلسفته لهدف واحد ، وهو حرب الدين ، والقضاء عليه في نفوس المتدينين .. ولذلك فنحن نستطيع أن نحدد نقطة الانطلاق في فكر الرجل وفلسفته ، ونبين الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها مذهبة بأنها : الإلحاد .
الإلحاد – إذن – هو مفتاح شخصية الرجل والمحور الذي يدور عليه فكره وهذا يتضح من المجهود الذي بذله طوال حياته من خلال مؤلفاته . وإن نظرة إلى مؤلفاته يتضح منها أنه لم يكتب شيئا في الفلسفة والفكر إلا حول الإلحاد ، ومحاربة الدين .
فنحن إذا استثنينا مؤلفة : (( مقالات سياسية )) ثم مؤلفه الآخر الكبير : (( تاريخ بريطانيا العظمى )) . وهما كتابان في شئون بعيدة عن الفلسفة ، أوأن صلتها بالفلسفة صلة محدودة فإن مؤلفاته الأخرى جميعها تدور حول الإلحاد وتأكيده ، وبيان افتراءاته على الدين .
ونحن لا نهتم كثيرا بكفره بالنصرانية البروتستانتية التي يدين بها قومه – وإن كان النصراني أفضل من الملحد – لكن الذي يهمنا أن الرجل لم يقف حربه على النصرانية ، ولكنه حارب الدين بكل صورة ، واخذ يركز حربه كلها وافتراءاته جميعها على وجود الله – سبحانه وتعالى عما يصفون – ومن ثم فلم يعد الأمر وقفا على نصرانيته ( المحرفة ) ، بل أصبح الأمر عاما شاملا لكل دين ؛ حتى الدين الحق ( الإسلام ) .
•وقد وضع الرجل مبادئ فلسفته لهذا الهدف الخبيث .
1-فهو حين أنكر علاقة الفكر الإنساني بالواقع ، وأكد على الذاتية في مقابل الأمور الخارجية ، والحقائق الموضوعية ، واتهم الإنسان بان كل ما يدعيه من معارف إنما هي ناشئة عن أوهامة الذاتية ، إن الرجل حين وضع هذا المبدأ أو روج لهذه الفكرة ، إنما أراد أن يقرر أن المتدينين ، وكل من يعبد ربه ، وكل من يخضع لإلهه ، أيا كان ذلك الدين ، فإن هؤلاء جميعا واهمون ، وأن الدين وكل ما يتصل به من عقائد وعبادات ، إنما هي من أوهام الذات التي لا صلة لها بالواقع .
2-وهو حين أنكر قانون السببية والعلية ، فإنه فعل ذلك ليصل إلى إبطال الأدلة على وجود الله – سبحانه وتعالى ..
إن أشهر الأدلة وأقواها على وجود الله – سبحانه وتعالى – وأكثرها شيوعا بين عامة المتدينين إنما هو الدليل القائم على الانتقال من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، إن الفطرة ، وبديهية العقل ، ومسلمات الفكر وأولياته تجعل لكل فعل فاعلا، وتجعل من الفعل دليلا على فاعله ، ومن قديم والناس يستدلون على الخالق – سبحانه وتعالى – من خلال خلقه ، كما يستدلون بوجود صنعة ما على وجود صانعها ، بل إنهم ليستدلون على صفات الصانع من خلال ما يرون في الصنعة من حكمة وإبداع وإتقان فيقولون : صانع بديع حكيم
أو قد يرون في الصنعة خلاف ذلك أو عكسه ، فيصفون الصانع بما يناسب ما رأوا ، هكذا كان الناس ، وهكذا هي فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها ، لا غرو ، قد لفت الله – سبحانه وتعالى – الناس إلى خلقه ودعاهم إلى أن ينظروا إلى ما في ذلك الخلق من إتقان وعناية وحكمة وإبداع ثم إلى الإيمان بالخالق الذي خلق وأتقن وأبدع فإن الخلق آية وعلامة على الخالق . يقول عز وجل :
((32) وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) .
هذه الأدلة وغيرها قائمة على أساس من قوانين السببية والعلية ؛ بمعنى أن انتقال الإنسان من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، هو من باب انتقاله من المسبب إلى سببه أو من المعلول إلى علته .
إذا عرفنا ذلك ؛ وقد عرفنا قبل ذلك أن (( هيوم )) ملحد ، وقد نذر نفسه للانتقاض على الدين والمتدينين وسد الطريق أمام الناس الذي يصلون من خلاله إلى الاستدلال على وجود الله – سبحانه – فماذا هو فاعل ؟
إن ذلك الشيطان فكر وقدر ، قتل كيف قد ، ثم وجد أن أيسر الطرق إلى القضاء على الدين ، وتجفيف منابع التدين في نفوس المتدينين ، إنما هو القضاء على قانون السببية ،وإبطال كل علاقة بين السبب والمسبب حتى لا يقيم الناس من المسببات التي هي المخلوقات ، طريقا أو قنطرة يصلون من خلالها إلى المسبب أو الخالق – جل الله و عز .
إذن ؛ فكل هذه الثورة من الفيلسوف الملحد على قانون السببية ، وهو قانون فطري بدهي ، عبر عنه البدوي قديما بقوله : ( البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا تدل على العليم الخبير )؟ والذي ذكره العربي القديم فطرة الله في كل الخلق فهو ليس قصرًا على العربي لأنه لا يرجع إلى عروبته التي تخص جنسه ، بل يرجع إلى إنسانيته أو فطرته كإنسان ، وتلك تجمع الخلق كلهم ، فما أحس به العربي وأشار إليه من الانتقال من الفعل إلى الفاعل ، أو من المسبب إلى السبب ، فطرة الله في الخلق أجمعين ، ولذلك حينما فكر الفيلسوف الملحد دله شيطانه أن يتوجه بالطعن إلى الأسباب والمسببات ، فيبطل العلاقة بينهما ، ثم تكون النتيجة إبطال الانتقال من المسبب إلى سببه وهكذا يقضي ذلك الشيطان على شجرة المعرفة وأصلها فهو يحمل معوله ليضرب به في أصل الشجرة ، ليقطع جذعها ، وليس غصنا من أغصانها
والرجل الملحد لم ينكر ذلك . بل صرح به في كتبه كلها التي وضعها لهذا الهدف ، فهو يردد في كل ما كتب ( أن الصنعة لا يمكن أن تدل على صانع لها إلا إذا رأينا الصنعة في يد الصانع يقوم بتشكيلها ، ورأيناها تخرج من بين يديه ، إننا حكمنا بأن الساعة لها صانع ، لأنا رأينا الصانع يقوم بصنعها ، لكنا لا نستطيع أن نطبق ذلك على الكون ، لأنا لم نر الكون داخل مصنع ، والصانع يجتهد في صنعه ) !
ويقول : (( لماذا نبحث للمادة عن صانع مفارق – ولماذا لا نمد المادة إلى لا نهاية ثم نجعلها هي الله فيكون الإله أمامنا ومن بيننا ) ؟
واخيراً يقول 🙁 إذا كنا سوف نتمسك بقانون السببية ،وأن كل موجود له سبب ؛ فسوف نجد أنفسنا مطالبين بالسير في القانون إلى نهايته فنبحث عن سبب لوجود الله نفسه ) !
بين الغزالى وهيوم :
لا يسع القارئ عن موقف ( هيوم) من قانون السببية والعلية ، إلا أن يتذكر ( أبا حامد الغزلي – رحمه الله -) وموقفه من السببية كذلك . فإن ( أبا حامد الغزإلى ) قد أنكر قانون السببية ، وقد يكون الفيلسوف الملحد ( هيوم) قد قرأ عن موقف أبى حامد من السببية فنحا نحوه ، وانتهج طريقه ، لكن ينبغي أن نعرف أن ثمة فارقًا شاسعا بين الاثنين ، فلا نجمع بينهما في حزمة واحدة ، لمجرد أن جمعهما طريق إنكار السببية ، فإن الطريق الواحد قد يسلكه اثنان : طبيب ليحيي نفسا مريضة ، وسفاح لقتل نفسا صحيحة . وإن السكين الواحدة لتقع في يد اثنين : أحدهما ليسفح بها دم بهيمة أحل الله – سبحانه – ذبحها ، والثاني ليسفح بها دم نفس حرم الله – تعالى – قتلها . فأبو حامد الغزلي أنكر السببية ، وكذلك فعل هيوم ، لكن هناك فروقا بين الرجلين ، وأهم هذه الفروق والاختلافات بينهما ما يتصل بالمنطلق والنتيجة . ونعنى بالمنطلق ؛ السبب الذي حدا بكل منهما إلى إنكار قانون السببية ، ونعنى بالنتيجة ؛المحصلة النهائية التي وصل إلىها كل منهما من خلال مذهبه في إنكار السببية.
أما من حيث المنطلق :
فقد أنكر ( أبو حامد ) السببية كرد فعل لما كان عليه الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام ،حيث ذهبوا إلى أن العلاقة بين السبب والمسبب علاقة حتمية ضرورية وأن نقض هذه العلاقة من المحالات ، بل ذهبوا إلى أن الأسباب تفعل في مسبباتها بذواتها ، ومن هنا فقد أنكروا خرق العادات، وشغبوا على المعجزات للأنبياء ، والكرامات للأولياء ، ونحن نعرف أن (( أبا حامد)) قد نذر حياته لحرب الفلاسفة ، وفضح آرائهم ، وبيان فساد عقائدهم . فكان من شدة رفضه مذاهبهم ، والحرص على مخالفتهم في كل ما ذهبوا إليه ، أن وقع فيما وقع فيه من تطرف شديد ، كرد فعل لما ذهبوا إليه .أما الفيلسوف الملحد ( هيوم ) ، فقد سبق أن منطلقة في مذهبه إنما كان الرغبة الشيطانية عنده في محاربة الدين ، ونفى الأدلة على وجود الله –سبحانه وتعالى – وقد بينا ذلك أفضل بيان ، وأن فلسفته كلها تقوم على تحقيق تلك الرغبة الشيطانية .وأما من حيث النتيجة التي وصل كل منهما إليها في فلسفته ؛ فإن ( أبا حامد )- رحمه الله تعالى-، قد أكد على عقيدته في أن الله –سبحانه – هو الفاعل التام الحقيقي في ذلك الوجود ، وأن الأسباب لا تفعل بذواتها ، وإنما هي أمور عادية مألوفة ، آثارها في مسبباتها موقوفة على إرادة الله تعالى ، أما الفيلسوف الملحد ، فقد التزم الهدف الذي سعي إليه وأكد على النتيجة التي ظن أنه قد حققها من خلال أوهامه وأضاليله في إنكار السببية ، وإبطال الأدلة على وجود الله عز وجل . وقد هلك الرجل وهو يظن أنه قد حقق ما أراد . ولكنه لم يهلك حتى رأى ثورة الكثيرين ووقوفهم ضد أفكاره الإلحادية مما دفع به إلى أن يمسك عن نشر أحد كتبه التي يهاجم بها الدين بعنف وهو (محاورات في الدين الطبيعي ) فلم ينشر إلا بعد موته بثلاث سنين ، بهذا يتضح أن بين الرجلين الرافضين قانون السببية من الخلاف كمثل ما بين سماء الله وأرضه. فهما يختلفان من حيث السبب الدافع لكل منهما إلى رفض ذلك القانون ، ويختلفان من حيث السبب الدافع لكل منهما ليرفض ذلك القانون ، ويختلفان كذلك في النتيجة والهدف والغاية التي توخى كل منهما تحقيقها والوصول إليها.
نقد آراء هيوم :
إن الذي يتعرض لنقد الآراء الباطلة ، والفلسفات الفاسدة ، يجد نفسه أمام نوعين ؛ منها نوع خفي البطلان ، مستور الفساد ، يحتاج من الناقد ذكاء في الذهن ، ودقة في النظر وعمقا في التحليل ، وصبرا على التنقيب بين ثنايا تلك الفلسفات ، وخبايا هذه الآراء ، حتى يستطيع أن يظهر ما كان منها خفيا ، ويكشف ما كان منها مستورا ، ويبين للناس فسادها وبطلانها ، ولكن بعد جد وجهد ومثابرة .
والنوع الثاني : من تلك الآراء والفلسفات على عكس النوع الأول ، ظاهرة الفساد واضح البطلان، بين الزيف ، لا تحتاج من الناقد جهدا ، ولا تكلفه مشقة ، بل إن بعض هذه الفلسفات الفاسدة ، والآراء الزائفة الباطلة ، لتكون من وضوح البطلان ، وظهور الفساد إلى الحد الذي لا يجد الناقد ما يقوله فيها ، حيث يكون فسادها أوضح من أن يوضح ، وبطلانها أظهر من أن يحتاج إلى إظهار
وآراء هذا الفيلسوف الملحد التي نعرضها للنقد ، هي من النوع الثاني ، إذ هي بينه الفساد ، واضحة البطلان . لكنا نزيد ذلك بيانا ووضوحا ، فنتناول أفكارها الأساسية التي قامت عليها تلك الفلسفة بالنقد في نقاط محددة .
أولاً : إن الرجل الملحد يصدر آراءه وفلسفاته على صورة تقريره بحتة ، دون أن يكون لدية دليل على أي منها . فهي آراء وأفكار لا وجود لها إلا في ذهنه المريض فقط ، وإذا ما طالبناه بدليل على شيئ مما يقول ، لم نجد لديه سوى ادعاءاته ، وافتراضاته ، وسوف يتضح لنا ذلك من مناقشة آرائه فيما يلي .
ثانيا: ادعاؤه بأن الناس يعيشون داخل ذواتهم ، وأن صلاتهم بالعالم الخارجي مقطوعة ، وأن كل ما يعرفه الإنسان عن العالم الخارجي إنما هو أوهام من صنع نفسه ، ولا صله لها بالواقع . هذا الادعاء أوضح في البطلان من أن يوضح ، فإن العالم الذي نعيشه حقيقة واقعة ، ونحن نتعامل مع قوانينه ومعطياته في كل لحظة من لحظات حياتنا ، وليس هناك ما يختلف حوله الناس من تلك القوانين والمعطيات ، فهل يختلف الناس على أن النار محرقة ؟ وهل هذه حقيقة من الحقائق الخارجية أم أنها وهم من أوهام الذات ؟ إن الناس يأكلون ليشبعوا من جوع ، ويشربون ليرووا من ظمأ ، ويتداوون ليبرأوا من مرض ، ويبيعون ويشترون فهل كل هذه أوهام ذاتية ؟ أم أنها حقائق خارجية ؟… ثم إن الفيلسوف الملحد نفسه عندما كان يشعر بالجوع ؛ هل كان يسارع إلى الطعام ليحفظ على نفسه حياته ؟ أم أنه كان يقول لنفسه ما يقول للناس في فلسفته : إن شعوره بالجوع وهم من أوهام ذاته، ثم يجلس بلا طعام حتى يهلك ؟ إنه لو فعل لأراح الناس من أباطيله ، لكن سلوكه نفسه يدل بوضوح على بطلان ما يدعيه .
ثالثا : مثل ما ذكرنا في النقد السابق ، نذكر هنا في نقدنا موقف الرجل من قانون السببية ، فإن قانون السببية أمر واقع ، والجدال حوله ، والتشكيك فيه تحت أية مبررات إنما يعتبر صداما مع الواقع ، وجحدا للحقائق الموضوعية التي يزاولها الناس منذ خلقوا . وإن حياة الفيلسوف الملحد نفسها وسلوكه في كافة شئونه لتدل دلالة واضحة على كذبه وفساد آرائه . إنه كان يأكل وشرب ويتداوى ، فهل كان يفعل ذلك إلا لأن هذه أسباب تؤدي إلى مسبباتها من الشبع ومن الري ومن الشفاء ؟… إن هذا الذي يطعن في السببية وينكرها عاش حيته ملتزما بقوانين الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ،إنه لم يزد في فلسفته تلك على أن أعلن نفاقه وكذبه في دعاواه الباطلة ، إذ يطلع على الناس بأفكار وآراء هو أول من يكذبها ويرفض التعامل معها.
رابعا : زعمه أن الإنسان يعيش حياته شبه آلة تحركها الشهوات ، وتنحصر أفعاله كلها في ردود الأفعال تجاه ما يسبب له لذة أو ألما ، ثم ربطه الأخلاق باللذات والآلام ، وجعله الخير هو اللذة ، والشر هو الألم ، كل ذلك يتمشى معه كفيلسوف ملحد ، ويتفق مع نظريته في المعرفة التي حصرها في الحس . فالحس عنده هو المصدر الوحيد للمعرفة ، ولا يقر بآي مصدر آخر للمعارف سوى هذا المصدر المادي المحدود .لكن هل جاء بشيء جديد ؟ إنه لم يزد على أن أضاف للحسيين الماديين الملاحدة دابة أخري هي من شر الدواب الذين قال الله – تعالى – فيهم : ( إن شر الدوآب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) .
فهو لم يأت في هذا الجانب بجديد ، سوى أنه حول نفسه آله حسية مادية جامدة . لا تتحرك إلا طلبا للذة الحسية المسفة ..
ورغم ذلك فإن مذاهبهم باطلة من سلوكهم أنفسهم .. أليس الواحد يتجرع الدواء المر طلبا للشفاء ؟ فلماذا أقبل عليه رغم أنه يسبب له ألما ؟ ولا يجلب له لذة حسية ؟ أليس الواحد منهم يجري عملية جراحية فيها آلام حسية ، وفيها شق اللحم وإسالة الدم بل وبتر عضو ، كل ذلك طلبا للشفاء ؟ فلم يفعلون ذلك ؟.. إن هذه السلوكيات فيها تكذيب واضح لما ادعاه الرجل ولكل ادعاءات السابقين عليه من أصحاب مدارس اللذة الحسية في فلسفة الأخلاق مثل الأبيقوريين ومن جرى مجراهم .
خامساً : نأتي إلى أخر رحلتنا مع الملحد لنناقش فكرة وفلسفته حول وجود الله سبحانه .. ونحن لن نناقشه في إلحاده ، فالملاحدة كثر في كل زمان ومكان . ولكن يهمنا هنا أن نناقش دعواه التي يقول فيها : إن البحث عن علة للوجود المادي يدفع بنا إلى أن نبحث عن علة لله نفسه – سبحان الله وتعالى عما يصفون – .
إن الخطأ الذي وقع فيه الرجل ويقع فيه كل من على شاكلته أنهم لا يفرقون بين الأسباب الناقصة والأسباب التامة ، أو بين الأسباب الوسائطية والأسباب النهائية . أنهم يخلطون بين هذه وتلك, وعلتهم ليس في خفاء هذه الحقيقة البسيطة ، ولكن علتهم في قلوبهم المريضة ، لأن هذه الحقيقة بديهية لا تخفي على أقل الناس فهما وأدناهم ذكاء .
فالأسباب التي نزاول حياتنا من خلالها في هذا الوجود إنما هي أسباب وسائط . وخبرة مسخرة لغيرها ، ولها مسبب ومسخر. والمسببات التي تنشأ عن هذه الأسباب إنما ترجع إلى هذه الأسباب مباشرة من قريب ، لكنها ترجع في حقيقة الأمر إلى مسبب لها تام .. فنحن نأخذ الدواء . والدواء سبب في شفاء المرض . والشفاء يرجع إلى سببه المباشر وهو الدواء ، لكن الدواء سبب ناقص ، وهو في نفسه مسبب عن السبب التام ، أو الفاعل التام الذي بيده الشفاء ؛ الذي هو الله – سبحانه .
ونحن نستطيع أن نقرب القضية بمثال .. فإن الدواء سبب في الشفاء لكن الدواء نفسه مسبب وسببه هو الصيدلي الذي أعده في صيدليته ، والصيدلي نفسه لم يأت بذلك من نفسه ، بل إن السبب في إعداده الدواء هو الطبيب الذي أرسل إليه ورقة فيها تحديد الدواء المطلوب لهذا المريض ، ثم إن الطبيب نفسه مدين بعلمه ذلك لمن علمه ، فهو السبب في أن الطبيب عرف المرض ووصف الدواء … وهكذا تمشي سلسلة الأسباب والمسببات ، وكلها تترقى من مستوى إلى مستوى ، لكنها جميعها مشتركة في أنها أسباب ناقصة ، بمعنى أنها في حاجة إلى من يقف وراءها ، مثل الدواء ، فإنه سبب محتاج إلى الصيدلي ، والصيدلي سبب لكنه محتاج إلى الطيب وهكذا . تمشي تلك السلسلة ، ولا نجد من بينها سببا كافيا مكتفيا بنفسه ، بل كلها معلولات لما قبلها . وذلك هو معنى كونها أسبابا وسائط ،وهذا النقص يصل بنا إلى السبب التام ، الفاعل الكامل ، الذي هو وراء كل شيء يجري في هذا الوجود ، خالق الكل ، ومدبر الكل، ومقدر الكل، والذي بيده كل شيء ، يحتاج إليه الكل وهو غني عن الكل – سبحانه وتعالى عما يصفون ..
والفرق بين السبب الوسيط والسبب الكافي التام ، أن السبب الوسيط لا يفعل ولا ينتج إلا في إطار السبب التام . الذي هو في حقيقة الأمر مسبب جميع الأسباب ومسخرها والمتصرف فيها .
ويتضح هذا في كل شئون الحياة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فقد يكون أمام الطبيب الحاذق حالتان مرضيتان ، وهما متشابهتان في المرض والعلة . وإحداهما شديدة ، والأخرى بسيطة خفيفة . ويصف نفس العلاج والدواء للحالتين مع اعتقاده أن أحد المريضين حالته ( ميئوس منها) – كما يقولون عادة في مثل هذه الأحوال – والآخر حالته الصحية جيدة وسيبرأ سريعا . لكن ، يفاجأ الطبيب ومن حوله أن المريض الأول قد برأ من مرضه ، ونقه وشفي ، وأما الآخر فقد انتقل إلى الدار الآخرة !
إن هذا ليس فشلا من الأسباب الوسائط ، فالطبيب حاذق جيد ، والدواء جيد ، وطريقة العلاج موفقة , لكن الأصل في كل هذه أنها مجرد وسائط ، وتبقى الكلمة الأخيرة والمصير النهائي للسبب الكافي والفاعل التام وراء كل هذه الوسائط .. إنه الله – سبحانه – خالق كل شيء . والذي بيده مقاليد كل شيء .
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة – عرض ونقد – ، للدكتور : محمود مزروعة – وفقه الله – ، ص 169-185).