الإلحاد وحقيقته

قوانين الطبيعة أم الإله.. من يُسَيِّر الرياح ويُنزِل المطر؟

لماذا ينشغل العقلاء في نقاش لا ينتهي عن اللانهاية والأبدية؟

وهل فعلًا الإيمان بوجود بداية للكون يوجب بالضرورة وجود خالق؟

ولماذا يجب أن يكون الخالق ربًا أو إلهًا بالمعنى الدارج أصلًا؟

ألا يمكن أن يكون خالق الكون كائن آخر أكثر تقدمًا؟

بل ألا يمكن أن يكون الموجد الأول هو كائن غير واعٍ أصلًا؟

أسهبنا في المقالات السابقة في مناقشة مفهوم اللانهاية، ووضحنا أن داخل هذا الكون المادي لا يمكن أن يكون هناك شيء له صفات لانهائية وإلا سينهار الكون نفسه، فلو أن هناك جسمًا ماديًا له كتلة لانهائية فهذا يعني أنه لا يوجد مساحة لا يشغلها، وبالتالي لا يمكن أن يوجد غيره، ولن يمكنه الحركة لعدم وجود فراغ يتحرك فيه، فسيكون الكون كله عبارة عن جسم ضخم مصمت ساكن بلا حياة، ولهذا فاتصاف الكون نفسه أو أحد موجوداته باللانهائية هي نظرية ينفيها كل جسم مستقل أو متحرك، فحركة يدك نفسها ومجرد وجودك بشكل مستقل عن باقي الموجودات هي أدلة تجريبية على أننا نعيش في كون محدود له بداية وله نهاية في الزمان والمكان، ولا يشاركنا فيه أي كائن مادي له خواص لانهائية.

أهمية فهم أن الكون له بداية ليست ترفًا فلسفيًّا، بل تعني بكل وضوح أن الوجود المادي جزء من وجود أكبر غير مادي؛ فالكون عبارة عن مكعب رباعي الأبعاد داخله المادة والطاقة والزمان والمكان. فوجود بداية ونهاية تعني ببساطة أنه خارج الكون لا يوجد مادة ولا توجد طاقة ولا يوجد مكان ولا يوجد زمان، عدم مادي محض، أي أن هذا الكون المادي الذي نعيش فيه هو مساحة محدودة وحدث طارئ وقصير داخل وجود ممتد ليس به زمان ولا مكان ولا مادة، ولكنه ليس فراغًا خاملًا، بل وجود ميتافيزيقي يعج بالحياة والقدرة الكافية لإحداث هذا الكون الهائل بضخامته بلا احتياج لمادة خام ولا زمن.

وسواء سَميت الفاعل خارج هذا الكون الله، أو سماه بعض علماء الفيزياء المؤثر الخارجي «مثل هوكينج»، أو سماه بعض الفلاسفة المسبب الأول «مثل أرسطو» أو حتى إن اعتبره البعض كائنًا فضائيًا. فالجميع يتفق أن أيًا من كان خارج هذا الكون المادي هو كائن ميتافيزيقي «غير مادي» لا يحده مكان، فلا يحتاج أن ينتقل من بلد لآخر ليشهد ما فيه بل كل الكون بكواكبه ومجراته متراصفة أمامه في وقت واحد. ولا يحتاج انتظار تعاقب الزمان ليعلم ما سيأتي، بل كل لحظات الكون من بدايته إلى نهايته متراصفة أمامه في وقت واحد، وعلى خلاف الكائنات داخل كوننا المادي، فقط هذا الموجد غير المادي يمكن أن يكون له صفات لا نهائية دون أن يتسبب في انهيار الكون لأنه لا يتنافس مع الكون في مساحته ولا مادته ولا طاقته. بل هو على العكس، يمد الكون بمساحته ومادته وطاقته.

ألا يقدم التفسير المادي فهمًا أكثر انضباطًا لطبيعة الكون؟

هذا الفهم غير المادي لطبيعة الوجود وأن الكون مخلوق وحادث، وأن الخالق ميتافيزيقي «حتى وإن لم نتفق بعد على ماهيته ووعيه» كما ناقشنا هو التفسير الأكثر اتساقًا مع الأدلة المادية لبداية الكون، ولكن العائق الحقيقي لتبنيه هو عائق عقائدي وليس موضوعي، فالتفسير الميتافيزيقي تفسير يتناقض مع العقيدة المادية والتي ينتمي إليها كثير من العلماء الغربيين في القرون الثلاثة الأخيرة؛ لذا فقد فضلوا أن يبحثوا عن تفسيرات مادية حتى وإن كان بها كثير من مشاكل عدم الاتساق ما دام هذا سيجعلهم يتجنبون النقاش الميتافيزيقي حول من خلق الكون.

لأجل ذلك واصل الماديون تجاهل آراء كبار العلماء التي تُثبِت بداية الكون المادي «من أينشتاين إلى هوكينج»، وتجاهلوا الأدلة التجريبية المتواترة على أن للكون بداية لم يكن موجودًا قبلها، وبِعند شديد أخذوا يبحثون عن أدلة أخرى قد يمكنها تبرير معتقداتهم، أو حتى محاولة الخروج بفرض نظري متماسك يمكن أن يتخيل الوجود بلا مُوجد ميتافيزيقي بدون أن يتناقض مع نفسه أو يتناقض مع الثابت من العلوم الأخرى. «برجاء مراجعة المقال السابق لتفصيل عن المحاولات المتتالية لإيجاد بديل مادي لتفسير الخلق».

ورغم تكرار هذه المحاولات فإنه قد مر ما يقارب من مائة عام منذ التعديل الأخير على النسبية العامة «١٩٢٣»؛ حين أقر أينشتين ببداية الكون وحدوثه، وُلدت في هذه الأعوام وماتت أجيال كاملة من العلماء الماديين لم ينجح فيها أي منهم في تقديم دليل ما على إمكانية نشوء الكون من العدم بدون سبب خارجي، بل على العكس، فإن الأدلة في المائة عام الأخيرة، تجمعت بشكل قل تكراره في تاريخ العلم على أن الكون المادي له بداية، ولم يكن موجودًا من قبلها.

الاتجاه الوحيد المتماسك رياضيًا، والذي يقدم بديلًا لمُوجد ميتافيزيقي هو نظرية الأوتار، وهي نظرية تفترض في إحدى صورها الشائعة أن الكون مادي، ولكن هناك عكس للمادة، وأنه قبل بداية الكون كان الوجود وعكسه يتموجان في بعضهما فيلغي بعضهم البعض، ولأن هذا التموج مضطرب فيتصادف أن يحدث فيه من وقت لآخر فقاعة خالية من المادة «ممتلئ بعكس مادة صرف» أو فقاعة خالية من عكس المادة «مادة صرف»، ولكن سرعان ما تنهار هذه الفقاعات المؤقتة ويظهر غيرها بشكل عشوائي في مكان آخر أو تندمج إحدى الفقاعتين لتكون فقاعة جديدة، وحسب هذا التصور؛ فكوننا موجود في إحدى هذه الفقاعات المؤقتة والتي ستُفجر قريبًا، ونندمج مع عكس المادة ونصبح عدمًا.

وبغض النظر عن أن هذا التصور ما زال لا يُقدم تفسيرًا للبدء، أو تحديدًا للمؤثر الخارجي الذي أثّر على العدم وجعله ينشطر إلى وجود مادي وعكسه، أو تحديدًا لمن أوجد الطاقة التي أدت لهذا الاضطراب المستمر، ولكن كثيرًا من العلماء يرفضونه لسبب آخر؛ وهو أنه خيال رياضي صرف ليس عليه دليل واحد، بل لا يمكن أصلًا إيجاد دليل مادي عليه، فالصياغة الرياضية مهما كانت فاخرة ليست دليلًا في حد ذاتها، فهي قد تدل على أن قصتك لا تناقض بعضها بعضًا، ولكنها لا تثبت أن القصة حقيقية، بل يمكنك أن تصيغ كلًا من الأمر وعكسه رياضيًا، وكل منهما سليم في ذاته وبناء على افتراضاته.

فالعالم الذي يستخدم النموذج الرياضي كالمحقق الذي يستخدم رسامًا محترفـًا يرسم المجرم من وصف الشهود، وقد يكون الرسام نفسه ماهرًا فيرسم المشتبه فيهم بدقة كما لو كنت تتطلع لصورة فوتوغرافية. ولكن دلالة الرسم على الجاني مثلها مثل دلالة النموذج الرياضي على الحقيقة، صحتها تقتصر على صحة الأدلة التي بنيت عليها، فصحة الرسم تتوقف على مَنْ مِن الشهود الذين قرر المحقق أن يستدعيهم ومن قرر أن يتجاهلهم، وجودة الشهادة نفسها والتي تتوقف على دقة ذاكرة الشهود وأمانتهم، ومهما كان الرسام ماهرًا فإن اضطربت الأدلة والشهادات سيخرج برسومات لمشتبه فيهم قد لا يكون لهم وجود أصلًا، فإن لم تكفِ الأدلة المبني عليها النموذج فلا قيمة للنموذج نفسه، إلا كالقيمة الجمالية لرسم الفنان، والتي تشبه حسن صياغة الرياضي.

وقياسًا على هذا المثال، فنظريات الأكوان المتعددة لم تقم على أدلة مضطربة فحسب، بل هي لم تقم على أدلة أصلًا؛ فهي تقدم شكلًا رياضيًا فاخرًا لافتراضات ليس عليها دليل، ولا يوجد عليها شهود، ولا يمكن جمع أدلة عليها، لهذا فقد أصبحت مثارًا للتندر في كثير من المحافل العلمية لأنها أمر غير قابل للتجريب ولا الإثبات أو النفي، وبالتالي فهي ليست علمًا ولكن فلسفة مصاغة رياضيًا، والحل الوحيد لقبولها هو الإيمان بها بشكل غيبي لا يختلف كثيرًا عن الإيمان بالأرواح الشريرة التي تسبب الأمراض.

فقد نشرت دورية نيتشر الأشهر علميًا مقالًا للفلكي الشهير جورج إيليس يدعو لوضع حد لهذه الفانتازيا الرياضية وتسميتها علمًا، طالما هي غير قابلة للتجريب، واستجابة لهذا المقال المهم فقد احتشد كبار علماء الفيزياء وفلسفة العلوم في العالم «من ضمنهم عدد من الحائزين على جوائز نوبل» في ورشة عمل بجامعة ميونيخ في ألمانيا ٧ و٨ ديسمبر ٢٠١٥، وذلك لمعالجة انفصال الفيزياء النظرية عن الواقع وعن عدم انضباطها العلمي والتجريبي، وكان دفاع علماء الفيزياء النظرية أنه بالرغم من أن كثيرًا من النظريات هي بالفعل غير قابلة للاختبار وبالتالي غير علمية، إلا أن بعض النظريات قد يمكننا في يوم ما من اختبارها. وأوضحت بروفيسور سابين هوسين فيلدر «عالمة الفيزياء في مركز الفيزياء النظرية في استوكهولم وأحد علماء مركز فرانكفورت للأبحاث» أن «شعبية نظرية الأوتار قد تكون أعطت انطباعًا بأنها البديل العلمي الوحيد، بينما الحقيقة أن نظرية الأوتار قد لا تكون أخذت شهرتها إلا نتيجة لأسباب اجتماعية؛ فالباحثون الشباب نشطوا في دراستها لأن الفرص الوظيفية المتاحة «لعلماء نظرية الأوتار» أفضل من المتخصصين في النظريات الأخرى الأقل شهرة»، كذلك فقد وضّح بروفيسور هيلج كراج عالم الرياضيات الدنماركي وأحد أهم المتخصصين في فلسفة العلوم في أوروبا وعضو أكاديمية العلوم الأوروبية «وهي سلطة علمية رفيعة جدًا»، وضّح في هذا التجمع العلمي أن كون أدواتنا العلمية الحالية لا تصلح لدراسة المجال الذي تحاول أن تقتحمه الفيزياء النظرية «وهو وجود الكون» فهو أدعى لكي نطور أدوات بحثية جديدة ولا يعطينا مبررًا لأن نهمل المنهج العلمي القابل للتجريب ونستبدله بمعايير رياضية، كما أن نظرية الأوتار والأكوان المتعددة ليست إلا جزءًا صغيرًا جدًا من أجندة عمل الفيزيائيين، بصياغة أخرى «والكلام لي وليس لدكتور كراج» فإن دكتور كراج يشير إلى أنه من الأوفق أن نوفر الطاقات البحثية للقضايا العلمية الأساسية ولا نهدرها على موضوع إعلامي.

تهاوي الأدوات العلمية والرياضية في الميتافيزيقا

أحد التبعات العلمية الكبيرة لمحدودية الكون المادي والاعتراف بنطاق ميتافيزيقي للوجود هو الاعتراف بأن البشرية ليس لديها أي أدوات علمية لدراسة ما قبل بداية الكون وما يقع خارجه، فعدم وجود نطاق مادي لا يعطل العلوم التجريبية فقط، ولكنه يعطل الرياضيات نفسها ويجعلها غير ذات دلالة؛ فالرياضيات التقليدية ليست إلا لغة للتعبير عن واقع مادي ندركه، والرياضيات مثل بقية اللغات تتشوه نتيجة قدرتنا القاصرة عن إدراك الوجود بشكل منضبط وثابت من شخص لآخر، ونتيجة لتنوع أدوات القياس، ثم تتشوه مرة أخرى نتيجة عدم قدرتنا على التعبير عما نعيه بشكل موحد ومنضبط، كما أن الرياضيات في أفضل حالاتها لا تعبر إلا عن الجانب المادي من الوجود وتعجز عن التعاطي مع الميتافيزيقا «لنقاش مفصل لمحدودية اليقين الرياضي برجاء الرجوع للمقالات الثلاثة الأولى في هذه السلسلة والمختصرة في نهاية هذا المقال».

ولهذا لا يمكن وضع توصيف فيزيائي لبدء الخلق من عدم لأن قوانين الفيزياء تتعطل تمامًا، وحتى الرياضيات نفسها تنهار لأنها لا تستطيع التعاطي مع المفاهيم التامة والمطلقة، فمثلًا معادلة مثل النسبية الخاصة تفقد معناها تمامًا عندما تكون كل من الطاقة والكتلة والسرعة «والسرعة ما هي إلا تعبير رياضي عن قيام المكان والزمان» = صفر، ومفتاح توصيفنا للخلق من عدم هو ببساطة أن نتعاطى مع مفهومين مطلقين وتامين هما الصفر والقدرة المطلقة.

الصفر

فالصفر، والذي يعني في الفهم العام «لا شيء» لا يمكن أن نستخدمه بهذه الدلالة رياضيًا وإلا ستنهار لغة الرياضيات، لأن الـ«لا شيء» ليس مفهومًا ماديًا بل ميتافيزيقيًا، وهنا يجب توضيح أن العدم لا يعني الفراغ؛ فالفراغ شيء له قوام وحدود ويمر عليه الزمن ويتفاعل مع المادة وله ضغط محدد وله درجة حرارة، بل إن الأبحاث الحديثة أثبتت أن أي فراغ يحتفظ بوجوده داخل الزمان والمكان يجب أن يحتوي على طاقة ما، وهذه الطاقة قد تتموج وينتج عنها مادة، فتبدو المادة كأنها خرجت من العدم، ولكنها في الحقيقية خرجت من فراغ مادي يعج بالطاقة، لذا فنقطة العدم التي نتحدث عنها «ما قبل الكون» لا يوجد بها حتى الفراغ، بل عدم مادي محض انبثق الكون من خلاله، عدم لا يمكن أن يتحقق إلا بانعدام مطلق للمادة والطاقة والزمان والمكان، وهذه هي تحديدًا المنطقة التي ينتهي فيها الكون المادي وتبدأ الميتافيزيقا.

وهذا الصفر المحض هو مفهوم يعطل الرياضيات تمامًا «برجاء مراجعة المصادر في نهاية المقال»؛ فإن أردت أن تخلق كونًا فلن تستطيع مثلًا إضافة مادة أو طاقة إلى المعادلة، لأن الجمع والطرح نفسيهما هما تعبيران ماديان يستلزمان وجود شيء ما تجمعه أو تطرح، وبما أنك في نقطة العدم المادي المحض، فليس هناك طاقة أو مادة بعد لتضيفها، فكل ما لديك من مادة خام للكون هي العدم.

القدرة

إن إنشاء كيان مادي «بأبعاده الأربعة» من العدم لا يتطلب فقط وجودك حيًا في النطاق الميتافيزيقي للوجود، بل يجب أن تمتلك أيضًا قدرة لانهائية لكي تنتج أول جرام من الكون، ولكي تنشئ أول قدر من الطاقة.

يجب أن تمتلك قدرة كافية غير مرتبطة أصلًا بالأسباب المادية، لأنك ستخلق من العدم ولكي تخلق بلا أدوات، ولا مادة خام ولا فترة زمنية لإنتاج الكون.

وهنا يجب أن نتساءل ما معنى «القدرة» في عالم غير فيزيائي؟

فهي ليست كالقدرة في عالمنا.

فلا تحدها توافر طاقة ولا مواد ولا يد عاملة.

ولا يحدها تعقيد أو بساطة تصميم الكون.

ولا التزام مسبق بقوانين الطبيعة.

والخلق في هذه النقطة لا يستلزم انتظار تعاقب خطوات؛ فليس هناك زمن يفصل الإرادة عن التحقق.

فالقدرة هنا تتحقق بشكل ملازم للمشيئة، إن أراد حدث، بهذه المباشرة.

هذا بوضوح هو وصف الخالق، غير المادي، لانهائي القدرة الذي يخلق من العدم وإن أراد شيئًا يقول له كن فيكون.

‏«‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏»‏ «البقرة: 117»

هل يستدعي الإيمان بالخالق الإيمان بأنه رب؟

ولكن لماذا نهتم أصلًا بقضية الخلق؟ فهل يستوجب الإيمان بوجود خالق للكون الإيمان بأنه بالشكل المتداول في الأديان؟ ألا يمكن أن يكون الخالق خلق الكون كما هو ثم تركه يُسيِّر بعضه بعضًا؟ ما الذي يستدعي الإيمان بأنه رب يتدخل في تسيير الحياة اليومية بالشكل الذي تصفه الأديان؟ كيف يدل هذا مثلًا على أنه يُسيِّر الرياح ويُنزل المطر، ويرزق بالولد؟

أقول إن وجود خالق خارج الزمان والمكان يؤدي بالضرورة إلى الإيمان بالربوبية.

لأنه خلق بلا زمان ولا قوانين،

لأن أحداث الكون لم تُخلَق بالتعاقب، ولكنها خُلِقَت جميعًا في لحظة واحدة.

لحظة تشمل خلق كل لحظات الكون.

فكل ما تراه يُخلَق توًا.

فالكون كله بماضيه وحاضره خُلِق دفعة واحدة، وكل نقطة مياه شربتها خُلقت لتوها، وكل هواء دخل رئتيك خُلق الآن، وبالتالي فكل ما يحدث في الكون هو مخلوق لله الآن ومنفعل بقوته.

ولكن الكون له طبيعة زمنية مزدوجة، فبينما تنشأ الأرض مثلًا بكل مكوناتها ولحظاتها من العدم بلا زمن، ولكنها لكي تتجسد ماديًا فهي تنبسط على مساحة من الأحداث استغرقت إلى الآن ٤.٥ مليار سنة من تعاقب اللحظات، فكل مفردات الكون تحتاج بعدًا زمنيًا لكي تتجسد ماديًا وتحتل مكانها في وسط نسيج الكون، أي أن الأشياء لها طبيعة مزدوجة إنشاء ميتافيزيقي بلا زمن ووجود مادي لكي يتجسد ينبسط على مساحة زمنية.

هذه الطبيعة المزدوجة للبعد الزمني تحل إشكالية أخرى، وهي إشكالية قدرة قوانين الطبيعة؛ ففي لحظة الخلق قوانين الطبيعة كلها معطلة؛ لأن القوانين والكيفيات تعني تعاقب سبب ونتيجة، وفي غياب الزمن لا يوجد تعاقب أصلًا، فالسبب والنتيجة يحدثان في وقت واحد، ولهذا فقوانين الطبيعة ليس لها قوة ذاتية مستقلة عن قدرة الخلق، بل ما هي إلا نمط من التعاقب يكثر تكراره على نسيج الزمان والمكان نتيجة لتصميم الكون وليس لانه  ينشئ بعضه بعضا في كل لحظة

 

تخَيل أنك نملة صغيرة تمشي على رداء مطرز بالورود البيضاء والخضراء، وكلما مررت على وردة بيضاء، ما تَلبثْ أن تنتهي وتجد وردة خضراء بزغت من حيث انتهت البيضاء، فكثرة تتابع النمط قد يجعلك تستنتج أن الورد الأبيض لا بد وأن يليه ورد أخضر، وأن هذه أحد قوانين الطبيعة الحتمية، بل إن امتلكت مهارات رياضية كافية يمكنك أن تتنبأ بموعد بزوغ الوردة الخضراء بدقة، وستظن أن هذا التعاقب هو قوة خاصة لدى الوردة البيضاء، بينما لو تمكنت من أن تنتقل من جسد النملة الصغير لتخرج خارج الرداء، وامتلكت البصر الكافي لتنظر للرداء كله مرة واحدة، فستدرك أن كل هذه الرحلات التي خضتها لم تكن إلا تصفحًا لنسيج موجود في وقت واحد، ولكن لمحدودية حجمك وإدراكك كان عليك إدراك تفاصيله بالتعاقب، وما ظننته عمر الوردة البيضاء ولحظات ولادتها ونموها ثم اضمحلالها، لم يكن سوى سرعة عبورك أنت عليها، وما ظننته قوانين الطبيعة من قدرة الورد الأبيض على إنشاء الأخضر ما هو إلا نمط متكرر أراده الصانع لسبب جمالي أو وظيفي، وأن الورد الأبيض والأخضر ليس له قوة مستقلة به تجعله يفعل وينفعل، بل هو يبزغ حيث هو بإرادة الصانع وتصميمه الفني.

فالجاذبية مثلًا تعمل بالنمط الذي تعمل به تناسبًا مع كتلة الأجسام الجاذبة والمنجذبة، ولكن نمط العلاقة بين حركة الأجسام وخواصها ليس إلا تعاقب متكرر على نسيج الزمان والمكان، وكل أحداث الانجذاب خُلِقَت سويًا، وخُلِقَت لتوها، وخُلِقَت الآن، وأن انبساطها على جسم الكون الزماني لا يحدث إلا بقوة الخلق نفسها.

وكل مكونات الكون التي تصادفها في حياتك، هي موجودة ومصممة بتعاقب دقيق تتقاطع معك ثم ترحل، فتتحرك مجموعة محددة من الذرات في رحلة لمليارات السنين، تبدأها في الانفجار الكبير، وتنهيها بأن تلتقي مع بعضها في هذه البقعة الصغيرة التي تقف عليها، ثم تمكث ما شاء الله لها أن تمكث، وتنطلق من جديد في رحلة جديدة إلى خلق جديد، إلى أن نصل إلى النقطة التي ينتهي فيها الكون كما بدأ.

‏«‏يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏»‏ «الأنبياء:104».

والكون يحتاج للزمن مثلما يحتاج للأبعاد الأخرى ليتجسد ماديًا لا لينشأ من العدم؛ فالكون بمساراته ومكوناته وأحداثه لم ينشأ ويصبح على ما هو عليه بمرور الزمن، بل إن الخمسة عشرة مليار عام الماضية كلها خلقت الآن كما هي بشكل ميتافيزيقي بزغ للوجود فجأة بكن فيكون، وإذا كان الكون نفسه مصممًا ومخلوقًا بإرادة إلهية خارقة للطبيعة، تصبح جميع مكوناته مخلوقة بشكل إلهي خارق للطبيعة «ميتافيزيقي».

وبالتالي فالجاذبية هي معجزة، ويستحيل أن توجد جاذبية بدون تدخل إلهي خارق يحدث الآن «حيث الآن تشمل كل لحظات الكون في وقت واحد».

والمطر معجزة تُخلَق الآن

والولادة معجزة تُخلَق الآن

والذرات داخل جسمك متماسكة الآن بهذه المعجزة

والسائل في عينيك والمياه التي في البحار، لا يمسكها في موضعهما إلا معجزة تُخلَق الآن.

وأن تغيب الشمس يوميًا فهذا تصميم وفعل إلهي ميتافيزيقي ليس له تفسير مادي؛ لأن كل ذرات الشمس نفسها بزغت فجأة من العدم بدون تفسير مادي، وتراصت زمنيًا حتى تتقاطع في نقطة ما مع عمر الإنسان، ثم تتفكك لتمارس أدوارًا مختلفة، ثم ينتهي مسارها مع نهاية الكون، وليس هناك سبب مادي يفسر كيف ظهر هذا المسار فجأة وإلى أين سيختفي.

«‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»‏ «الزمر:٦٧».

نحن ننتقل بوعينا ببطء بين لقطات متراصة هي عبارة عن المساحة المتاحة لكل منا من نسيج الزمان والمكان، والتي نقرأ الفعل الإلهي في كل تفاصيلها، مرة نتفاعل مع الأحداث المتدفقة أمامنا، ومرة نتدبر في تعاقبها، ونستنتج قوانين الطبيعة التي ما هي إلا تصميم الكون وبيان لإرادة الخالق في الوجود، وفي هذه المساحة المؤقتة للاطلاع على خلق الله لا نملك فيها بشكل حقيقي حتى مادة أجسامنا، وكل ما نملكه فعلًا هو وعيًا وإرادة نختار بها موقفنا من الأحداث ولا نسيطر حقيقة على تدفقها إلا بقوة الخالق وإرادته، ولهذا في حدود حريتنا ومسئوليتنا لا تتعدى قدرتنا على الاختيار وهو ما نناقشه في المقال القادم بإذن الله.

‏«‏اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ»‏ «البقرة: 255»

تلخيص سلسلة مقالات الرياضيات والإيمان السابقة

المقال الأول ويتحدث عن اللانهاية كمدخل ميتافيزيقي لوجود الله ومحدودية اليقين الرياضي.

المقال الثاني ويتحدث عن عدم اتفاق العلماء على ما هي الأرقام نفسها وأنها كلغة غير محكمة بشكل قاطع مما يؤدي للكثير من المشاكل العملية، وأن اليقين الرياضي هو في حقيقته لا يختلف عن اللغوي، فكلاهما يقين كيفي وصفي وليس يقين كمي أو حتمي.

المقال الثالث يتوسع في مناقشة التطبيقات العملية للتعامل مع الرياضيات بشكل كيفي وليس كميًا، ويناقش تطبيقات اقتصادية لتوضيح كيف أن الاعتماد على المعنى الكمي للرياضيات والإحصاء يؤدي إلى قصور كبير في المعارف الاقتصادية، ثم يناقش التناول القرآني لليقين الكيفي والكمي للأعداد.

المقال الرابع ناقشنا فيه كيف تختلف المنتجات الرياضية حسب ما تأسست عليه من اختيارات فلسفية لماهية الوجود والمعرفة، وكيف أن الماديين والحدسيين كلاهما كانوا يتصارعون لإثبات الشرعية العلمية لمنهجهم، وأن دوافع هذا الصراع لم تكن دائمًا موضوعية كما تظهر من الخارج، بل هو صراع عقائدي لاختيارات فلسفية متباينة.

المقال الخامس ناقشنا فيه كيف أسس الماديون عقيدتهم المادية «والتي تشمل الأبدية، الحتمية، كفاية التفسير المادي، القدرة اللانهائية للعشوائية، والشرعية الحصرية للتفسير المادي والمنطقي» على اختيارات فلسفية، ثم روجوها على أنها الاختيار العلمي الوحيد، واحتكروا المنابر الإعلامية والتعليمية لتسويقها وفرضها على العامة نسخة سوقية معتمدة من العلم، وكيف ظلوا لمئات السنين تتواتر الأدلة العلمية على خطأ أو على الأقل عدم كفاية اختياراتهم الفلسفية، ولكنهم ظلوا متشبثين بشكل غير مبرر علميًا بإهمال الأدلة ومحاولة البحث عن نموذج نظري أو تجريبي متماسك علميًا لخلق الكون بلا مسبب ميتافيزيقي.

المقال السادس في بيان عدم صلاحية نظرية الأوتار والأكوان المتعددة، وفي تفصيل التبعات الوجودية والمعرفية لبداية الكون ومحدوديته، وتحديدًا في بيان كيف أن طبيعة الوجود الحقيقية هي طبيعة ميتافيزيقية وأن الكون المادي جزء منه، وهذا يستدعي ثلاث تبعات مهمة: أولًا عدم صلاحية المناهج التجريبية والمادية ولا الرياضية في استكشاف الوجود خارج الكون، ثانيًا نتيجة لعدم وجود الزمن فلا معنى حقيقي لقوانين الطبيعة، فالسببية والتي تقتضي تعاقب السبب والنتيجة لا معنى لها بلا وجود للزمن، ثالثـًا أن عملية الخلق نفسها هي عملية مستمرة تخلق في نقطة واحدة كل لحظات الكون سويًا، وبالتالي فهي القوة الوحيدة الفاعلة داخل الكون المادي، وأن المسبب الأول ليس كما تصوره أرسطو هو من أطلق أول حركة في سلسلة متواصلة من السببية، بل أنشأ السلسلة الزمنية كلها دفعة واحدة، وهذا التفسير للوجود يقدم انضباطـًا علميًا يتلافى كثير من قصور التفسيرات المادية، ومن ناحية أخرى يتسق مع التصور الإسلامي عن صفات الربوبية والقدرة، ويقدم سؤالًا للربوبيين عن وجاهة أن لا تؤمن برب يتدخل في الشؤون اليومية بعد أن آمنت به كخالق ميتافيزيقي.

المصدر : ساسةبوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى