و الارض ذات الصدع
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴿الطارق:12﴾
هذه الآية الكريمة من خواتيم سورة الطارق, وهي سورة مكية, يدور الخطاب فيها حول أمور العقيدة, ومنها قضية البعث, وقضية صدق الوحي بالقرآن الكريم, وهما قضيتان استحال فهمهما, والتصديق بهما علي المنافقين من الكفار والمشركين والمتشككين عبر التاريخ..!!!. وتبدأ سورة الطارق بقسم من الله( تعالي) وهو الغني عن القسم ـ بالسماء وبالطارق ـ وفي القسم بهما تفخيم لشأنهما, وذلك لدلالة كل منهما علي عظيم قدرة الخالق الذي أبدعهما( سبحانه وتعالي). ومن صور ذلك التفخيم السؤال الموجه إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) عن ماهية الطارق, ثم يأتي الجواب بأنه النجم الثاقب وهو نجم يمثل مرحلة مهمة في نهاية حياة النجوم العملاقة يعرف باسم النجم النيوتروني والنجوم النيوترونية هي نجوم قليلة الحجم, عالية الكثافة تدور حول محاورها بسرعات فائقة مصدرة سيولا من الموجات الراديوية, تتتابع كالطرقات المتلاحقة التي تثقب صمت السماء, وتصل إلينا وهي تدق سماء الأرض بطرقاتها المتلاحقة.
ويأتي جواب القسم بقول الحق( تبارك وتعالي): إن كل نفس لما عليها حافظ, أي أن( الله تعالي) قد جعل علي كل نفس رقيبا حافظا من الملائكة, يحفظها, ويحفظ عنها, ويحصي عليها كل ما تعمل من خير أو شر, في مراقبة دائمة, دائبة, لا تتخلف, ولا تتوقف ابدا, حتي يتأكد الإنسان من أنه محاسب لا محالة, وان اعماله محصية عليه بدقة, وأنه سوف يجزي عليها الجزاء العادل الأوفي. ثم تستمر الآيات بتذكير الإنسان بضرورة النظر في أول نشأته حتي يعرف فضل الله( تعالي) عليه فلا يكفر, ويعرف قدر نفسه فلا يتكبر ولا يتجبر, ويؤمن بأن الذي أنشأه من ماء مهين قادر علي إفنائه, وقادر كذلك علي بعثه بعد موته, وعلي محاسبته وجزائه الجزاء الأوفي, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي): فلينظر الإنسان مم خلق ويأتي جواب الاستفهام خلق من ماء دافق, يخرج من بين الصلب والترائب ويأتي بعد ذلك القرار الإلهي القاطع: إنه علي رجعه لقادر.
أي أن الله( تعالي) الذي أبدع خلق الإنسان من ماء مهين, لقادر علي إماتته, وعلي إعادة بعثه, أي إرجاعه الي الحياة مرة أخري بعد الموت, ليقف بين يدي خالقه ومبدعه يوم القيامة فردا, بغير أدني قوة ذاتية فيه يمكنه ان يمتنع بها, ولا ناصر يمكنه أن ينتصر به, يقف مقرا بكل فعل فعله, وكل مال اكتسبه او أنفقه, وكل كلمة تفوه بها, ثم يلقي جزاءه العادل في هذا العرض الأكبر أمام الله, في يوم تكشف فيه كل مكنونات الصدور, وجميع ما يكون قد أخفي فيها من العقائد والنيات, ويصفه الحق( تبارك وتعالي) هذا اليوم بقوله: يوم تبلي السرائر فما له من قوة ولا ناصر ثم تستطرد الآيات بقسم آخر يقول فيه ربنا( عز من قائل): والسماء ذات الرجع, والأرض ذات الصدع, ويأتي جواب القسم: إنه لقول فصل, وما هو بالهزل أي أن هذا القول بالقرآن, الناطق بالبعث بعد الموت وبغير ذلك من امور الغيب هو قول فاصل بين الحق والباطل, وهو قول جاد, حاسم, لا هزل فيه, وفي ضوء هذا القول القاطع, الحاسم, الجازم يتجه الخطاب في ختام هذه السورة الكريمة الي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) مباشرة, والي من معه من صحابته الكرام( رضوان الله عليهم أجمعين), مثبتا ومطمئنا إياهم ـ وهم يعانون مكابدة الكافرين والمشركين من أهل مكة ـ كما نكابد اليوم غطرسة أهل الكفر واستكبارهم ـ بأن الله تعالي قادر علي أن يقابل كيدهم البشري الهزيل بكيد رباني متين, لا يستطيعون له دفعا ولا منعا, والله علي كل شيء قدير, يستدرجهم من حيث لا يعلمون, ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر وما ذلك علي الله بعزيز, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): إنهم يكيدون كيدا, وأكيد كيدا, فمهل الكافرين أمهلهم رويدا أي لا تستعجل عقابهم, وانتظر أمر الله فيهم, فسوف يريكم فيهم عجبا كما نطمع أن يرينا في أهل الكفر والشرك والضلال في زماننا عجبا إن شاء.. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون( يوسف:21).
وهنا يبرز السؤال المهم: لماذا أقسم ربنا( تبارك وتعالي) بالسماء ذات الرجع وبالأرض ذات الصدع؟ وما هي أهمية كل منهما التي جعلت منهما مادة لهذا القسم الإلهي, والله تعالي غني عن القسم؟ وقد سبقت الإجابة عن الشطر الأول من القسم في مقال سابق, ونركز هنا علي الشطر الثاني من القسم: والأرض ذات الصدع وقبل الخوض في ذلك لابد لنا من استعراض شروح المفسرين السابقين لهذا القسم القرآني الجليل.
شروح المفسرين لقوله تعالي: والأرض ذات الصدع:
في شرح هذا القسم القرآني أشار ابن كثير( يرحمه الله) الي قول ابن عباس( رضي الله عنهما) بأنه: هو انصداعها عن النبات وذكر أن كلا من ابن جرير وعكرمة والضحاك والحسن, وقتادة, والسدي( عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه) قالوا به, كما قال به غيرهم; ومنهم صاحبا تفسير الجلالين( يرحمهما الله) اللذان قالا: هو الشق عن النبات, ولكن صاحب الظلال( يرحمه الله) قال: والصدع: النبت يشق الأرض وينبثق, ووافقه في ذلك صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( يرحمه الله) إذ ذكر ما نصه: ذات الصدع اي ذات النبات, لتصدعها وانشقاقها عنه, وأصل الصدع: الشق, وأطلق علي النبات مجازا, والنبات في الأرض إنما يكون بسبب المطر النازل من السماء. أقسم الله بهما علي حقية القرآن الناطق بالبعث… وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا ورحم من مات منهم): أقسم بالسماء ذات المطر الذي يعود ويتكرر, وبالأرض ذات الانشقاق عن النبات الذي يخرج منها.
وكذلك أشار صاحب صفوة التفاسير( بارك الله فيه) الي قول ابن عباس( رضي الله عنهما) في تفسير قول ربنا( تبارك وتعالي)( والأرض ذات الصدع) مانصه: أي وأقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار… ومن هذا العرض يتضح بإجماع قدامي المفسرين علي أن القسم بالأرض ذات الصدع يشمل انصداعها عن النبات او يعني نبات الأرض ذاته, بمعني أن الصدع هو النبت يشق الأرض, وينبثق منها.
الأرض ذات الصدع في منظور العلوم الكونية:
من المعاني الصحيحة التي فهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معني انصداعها عن النبات, اي انشقاقها عنه, ولكن لما كانت لفظة الارض قد جاءت في القرآن الكريم بمعني التربة التي تغطي صخور اليابسة, وبمعني كتل اليابسة التي نحيا عليها, وبمعني كوكب الأرض كوحدة فلكية محددة, فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لابد وان تكون له دلالة في كل معني من معاني كلمة الأرض كما نجده في الشرح التالي:
أولا: انصداع التربة عن النبات:
الصدع لغة هو كسر في الأرض تتحرك الأرض علي جانبي مستواه حركة أفقية, أو رأسية أو مائلة. وتربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل, وهي معادن دقيقة الحبيبات( أقطارها أقل من0.004 من الملليمتر) وتتركب اساسا من سيليكات الألومنيوم علي هيئة راقات متبادلة من كل من السيليكا( ثاني اكسيد السيليكون) والألومينا( ثالث اكسيد الألومنيوم) مع عناصر اخري كثيرة, ويحمل كل راق علي سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة علي حسب نوع الصلصال المركب منه.
والصلصال من المعادن الغروية, والمواد الغروية لها قدرة الانتشار في غيرها من المواد نظرا لدقة حبيباتها, كما ان لها القدرة علي تشرب الماء والالتصاق بأيونات العناصر, ولذلك فإنه عند نزول الماء علي التربة أو عند ريها بكميات مناسبة من الماء فإن ذلك يؤدي الي انتفاشها وزيادة حجمها, فتهتز حبيباتها, وتربو الي اعلي حتي ترق رقة شديدة فتنشق لتفسح طريقا سهلا لكل من الجزير المندفع الي أسفل, والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة الي اعلي حتي تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر علي سطح الارض مستمرة في النمو لتغطي باقي اجزاء النبات. واهتزاز التربة بنزول الماء عليها له اسباب اخري غير زيادة حجم حبيباتها بالتميؤ, ومن ذلك وجود الشحنات الكهربائية المتشابهة علي اسطح الحبيبات, مما يؤدي الي تنافرها, وتباعد الحبيبات عن بعضها البعض, في حركة اهتزازية لا يمكن إيقافها الا بتعادل تلك الشحنات بواسطة شحنات مخالفة ناتجة عن تأين أملاح التربة في ماء الري, ومنها دفع جزيئات الماء لحبيبات التربة في كل الاتجاهات لتفسح مكانا لخزن المياه بين تلك الحبيبات, ومنها دفع جزيئات الهواء المختزن لحبيبات التربة بواسطة الماء الذي يحل محله باستمرار حتي يطرده بالكامل, وكلما زادت كمية المياه المختزنة في التربة حجما زاد انتفاشها وأدي ذلك الي زيادة حجمها, فكل حبة من حبات التربة لها القدرة علي التشرب بالماء, وحمله علي سطحها, واختزانه في المسافات بينها وبين ما حولها من حبيبات, وبذلك يتم التبادل بين الأيونات المختلفة علي اسطح حبيبات التربة والأيونات المذابة في الماء المحفوظ بينها ليستفيد النبات من أيونات العناصر المغذية له في التربة بعد تحللها بواسطة الإنزيمات الخاصة التي تفرزها الجذيرات المندفعة الي اسفل من البذرة النابتة. ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها او ريها ما أنبتت الأرض علي الإطلاق, ومن هنا كان ذلك وجها من أوجه القسم بالأرض ذات الصدع لأهميته البالغة في إعمار الأرض وجعلها صالحة للحياة.
ثانيا: تصدع صخور اليابسة:
نتيجة لتعرض صخور قشرة الارض للإجهاد بالشد أو بالتضاغط تتكسر تلك الصخور بواسطة مجموعات من الفواصل المتوازية والمتقاطعة علي هيئة شقوق في قشرة الارض, تمزق صخورها الي كتل متجاورة دون حدوث قدر ملحوظ من الحركة علي جوانب مستويات تلك الشقوق. كذلك تحدث الفواصل نتيجة لعمليات التعرية التي تقوم بازاحة كميات كبيرة من الصخور الظاهرة علي سطح الارض, بما يعين علي تخفيف الضغط علي الصخور الموجودة اسفل منها وبالتالي تخفيف شدة الاجهاد الذي كانت تعاني منه تلك الصخور فتستجيب بالتمدد فتتشقق علي هيئة كسور تفصل أجزاء الصخور الي كتل متجاورة دون حدوث حركة ملحوظة عبر تلك الفواصل.
وغالبية فواصل الارض تقع في مجموعات متوازية ومتقاطعة في اتجاهين
اواكثر وان كان بعضها قد لا يكون له اتجاه محدد واغلبها قليل العمق. وتحدث فواصل قشرة الارض كذلك نتيجة لتبرد الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الارض قريبا من سطحها او الي سطحها علي هيئة متداخلات نارية او طفوح بركانية.
ولتكون فواصل قشرة الأرض حكمة بالغة فهي خطوة مهمة لتجوية الصخور وتعريتها حيث انها تعمل كممرات لعوامل التعرية المختلفة الي داخل الصخور وبالتالي فإنها تعمل علي تكوين كل من تربة الارض, والرسوبيات, والصخور الرسويبة, وبغير التربة لم تكن زراعة الارض ممكنة, وبغير الصخور الرسوبية لم يتكون النفط ولا الغاز الطبيعي, ولا العديد من الثروات الترسيبية مثل الفحم, الفوسفات, المتبخرات وغيرها, كذلك فإن توزيع فواصل الغلاف الصخري للأرض قد يحدد مواقع لعدد من الركازات المعدنية المهمة مثل الذهب, والفضة, والنحاس, والرصاص, والقصدير وغيرها, كما قد يعين في تحديد مجاري بعض الأنهار, أو تكوين بعض الكهوف وحفر الإذابة في الصخور. أما صدوع الأرض فهي كسور في قشرتها, يتم عبرها تحرك صخورها علي جانبي مستوي الصدع حركة أفقية, أو رأسية, أو مائلة بدرجة ملحوظة, وتتراوح أبعاد تلك الصدوع تباينا كبيرا, فمنها مالا يري بالعين المجردة, ولا تكاد الحركة عبر مستواه تدرك ومنها ما يمتد لعشرات الكيلومترات, وتبلغ الحركة عبر مستواه مبلغا عظيما.
ومن هذه الصدوع ما يتكون نتيجة لشد صخور الأرض في اتجاهين متعاكسين, ومنها ما يتكون نتيجة للتضاغط في اتجاهين متقابلين, كما أن منها ما يتكون نتيجة انزلاق كتل الصخور عبر بعضها البعض. وتحرك صدوع الأرض النشطة يحدث عددا من الهزات الأرضية, أما الصدوع القديمة فقد أصبح أغلبها خاملا بلا حراك. ولصدوع الأرض اهمية بالغة لأنها تمثل ممرات طبيعية بين باطن الارض وسطحها, تتحرك عبرها الابخرة والغازات المحملة بالثروات المعدنية, كما تتحرك المتداخلات النارية والطفوح البركانية المحملة كذلك بمختلف الصخور والمعادن الاقتصادية المهمة وبالعناصراللازمة لتجديد صخور وتربة سطح الأرض. والصدوع تلعب أدوارا مهمة في تكوين كل من النتوءات والخسوف الأرضية, والينابيع المائية, وبعض المكامن البترولية, كما تعين عمليات التعرية المختلفة في شق الفجاج والسبل, وفي تكوين الأودية والمجاري المائية, وفي جميع عمليات التعرية وتسوية سطح الأرض, وما يستتبعه ذلك من تكوين كل من التربة والرسوبيات والصخور الرسوبية وما بها من الثروات الأرضية.
وكما تكون الصدوع عاملا من عوامل الهدم علي سطح الأرض فإنها قد تكون عاملا من عوامل البناء تبني الجبال والتلال والهضاب, كما تبني الأحواض, والأغوار, والخسوف الأرضية.
ثالثا: تصدع الأرض ككوكب بواسطة أودية الخسف:
علي الرغم من التعرف علي عدد من اودية الخسف الصدوع العملاقة علي سطح الأرض منذ زمن بعيد إلا ان العلماء قد اكتشفوا في العقود الثلاثة الماضية ان ارضنا محاطة بشبكة هائلة من تلك الأودية الخسيفة الصدوع العملاقة التي تحيط بالأرض احاطة كاملة يشبهها العلماء باللحام علي كرة التنس, وتمتد هذه الصدوع العملاقة لالاف الكيلومترات في جميع الاتجاهات بأعماق تتراوح بين65 و70 كيلو مترا تحت قيعان كل محيطات الأرض وقيعان عدد من بحارها, وبين150,100 كيلو مترا تحت القارات, ممزقة الغلاف الصخري للأرض بالكامل الي عدد من الألواح التي تعرف باسم ألواح الغلاف الصخري للأرض وتطفو هذه الألواح الصخرية فوق نطاق الضعف الأرضي, وهو نطاق لدن, شبه منصهر, عالي الكثافة واللزوجة وتنطلق فيه تيارات الحمل من اسفل الي اعلي حيث تتبرد وتعاود النزول الي اسفل فتدفع معها الواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة عن بعضها البعض في احدي حوافها ومصطدمة مع بعضها البعض عند الحواف المقابلة, ومنزلقة عبر بعضها البعض عند بقية الحواف. وينتج عن هذه الحركات لألواح الغلاف الصخري للأرض عدد من الظواهر الارضية المهمة التي منها اتساع قيعان البحار والمحيطات, وتجدد صخورها باستمرار عند حواف التباعد. وتكون سلاسل من جبال اواسط المحيطات ومن الجزر البركانية, ومنها تكون السلاسل الجبلية عند حواف التصادم حيث يستهلك قاع المحيط تحت كتلتين القارتين المقابلتين له, وتصاحب العمليتان بالهزات الأرضية وبكم هائل من الطفوح البركانية ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من64000 كيلومتر وهي تتكون أساسا من الصخور البركانية المختلطة بقليل من الرواسب البحرية. وتحيط بالصدوع العملاقة, ومع تجدد صعود الطفوح البركانية. عبر هذا الصدع العملاق( الوادي الخسيف) في وسط سلسلة الجبال البحرية يتجدد قاع المحيط بأحزمة حديثة من الصخور البازلتية المتوازية علي جانبي الوادي الخسيف, ويهبط قاعة المحيط بنصف معدل اتساع قاع عند كل من شاطئيه, وبذلك تكون احدث صخور قاع المحيط حول محوره الوسطي, وأقدمها عند هبوط قاع المحيط تحت كتل القارتين المحيطتين به.
وهذه الحركة لألواح الغلاف الصخري للأرض كانت سببا في زحف القارات, وتجمعها, وتفتتها بصورة دورية, فيما يعرف باسم دورة القارات والمحيطات, وفيها قد تنقسم قارة ببحر طولي مثل البحر الأحمر الي كتلتين ارضيتين تتباعدان عن بعضهما البعض باتساع قاع البحر الفاصل بينهما حتي يتحول إلي محيط, كما قد يستهلك قاع محيط بالكامل تحت إحدي القارات بدفع كتلة أرضية له تحت تلك القارة حتي يصطدما مكونين أعلي سلاسل جبلية علي سطح الأرض كما حدث في اصطدام الهند بالقارة الآسيوية, وتكون سلسلة جبال الهمالايا, وبها قمة إفرست أعلي قمة جبلية علي سطح الأرض. وهذه الصدوع العملاقة الأودية الخسيفة التي تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين65 كيلومترا, و150 كيلو مترا, وبطول يقدر بعشرات الآلاف من الكيلومترات في كل الاتجاهات هي مراكز تتحرك عبرها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة أو مصطدمة أو منزلقة عبر بعضها البعض. وهذه الصدوع العملاقة تعمل كممرات طبيعية للحرارة المختزنة في داخل الأرض والناتجة عن تحلل العناصر المشعة, ولولاها لانفجرت الأرض.
وعبر هذه الصدوع العملاقة تندفع ملايين الأطنان من الصهارة الصخرية علي هيئة طفوح بركانية تثري سطح الأرض بالعديد من الصخور والمعادن النافعة, وتجدد شباب التربة الزراعية, وتكون مراكز مهمة لاستغلال الحرارة الأرضية. وعبر هذه الصدوع العملاقة وما صاحبها من فوهات البراكين انطلقت الغازات والأبخرة التي كونت غلافي الأرض المائي والغازي, ولا تزال تنطلق لتجددهما, وخلال تلك العملية تفقد الأرض من كتلتها الي فسحة السماء بعضا من مادتها وطاقتها تتناسب مع ما تفقده الشمس من كتلتها علي هيئة طاقة حتي تظل المسافة بين الأرض والشمس ثابتة, لاتنقص فتحرقنا اشعة الشمس, او تبتلعنا ودرجة حرارة لهيبها15 مليون درجة مئوية, ولا تزيد فيتجمد وتتجمد الحياة من حولنا, او تنفلت من عقال جاذبيتها فتضيع في فسحة الكون الشاسع, ليس هذا فقط, بل ان الغلاف الصخري للأرض قد تكون ايضا عبر تلك الصدوع العملاقة, وذلك لأن الكثير من الشواهد الأرضية تشير الي ان الغلاف الصخري الأول للأرض كان مكونا من صخور البازلت الشبيهة بصخور قيعان البحار والمحيطات الحالية, وبالصخور المندفعة عبر الصدوع التي تمزقها, وان الارض كانت مغطاة بالمياه علي هيئة محيط غامر واحد, وبواسطة النشاط البركاني فوق قاع هذا المحيط الغامر تكونت أولي المرتفعات فوق قاعه علي هيئة عدد من السلاسل الجبلية في وسطه, ارتفعت قممها لتكون عددا من الجزر البركانية, ومع تحرك تلك الجزر البركانية تصادمت مع بعضها البعض لتكون نوي عدد من القارات التي نمت بتصادمها مع بعضها لتكون قارة واحدة عرفت باسم القارة الأم Mother Continent or Pangaea التي ما لبثت ان تفتتت بفعل ديناميكية الأرض وصدوعها العملاقة الي القارات السبع الحالية التي ظلت تتباعد عن بعضها حتي وصلت الي مواقعها الحالية.
وعبر صدوع الأرض العملاقة تكونت القشرة القارية بتركيبها الذي تغلب عليه الصخور الجرانيتية, وأثريت تلك القشرة ولا تزال تثري بمختلف العناصر والمركبات علي هيئة العديد من المعادن والركازات ذات القيمة الاقتصادية, وتكونت السلاسل الجبلية التي تثبت باوتادها كتل القارات في قيعان البحار والمحيطات او تثبت قارتين ببعضهما البعض بعد استهلاك قاع المحيط الفاصل بينهما تحت احداهما, وثارت البراكين ورجفت الأرض بالزلازل, وتحركت دورات الماء والصخور وعوامل التعرية وتكونت التربة والرسوبيات والصخور الرسوبية وما تختزنه من الثروات الارضية واصبحت الارض صالحة لعمرانها بالحياة. وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الارض وقيعان عدد من بحارها( من مثل البحر الاحمر) توجد ايضا علي اليابسة وتعمل علي تكوين بحار طولية شبيهة بالبحر الأحمر لتفتيت اليابسة الي عدد اكبر من القارات واشباه القارات, وتحاط تلك الصدوع القاربة العملاقة بعدد من الجبال البركانية العالية من مثل جبل ارارات في شرق تركيا(5100 م فوق مستوي سطح البحر) ومخروط بركان اتنا في شمال شرقي صقلية(3300 م فوق مستوي سطح البحر), ومخروط بركان فيزوف في خليج نابلي بإيطاليا(1300 م فوق مستوي سطح البحر), وجبل كيليمنجارو في تنجانيقا(5900 م فوق مستوي سطح البحر), وجبل كينيا في جمهورية كينيا(5100 م فوق مستوي سطح البحر).
فسبحان الذي وصف الأرض من قبل ألف وأربعمائة سنة بأنها ذات صدع, لأن هذه الشبكة الهائلة من الصدوع العملاقة أو الأودية الخسيفة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين150,65 كيلو مترا, وتمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات لتحيط بالأرض إحاطة كاملة في كل الاتجاهات تتصل ببعضها البعض وكأنها صدع واحد. وسبحان الذي اقسم بالأرض ذات الصدع من قبل ألف واربعمائة سنة تفخيما لظاهرة من اروع ظواهر الارض واكثرها ابهارا للعلماء, واشدها لزوما لجعل الأرض كوكبا صالحا للحياة وللعمران, لأنه بدونها لم يكن ممكنا للأرض ان تكون صالحة لذلك, فعبر هذه الصدوع العملاقة خرج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض, ولايزالان يتجددان وعبر النشاط الملازم لها تحركت الواح الغلاف الصخري الأولي للأرض فتكونت القارات والسلاسل الجبلية, والجزر البركانية, وتجددت قيعان المحيطات, وتزحزحت القارات, وتبادلت اليابسة والمحيطات وثارت البراكين لتخرج قدرا من الحرارة الأرضية الحبيسة في داخل الأرض, والتي كان من الممكن ان تفجرها لو لم تتكون تلك الصدوع العملاقة, وخرجت كميات هائلة من المعادن والصخور ذات القيمة الاقتصادية مع هذه الثورات البركانية, ونشطت ديناميكية الأرض, وثبتت ألواح غلافها الصخري بالجبال.
وهنا نري في صدوع الأرض ابعادا ثلاثة: بعدا لا يتعدي بضعة ملليمترات او بضعة سنتيمترات في انصداع التربة عن النبات, وبعدا آخر في صدوع اليابسة التي تمتد الحركات الأرضية عبر مستوياتها من عشرات السنتيمترات الي مئات الأمتار, وبعدا ثالثا في الصدوع العملاقة التي تنتشر اساسا في قيعان المحيطات. كما توجد في بعض اجزاء اليابسة علي هيئة اغوار سحيقة تتراوح اعماقها بين65 كيلو مترا, و150 كيلو مترا, وتمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات لتحيط بالأرض إحاطة كاملة علي هيئة صدع واحد, ونري اهمية كل بعد من هذه الأبعاد في تهيئة الأرض للعمران. ومن هنا كان القسم القرآني بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربعمائة سنة, والعلم الكوني لم يصل الي كشف تلك الحقيقة إلا في اواخر الستينات واوائل السبعينات من القرن العشرين, ولم يكن لأحد في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بتلك الحقيقة الأرضية, او ادراك لشيء من جوانبها, ولا يمكن لعاقل ان يتصور مصدرا لها قبل ألف وأربعمائة من السنين غير الله الخالق.
وهذا السبق القرآني بالإشارة الي تلك الحقيقة الأرضية والي غيرها من الحقائق الكونية هو ما يؤكد ان القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, وأن هذا النبي الخاتم, والرسول الخاتم, الذي أوحي اليه القرآن, كان دوما موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض فصلي الله وسلم وبارك عليه, وعلي آله وصحبه أجمعين وعلي كل من تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين, اللهم آمين آمين آمين
د. زغـلول النجـار
تم نقل المقال من موقع الهيئة العالمية للأعجاز العلمي فى القرأن والسنة
www.nooran.org