محمد

رحمة محمد صلى الله عليه وسلم بالأطفال

تشير التقديرات إلى أن مليون طفل سنويًا يتم استغلالهم في البغاء وإنتاج المواد الإباحية -وما شابه من الأنشطة- وكثير منهم أجبروا أو اختطفوا أو استدرجوا، أو هم ضحايا الاتجار بالأطفال.

ما أبلغ ما قاله أنس بن مالك > وهو يصف رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالأطفال إذ قال: ” مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم “.

وإن الإنسان لَيَعْجَبُ حقًا من رؤية مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم  بالأطفال، ويزداد العجب عندما تنظر إلى حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه صلى الله عليه وسلم ، وهو يدير الدولة، ويقود الجيوش، ويحكم بين الناس، ويتفاوض مع الوفود، ويتعامل مع الأصحاب، ويشرف على كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلمين، ويتلقى الوحي من رب العالمين، ويصل به إلى كل من يستطيع، حتى يرسل الرسائل إلى ملوك العالم وزعمائه يدعوهم إلى الإسلام!!

رجل بهذا الثقل من المسؤولية، وهذا الحجم من التَّبِعات يهتم كثيرًا – بل وكثيرًا جدًا – بأطفال أمته، مهما كانوا بسطاء!

ولا يتأتَّى ذلك إلا من نبي!

ثم إن العجب يزداد ويزداد حتى يبلغ الذروة عندما تعلم أن رحمته هذه كانت في بيئة لا يجدون فيها حقًا لصغير، بل ويعتبرون أن رحمة الصغير لون من ألوان الضعف غير مقبول، حتى يفتخر الرجل بأنه لا يرحم أبناءه!

قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم  الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس،

فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: “من لا يَرحم لا يُرحم”.

إن الأقرع كان يظن أنه من الرجولة والفحولة أن يقسو القلب ويتحجر، حتى لا يرحم صغيرًا، ولا يُقَبِّل طفلاً، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم  رَدَّ عليه بالرد المفحم، ولم يكن ردًا خاصًا بموقفه فقط، إنما رد بقاعدة من القواعد الإسلامية الثابتة..  إنه قال له في إيجاز: “من لا يَرحم لا يُرحَم!”..

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا يصبر على بكاء طفل ولا على ألمه.. يروي أبو قتادة > أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يصلي وهو حامل أُمَامَة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.

إنه هنا في أعظم شعائر الإسلام، وهي الصلاة، ومع ذلك فهو لا يصبر على بكاء الطفلة أُمَامَة حفيدته، فيحملها حتى في أثناء الصلاة!!

بل إن رحمته كانت تجعله يطيل أو يُقصِّر من صلاته بحسب ما يريح الأطفال!!

فنحن نراه في موقف عجيب يطيل السجود في صلاة الجماعة على غير عادته وذلك حتى لا يزعج طفلاً!

والقصة يرويها شداد بن الهاد  ويقول فيها: “خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حَسَنًا أو حسينًا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم  فوضعه ثم كبر للصلاة فصلَّى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم   الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: ” كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ “.

وعلى النقيض من هذا نجده يسرع في صلاته في ظروف أخرى لكي يرحم طفلاً آخر..

يروي أنس بن مالك > أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: “إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ”

ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم  يُكَيِّف – بلا تعنت ولا تشدد – صلاته وصلاة المسلمين، لكي يرحم الطفل الصغير، وكذلك ليرحم أمَّه!

وفي مواقف أخرى من السيرة تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  يفرغ من أوقاته ليلعب مع الأطفال، فهذا أسامة بن زيد يروي فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يأخذني فيُقعِدني على فخذه ويُقعِد الحسنَ على فخذه الآخر ثم يضمهما، ثم يقول: ” اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا”.

وانظر إلى رحمته وهو يواسي طفلاً لموت طائر صغير كان يلعب به!

يقول أنس بن مالك > كان النبي صلى الله عليه وسلم  يدخل على أم سُلَيْم ، ولها ابن من أبي طلحة يُكَنَّى أبا عمير، وكان يمازحه، فدخل عليه فرآه حزينًا، فقال: ما لي أرى أبا عمير حزينًا؟! فقالوا: مات نُغْرُه[12] الذي كان يلعب به، قال: فجعل يقول: “أبَا عُمَيْر، مَا فَعَلَ النُّغَيْر؟”.

إنه لا يسخر من مشاعره، ولا يُسفِّه حزنه، بل يشاركه ويضاحكه، فإذا علمت أن هذا الطفل الصغير ما هو إلا أَخٌ لخادم يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم  اطَّلعت على قدر الرحمة والتواضع اللذين كانا في قلبه صلى الله عليه وسلم .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يولي أهمية خاصة لرعاية البنات، وذلك لعلمه أن قلوب الناس تميل بشكل أكبر للذكور من الأولاد، وخاصة في هذه البيئة العربية، فكان صلى الله عليه وسلم  يُعظِّم جدًا من أجر الذي يربيهنَّ..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ”.


وكان من رحمته بالأطفال أنه لا يكلفهم ما لا يطيقون، وقد جاءه أطفالٌ يوم أُحُدٍ يريدون الخروج معه للقتال فرَدَّهم لصغر سنهم، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن حبة، وغيرهم.

وقارن هذا بالأعداد الهائلة للأطفال التي تستخدم الآن في الحروب في بقاع كثيرة من العالم.. فقد ذكرت هيئة الأمم المتحدة أن هناك أكثر من ثلاثمائة ألف طفل مجنَّد في عشرين دولة يمارسون القتال بالإكراه!!


ولم تكن مواقف اهتمامه ورحمته للأطفال بالمواقف العابرة التي تحدث على فترات متباعدة، بل كانت متكررة جدًا، لدرجة أن الأطفال كانوا دائمًا في استقباله إذا جاء من سفر ليلاعبهم ويداعبهم، وكأنه ليس أمامه من الهموم والمشاغل غيرهم!  يقول عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ قَالَ فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ”.

وتخيل هذا المشهد، وقائد الدولة يدخل مدينته، وهو يركب دابته وقد حمل طفلاً وأردف آخر خلفه!!

بل إنه عندما دخل مكة فاتحًا استُقْبِل أيضًا بالأطفال، فلم يمنعه الموقف المهيب، ولا الوضع العسكري الخطير، من أن يتلطف معهم، بل ويحملهم!  يقول عبد الله بن عباس {: “لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ!”.

هذه كانت رحمته بالأطفال صلى الله عليه وسلم ..

وإذا كانت كل هذه الرحمة بعموم الأطفال، فلا شك أن رعايته للأطفال اليتامى كانت أعظم وأشد..

فمن أقواله صلى الله عليه وسلم  وهو يشجع المسلمين على رعاية اليتامى.. قال: “أنَا وكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ يَعْنِي السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى”.  وقال أيضًا: “مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ”[21].

وأتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم  يشكو قسوة قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أَتُحِبُ أنْ يَلِينَ قَلْبُكَ وتُدْرِكَ حَاجَتِكَ؟ ارْحَمْ اليَتِيمَ، وامْسَحْ رَأسَه، وأَطْعِمْه مِنْ طَعَامِكَ يَلِنْ قَلْبُكَ، وتُدْرِكَ حَاجَتِكَ”.

ويحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم  من ظلم اليتامى، أو استغلال ضعفهم، وأكل أموالهم، فيقول: “اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ”.

بل إنه يفكر في مستقبل اليتيم بصورة عملية، ويخشى على ماله أن تأكله الزكاة، أو يقل نتيجة اختلاف القيمة مع مرور الزمان، فيقول في رحمة ظاهرة: “ألا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًَا لَهُ مَالٌ، فَليتَّجِر فِيه، ولا يَتْرُكْه حَتى تَأكُلُه الصَدَقَةُ”.

كان هذا طرفًا من رحمته صلى الله عليه وسلم  بالأطفال، ومن أراد الزيادة فليعد إلى كُتُبِ الصِّحاح والسنن وغيرها من كتب الحديث، فحَصْرُ ذلك جد عسير.. وصدق الذي قال: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”[25]!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى