القرآن

معجزة القرآن والوقوف على أرضية صلبة قبل أن تأكلنا الشبهات


الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،

أما بعد ،

كثيرًا ما أقرأ انتقادات على صفحات الإنترنت لمسائل في العقيدة أو السنة أو الشريعة الإسلامية ، وكلما أتأمل كلام المنتقد أجده غير فاهم للمسئلة التي يتناولها بالنقد ، وهذه المشكلة في تصور المسائل هي منشأ الغلط في الحكم عليها ونقدها . وأنا أجزم أن كثيرًا من العقلاء الذين قابلتهم في حياتي ممن يظهرون العداء للدين عامةً أو بعض مسائله ، إذا ما صورت لهم المسائل بالطريقة الصحيحة ستجدهم موافقين لنا أو لنقل إن الهوة الكبيرة التي يرونها بيننا وبينهم ستتضاءل فيقتربوا منا أكثر . وفي أقل التقادير فإن أقل ما أحصله حين أتكلم مع المخالف أن أنتزع منه احترامًا وتقديرًا للدين ولشريعته ، واعترافًا بأن قضاياه ومسائله ليست كلامًا سخيفًا يمكن نقضه أو حتى نقده ببادي النظر .

والحديث ذو شجون على أية حال لكن . . .

طافت بذهني هذه الخاطرة عندما طالعت مواقع الانترنت العربية وما فيها من حق وباطل عن إعجاز القرآن الكريم ، بل وهالني وجود شبهات عنيدة لدى كثير من الناس بخصوص الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم ، مما يجعل من الضروري أن ينبري أحدنا لتوضيح الفرق بين الحق والأباطيل ، والتنبيه على الفاصل بين الأقاويل ؛ فإن حجة الله بالغة والحق مبين .

المهم : لندع المتشنجين من أهل الباطل يتخبطون في ظلماتهم فإنه لا يقام لنقيق الضفادع ولا لنعيق الغربان عندنا وزن ، بل يرمى في كل وعر وحزن .

ولنحاول أن نفهم : لماذا اللغة ؟

1)السؤال الأول : لماذا ؟

من المعروف أن القرآن نزل بلغة العرب كلماتٍ وألفاظًا وتراكيب . ومع ذلك لم ترتفع همة لبليغ عربي أو فصيح بدوي لمنافسة القرآن وقنعوا جميعًا بالعجز .

رغم أن صوت القرآن فوقهم كان ينادي بالتحدي .

ورغم أن الاستجابة للتحدي مغروزة في فطرة الإنسان .

ورغم أن هؤلاء العرب كانوا مشهورين بالعزة والكبرياء وهم الذين لم يعرفوا للذل طعمًا ولم يتسلط عدو محتل على بلادهم قطٌ طوال تاريخهم الشاسع .

رغم هذا كله لم يقبلوا تحدي القرآن وقابلوا الدعوة الجديدة بالسيف وتحملوا في سبيل ذلك مقاتل الرجال وسبي النساء وفتّ الأكباد وتيتيم الأولاد .

لكن . . .

لماذا اللغة ؟

لنفهم الجواب على هذا السؤال يجب أن نعرف أن هناك شروطًا لابد من توافرها في المعجزة الخاتمة :
شرط عموم الإنسان .
شرط عموم الزمان .
شرط عموم المكان .

فمعجزة خاتم الأنبياء لابد أن تصل للجميع ، إلى كل مدعو من الأنس والجن , فلا تقوم الحجة على الجميع على نحو سواء , إلا إذا باشرها جميعهم على نحو سواء .

فبدهي أن من رأى الآية عن كثب ليس كمن رآها عن بعد , ومن عاينها ليس كمن سمع عنها . ومن باشرها ليس كمن لم يباشرها .

ومن منطلق العدل الإلهي فى هداية البيان لزم التساوي بين الجميع ؛ فلله الحجة البالغة ، وحجج الناس داحضة عند ربهم .

ومن المبدإ نفسه تحتم على المعجزة الخاتمة أن لا تختص بمكان دون مكان ؛ لأنها لو كانت كذلك لحصل الإخلال بشرط عموم الانسان لأن الحجة تكون قد أقيمت على من يكون “هنا” وليس على من هو كائن “هناك” .

ومن هذا المشرب أيضا مقولة الزمان : فينبغي للمعجزة الخاتمة أن تستمر من مبعثها الى ختام الزمن أو بعبارة أدق الى زمن آخر مكلف فى هذه الحياة الدنيا .

ما المعجزة التي ستفي بالشروط الثلاث معًا ؟

مهما فكرنا فى الافتراض وأعدنا فى الاحتمال لن نتجاوز “اللغة” .

لو كانت المعجزة من جنس عصا موسى أو إحياء الموتى لأخلت بشرط عموم المكان لأنها وقعت في مكان واحد ، وبشرط عموم الزمان لأنها وقعت في زمن محدود ، وبشرط عموم الناس لأن الكل لن يباشروها بحكم محدودية المكان والزمان .

لكن انظروا الى القرآن لما كان من جنس اللغة فقد لبى كل الشروط :
يتلى هنا وهناك .
يتلى اليوم وغدًا , هنا وهناك .
يتلوه زيد وعمرو , اليوم وغدًا , هنا وهناك .

ويجب في هذا المقام أن ننتبه لخاصية مهمة في اللغة :
اللغة ملك كل عاقل . ولعلها الشيء الوحيد الموزع بالتساوي بين الصغير والكبير والمرأة والرجل والبدوي والحضري .
وانظروا تبعًا لذلك لعموم التحدي بالقرآن ، فلو كان بشيء علمي لقيل هو خاص بالعلماء ، ولو كان بمهارة لقيل هو خاص بمن لهم نوع تلك المهارة لكن التحدي كان باللغة التي تعرفها العجوز ويتقنها الصبي .

وهذا هو عموم الإنسان الذي توافر في معجزة القرآن الخالدة ، فلو كانت المعجزة الخاتمة من نوع علمي كسلاح نووي أو آلة غير معهودة فى الزمن الماضي ثم تحدى صاحب المعجزة قومه ، فهل سيكون التحدي صحيحا ؟
لا !
لأن التحدي هنا نسبي . صحيح إن بعض القوم سيؤمنون بالنظر الى وقوع المعجزة أمام أعينهم لكن هذه المعجزة بعينها فى عيوننا – نحن المعاصرين – ليست كذلك ويستطيع بعضنا أن يأتي بمثلها أو أفضل منها أو قريبًا منها ، أليس كذلك ؟

(2)
قياس الأولى

في آية التحدي في سورة البقرة نقرأ قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

يالها من آية هائلة !
(إن كنتم في ريب … فأتوا ..) و(إن لن تفعلوا … فاتقوا ..)

ومفهوم الشرط فى الأولى يفيد أن من عجز عن الإتيان بمثل سورة لن يكون عنده ريب أو شك .

لكن ماذا لو عجز الانسان عن الإتيان بمثل سورة ، ثم قال : لإن كنت عاجزا فلعل غيري يستطيع ذلك ، أو لإن كان الناس اليوم عاجزين فمن المحتمل أن يستطيع غيرهم فى ما سيأتي من الأزمان .
أليس هذا يدعو الى الريب من جديد ؟ فكيف نوفق بين هذا وبين نفي الريب بمجرد العجز الشخصي عن الإتيان بمثل سورة من القرآن كما هو مفهوم ؟
وكل مؤمن بالقرآن يعتقد ان تحدي القرآن مطلق لعموم الخلق لا نسبي .
ثم هنا أمر آخر يستفاد من الجملة الاعتراضية (ولن تفعلوا) ، فالنفي بـ(لن) يفيد التأبيد ، أي يعني لن يكون فى مقدور الإنس والجن الإتيان بمثل سورة في كل الأزمان المستقبلة .

لا شك عند المؤمن بالقرآن في صدق الله تعالى في ما أخبر ، لكن التحدي هنا للكافر الشاك ، ولا يعقل أن يصادر القرآن على المطلوب ، فلا بد أن يكون الكافر المتحدى عنده يقين بعدم استطاعة الإنسان – لا هو ولا غيره – فى الاتيان بمثل القرآن ، وهذا اليقين ينبغي أن يكون بمصدر آخر غير إخبار القرآن ، وهذا اليقين من جهة أخرى ينبغي أن يزيل كل ريب ، ومن جملته احتمال القدرة المستقبلية فى الاستجابة للتحدي فى يوم ما ومكان ما .
بدون هذا كله لن يكون التحدي حقيقيا .

حسنٌ .

قلنا أن أي معجزة سوى اللغة لا تصلح لأن تكون مادة التحدي الذي جاء به القرآن ، لأنها الشيء الوحيد الذي يباشره جميع الناس ويعرفونه ويتذقونه ، وليست خاصة بفئة دون فئة .

وهناك خاصية أخرى للغة لا يشاركها فيها غيرها – وهي العمدة فى كل استدلالنا – : اللغة هي الشيء الوحيد الذي لا يتصور أن يتفوق فيه الخلف على السلف .

صحيح يجوز ان يكون علم الخلف أفضل من علم السلف ، وحضارة الخلف أرقى من حضارة السلف ، وأعمار الخلف أطول من أعمار السلف .. إلخ …

لكن قطعًا قطعًا لا يمكن للخلف أن يتفوقوا على السلف فى اللغة التي علموهم إياها .

لاحظوا أنني لا أتحدث عن تطور اللغة فبإمكان الخلف أن يغيروا من لغتهم جزئيا أو كليا كما حدث عندنا فى ما يسمى باللهجات ، وكما حدث عندهم فى اللاتينية حين اشتقت منها فرنسية واسبانية وايطالية ، لكن هذا المتولد من الاشتقاق ومن التحريف لا يحسب لغة للسلف .

لكنني أتكلم عن الفصاحة وهو أمر آخر . فامرؤ القيس عندي أفصح من ألف ابن تيمية ، مع أن الأول مشرك كافر وابن تيمية هو شيخ الإسلام ومجدد الملة ، كما أن عجوزا فى بادية العرب فى الجاهلية أفصح وأعلم باللغة من المتنبى الذى ملأ الدنيا وشغل الناس .

والسر فى ذلك أن اللغة مفردات اصطلح على معانيها واستعملت في تلك المعاني ، وتطاول الزمن من شأنه أن ينسي بعض المعاني أو يزيد اليها معان جديدة وفى الحالتين معا إما أن تصبح اللغة أكثر فقرًا أو تحرف .

وهنا معجزة أخرى للقرآن وهو أنه أوقف اللغة العربية ومنعها من “التطور” فكانت لغتنا الفصحي اليوم هي لغة الجاهليين (قارن مع الفرنسيين مثلاً الذين يترجمون فرنسية “رونسار” الذي كان فى القرن الثالث عشر الى فرنسية “سارتر”) .

قال الامام العظيم “مالك ابن أنس” فى قولته المنهجية التي ينبغي أن تخضع لها الأعناق :
(( ما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم بدين ))
وأقول على أثره رضي الله عنه : ما لم يكن يومئذ لغة عربية فليس بعربية .

إن عجز المخاطبون عن الإتيان بمثل سورة من القرآن ، فمن بعدهم أشد عجزًا ، لما ثبت عندنا من أن صاحب اللغة أفصح ممن ليس بصاحبها ، ومعلم اللغة أعلم بلغته ممن تعلمها منه ، ولا يقال ان بعض الاعاجم قد تفوقوا على أساتذتهم فى اللغة كسيبويه والزمخشري وغيرهم لأننا نقول تفوقوا لمعرفتهم بمصادر أخرى للغة لا استنادا الى عقولهم وذكائهم ، فأوضاع اللغة لا علاقة لها بالعقل كما هو معروف .

الانسان المتحدى فى آيتي البقرة يقطع أن البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن مستقبلاً استنادا الى أمر عقلي لا يقاوم وهو قياس الأولى : عجز المتأخر فى اللغة أولى من عجز المتقدم .
وهذا يقطع الطريق على كل احتمال فى امكانية نجاح الأواخر بما لم يستطعه الأوائل .

وفي ضوء هذا القياس الأولوي قامت الحجة على كل الناس : فالعالمون بالعربية منهم قامت عليهم الحجة بعجز أسلافهم ، والأعاجم قامت عليهم الحجة بعجز العرب ، وهذا قاطع لمن لا يكابر


دكتور هشام عزمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى