مقالات

دور الأقباط في الحروب الصليبية

دور الأقباط في الحروب الصليبية

وجاء دور الأقباط فى الحرب الصليبية عندما انتقل ميدان هذه الحرب إلى مصر نفسها وقد اتجه الهجوم الصليبى إلى مدينة دمياط بقيادة “جان دى برين “.
ووقعت بين الأقباط عندئذ حوادث تدل على التحدى والتواطؤ مع العدو.
ونحن نجتزئ بسرد الوقائع، ففى سردها ما يغنى عن التعليق، وسنذكرها بقلم الكاتب الصليبى (جاك تاجز )  نفسه فى ص 166 قال: ” لما نزل “جان دى بربن ” على ساحل، دمياط، واحتل المدينة، قلقت السلطات المصرية، وأخذ أولو الأمر يتساءلون: عما إذا كان نصارى مصر سيستقبلون الإفرنج بحفاوة، كما استقبلهم نصارى الأرمن والسوريين، وتساءلوا أيضا: هل من الحكمة أن يحولوا دون هذا التعاون الذى قد يؤدى إلى عواقب خطيرة بالنسبة إلى المسلمين؟ “.

يا عجبا! كيف لا تحول الحكومة دون هذا التعاون الشائن؟!.
أكان الكاتب ينتظر من حكومة تدافع عن البلاد أن تترك فريقا من السكان يساعد المغيرين؟.
يقول: ” ومما زاد المشكلة تعقيدا أن كان فى ” دمياط” نفسها عدد كبير من النصارى الملكيين ” وتسأل: ما الذى حدث فى ” دمياط” عند بدء الغزو؟.
يقول الكاتب (جاك تاجز) فى ص 169: ” إننا نستطيع تقديم بعض التفاصيل عما حدث بفضل التقرير الذى وضعه “الكونت دى شامبانى ” عن هذه الحملة: علمنا أنه بينما كان ” لويس التاسع ” يستعد لمحاصرة ” دمياط ” قام المسلمون بقتل جميع النصارى القاطنين بالمدينة بلا شفقة ولا رحمة، وفى اليوم التالى وجد الصليبيون مدينة دمياط خاوية.
أما النصارى الذين فروا من المدينة ونجوا من القتل فقد عادوا إليها وأعملوا سيوفهم فى رقاب المسلمين الذين لم يساعدهم كبر سنهم أو مرضهم على اللحاق بالجيش الإسلامى المتقهقر.
فإن هؤلاء النصارى خفوا إلى استقبال الصليبيين الذين اعتبروهم كإخوتهم، وأشركوهم فى موكب انتصارهم “.
هذا هو التقرير الذى ترجمه الكاتب على عهدته، ومع أنه من مصدر صليبى إلا أنه بين الدلالة فى موضوعه، ولا نلاحظ عليه إلا تناقضه.
فقد زعم أن المسلمين قتلوا نصارى المدينة جميعا.
ثم إذا بأولئك النصارى يؤلفون جيشا يعود فيقتل من بقى من المسلمين بالمدينة وهم العجزة والمرضى!!.
وهذا تلفيق للحوادث قصد به تبرير الخيانة الفاضحة التى جعلت الأقباط ينضمون إلى الصليبيين فى حملتهم على مصر.
ويظهر أن وسائل إنجاح الحملات الصليبية لم تقتصر على المعونة العسكرية فحسب فإن نقل الأخبار النافعة لهم والتجسس لمصلحتهم أيسر على من يبغى مساعدتهم، فقد نقل الكاتب عن المؤرخ “ميشو” فى كتابه وثائق عن الحرب الصليبية ” أنه جاء فى رسالة أحد الصليبيين ما يلى: ص 170.
“..
لدينا بعض المؤمنين الشرقيين الذين يمكن الاتكال عليهم.
فهم يعرفون البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وكذلك الأخطار التى قد تصادفنا فيها، وأنهم تلقوا سر العماد بتقوى حقيقية!.
والعبارة الأخيرة تحدب أن أولئك الجواسيس نصارى شرقيون.
فإن الكاثوليك يعتبرون اليعاقبة وأشباههم ملحدين، أو مسيحيين مزورين.
وقد جاء فى الكتاب الذى أرسله الصليبيون إلى “أوريانوس “: ” لقد هزمنا الأتراك والوثنيين، ولكنا لا نستطيع استعمال العنف مع الملحدين من الروم والأرمن والسوريان واليعاقبة..
تعال فحطم بنفوذك الذى لا مثيل له الإلحاد.
وبديهى أن الصليبية الغربية انتفعت من هذه الطوائف كلها فى أعمال التجسس، وشئون القتال، فلماذا يستعملون العنف ضدهم؟.
ومع ذلك فإن طبيعة النصرانية لم تفت أولئك الصليبيين المنتفعين من خيانات نصارى الشرق، فهم يستقدمون البابا ليحطم الإلحاد كله.
أى ليلجم الأقباط والسريان والأرمن..
! وروى الكاتب قصة جاسوس قبطى فى القاهرة، هو ” أبو الفضائل بن دوخان “، وهو موظف كبير فى الحكومة المصرية ذكر عنه ” ابن النقاش “: “..
أنه كان يراسل الفرنج، ويخبرهم عما يحدث عند المسلمين والحكام والأعيان، وكان مبعوثو الفرنج والنصارى يقتحمون مكتبه فيستقبلهم بحفاوة، وينجز أعمالهم قبل غيرهم “.
والنص المذكور ترجمه الكاتب عن المجلة الآسيوية الفرنسية.

وانتهت الحرب الصليبية على عكس ما بدأت به.
فقد أصيب الغزاة بانكسارات ماحقة محت آثار الانتصارات الكبيرة التى أحرزوها أول أدوار القتال.
وظهر أن المسلمين ـ برغم تمزق شملهم لفساد حكامهم ـ كانوا أعرق خلقا وأعظم رقيا، وأنبل تقاليد من دولى أوروبا كلها.
وأنهم استفاقوا على عجل من روعة المفاجأة التى دهت بلادهم، وأحسنوا تخليصها من الأزمات التى عرتها.
فلماذا كان موقفهم من خونة الأمس عندما عادت المياه إلى مجاريها؟.
إننا لا نشك فى أن هذه الحروب خلقت فى النفوس حزازات قائمة.
وأن الجراح التى أحدثتها فى أفئدة المسلمين احتاجت فى شفائها إلى أمد طويل.
على أن المسلمين لم يشنوا على النصارى فى مصر والشام حملة انتقام لما فرط منهم، بل جنحوا ـ بعد أن نصرهم الله ـ إلى التغاضى عن هفوات الماضى..!
ومما أعان على رأب الصدع أن روح التسامح فى المسلمين أصيلة، فهم بطيئو الغضب سريعو الرجوع.
وأن الحكام ـ على اختلاف عصبياتهم ـ كانوا يعتبرون النصارى واليهود جزءا من رعاياهم.
وأن رؤساء الطوائف المسيحية تجاوبوا مع الحكام المسلمين فى إقرار الأمن وتلافى الفرقة.
وأن عددا كبيرا من النصارى المتوطنين يغبن إذا حمل تبعات النزق الذى لجأ إليه الحاقدون على الإسلام والكارهون لسلامة أمته.
أجل فمن الظلم أن تؤاخذ طائفة ما بخيانة بعض بنيها.
على أن الفئات التى عرفت بالتحامل على الإسلام، وانتهاز الفرص المواتية للنيل منه قد شل تفكيرها ما أصاب الصليبية الغربية من انكسار ساحق.
فقبعت فى مكانها لا تبدى حراكا!!.
ويقول الكاتب فى ص 170: ” من الغريب أن نرى ـ بعد النكبة التى حلت بجيوش “لويس ” ـ عددا من الصليبيين قد أربكهم الفزع وبلبل أفكارهم، فأخذوا يشكون فى إيمانهم.
ولما خيروهم بين اعتناق الإسلام والموت، لم يترددوا فى اعتناق الإسلام “.
ونحن لا نعرف القصة التى يشير إليها الكاتب، ولا يهمنا الآن تمحيصها، وإنما نذكر أن جملة الأسباب التى سردناها، جعلت جمهور الأقباط ينجو من الاقتصاص على حوادث الخيانة السالفة، ويعين على اعتبارها حوادث فردية منتهية.
ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
أما فى أثناء نشوب القتال، وعندما تظاهرت الفتن الداخلية والهجمات الخارجية ضد الإسلام، فقد أفلت زمام العامة، وانطلقوا فى العاصمة والإسكندرية والأقاليم يدمرون الكنائس والأديرة.
ولكن الحكومة ضبطت الحالة، وضربت على أيدى العابثين بالنظام العام وحسنا فعلت.
وقد تكون جروح العامة قد اندملت على دخل نظرا لما شاب نفوسهم من عدم الثقة!.
غير أنهم ظلوا هادئين مستكينين حتى وقعت فى عهد المماليك عدة حوادث، بدا منها كأن النصارى يتحدون المسلمين ويتربصون بهم.
فاستطارت شرارة الفتنة، وكاد الأمر يفلت من أيدى المسئولين.
وسنسرد تفاصيل هذا الشغب وبواعثه بعد الكلام عن الحملة الفرنسية على مصر.
موقف الأقباط من الاحتلال الفرنسى: لم يكن المصريون ـ من مسلمين وأقباط ـ يدرون شيئا عن عصر النهضة فى أوروبا.
كانت الثورات الحية تجرف التقاليد والخرافات فى كل ميدان.
فتطور العلم والفلسفة وتطورت المجتمعات والحكومات، وانطلق العقل من إسار الكنيسة، وتمردت الشعوب على سلطات الفرد، ووثبت الحياة العامة تقتحم آفاقا جديدة فى كل ناحية.
أما المسلمون ـ فى ظل الحكم التركى ـ فقد ضرب الاستبداد السياسى عليهم نطاقا من الظلمات الكثيفة عزلهم عن العالم، وجعل عيونهم لا ترى أبعد من حدود بلادهم المتأخرة.
وكان أقباط مصر ومسلموها فى ـ هذا القصور سواء.
فلما هجم ” نابليون ” بجيشه على مصر، رجع المسلمون والأقباط إلى ذكرياتهم الأولى.
فقاسوا اقتحام الإسكندرية باقتحام الصليبيين القدماء لدمياط، واستعد الفريقان لاستقبال الغزاة الجدد.
المسلمون يتأهبون لحرب دينية طويلة المدى.
والأقباط يستعدون لاستقبال زحف نصراني بينه وبينهم وشائج لا تنكر غير أن سيرة القائد الأوروبى الطامح كانت مفاجأة محيرة للفريقين معا.
فإن “نابليون ” سلك طريقا يغاير تمام المغايرة مسلك القادة الأولين للحملات الصليبية.
إنه دخل مصر مدعيا الإسلام، منوها بقيمته، متوددا لأهله!!.
ثم طلب من جنوده أن يعتبروا الإسلام دينا كالنصرانية واليهودية.
وهذا نوع من الاعتراف كانت أوروبا تضن به على المسلمين!.
وهى لم تعترف به فى تاريخها الحديث إلا بعدما اعترفت بالبوذية والبرهمية كأديان كبيرة لها أتباع يعدون بالملايين.
أما نابليون فقد خاطب جنوده قبل أن ينزل إلى البر قائلا: و إن الشعب الذى سنعيش معه يدين بالإسلام.
وأول ما يؤمن به هو أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فلا تنازعوه فى ذلك، بل عاملوا هؤلاء المسلمين كما عاملتم اليهود والإيطاليين.
واحترموا رجال الدين كما احترمتم الحاخامات والمطارنة.
أظهروا للمواسم الدينية وللمساجد التسامح نفسه الذى أظهرتموه بإزاء الأديرة والمعابد، وبإزاء ديانة موسى والمسيح “.
لكن كيف ينفذ الجنود هذه الوصية، وهم لا يعرفون عن المسلمين إلا أنهم كفار تجب إبادتهم؟.
وتلك هى التعاليم التى انحدرت إليهم عن آبائهم الصليبيين.
يقول الكاتب ـ معللا انصياع الجنود لأوامر ” بونابرت ” ـ : “..
لما كانت الثورة الفرنسية قد أبعدت الفرنسيين عن الديانة المسيحية، فقد اكتفى ” بونابرت ” بتوصية رجاله أن يظهروا احترامهم للمسلمين “ص 209.
فماذا كان يقع لو لم يجرف روح الثورة تعلق النصارى بدينهم؟.
كان المسلمون ـ بلا شك ـ سيتعرضون لمآس دامية تشعلها نيران التعصب الصليبى القديم.


الشيخ محمد الغزالى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى