دراسة ميدانيةعن الاستشهاديين الفلسطينيين
200 عملية استشهادية منذ عام 1993
منفّذوها 95% من الذكور و5% من الإناث من أسر متوسطة لها دوافع وطنية
أصدر الدكتور بسام يوسف إبراهيم بنات، الذي يعمل محاضراً في دائرة العلوم التنموية في جامعة القدس «بروفيل شخصية الاستشهاديين الفلسطينيين والعمليات الاستشهادية»، وهو عبارة عن دراسة مسحية ميدانية هي الأولى من نوعها للاستشهاديين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
يتحدّث البروفيل عن ظاهرة اجتماعية جديدة انتشرت في المجتمع الفلسطيني بمختلف فئاته وطبقاته الاجتماعية، وأثارت ردود فعل متباينة محلية وعالمية، وشكّلت نقطة تحوّل في تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. فهناك ما يربو على (200) عملية استشهادية (حزام ناسف، وحقيبة، وسيارة مفخخة) نفذها استشهاديون فلسطينيون ابتداءً من عام 1993، ولأصحابها ما يكفي من السمات النفسية، والاجتماعية، والدينية، والوطنية، التي أهلتهم للقيام بها.
ويعتبر البروفيل دراسة توثيقية لشخصية الاستشهاديين الفلسطينيين، والعمليات الاستشهادية، كجزء مهم في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، وخلافاً للكثير من المسميات الخاطئة التي وسموا بها وعلى رأسها «الانتحاريون»، بحيث اشتمل على كافة المتغيرات الديمغرافية من حيث: الجنس، والفئة العمرية، والمؤهل العلمي، ومكان السكن، والمحافظة، والانتماء السياسي، ومدى التعرض للعنف الإسرائيلي،… الخ، إلى جانب الخصائص الديمغرافية للعمليات الاستشهادية الفلسطينية من حيث: تاريخها، وتوقيتها، ومكان تنفيذها،.. الخ، ويعرج البروفيل على الاجراءات التعسفية التي اتخذها الإسرائيليون بحق أسرة الاستشهادي بعد تنفيذ العملية الاستشهادية.
ويلخص البروفيل الخصائص الشخصية للاستشهاديين الفلسطينيين: الاجتماعية، والدينية، والوطنية والنفسية، إضافة إلى دوافع الاستشهادي في الواقع الفلسطيني، والتغيرات السلوكية التي ظهرت على الاستشهادي والتي تم ملاحظتها من الأهل والأصدقاء قبل تنفيذ العملية الاستشهادية. ويحوي البروفيل وجهة نظر أهالي الاستشهاديين الفلسطينيين في العمليات الاستشهادية، إضافة إلى عدد من وصايا الاستشهاديين -رحمهم الله جميعاً- التي كتبوها بدمهم ولحمهم، لحن وفاء وأنشودة حرية.
مواصفات نوعية
ويبرز بروفيل شخصية الاستشهاديين الفلسطينيين والعمليات الاستشهادية أهم النتائج الآتية:
أغلبية الاستشهاديين (95%) من الذكور مقابل 5% من الإناث. إذ فاجأ دخول المرأة الفلسطينية مضمار العمليات الاستشهادية الأوساط الأمنية الإسرائيلية التي باتت تعلم أنها في مواجهة ظاهرة أصبح كل الشعب الفلسطيني شباباً وفتيات يبحث عمن يساعده في القيام بمثلها. فقد أدركت المرأة الفلسطينية أهمية النضال الوطني ودوره الفعّال في تحرير فلسطين، والتخلص من الاحتلال، فاندفعت إلى ساحة النضال الوطني، وتعرضت كما الرجال الفلسطينيون إلى شتى أنواع العنف الإسرائيلي، وأصبح همها وهم الرجل هو تحرير الوطن السليب. فشاركت بفاعلية في النضال الوطني عبر التاريخ الفلسطيني، فكانت الأم، والأسيرة، والجريحة، والشهيدة، والمطاردة، والمناضلة، والاستشهادية، بدءاً من وفاء إدريس، ودارين أبو عيشة، وآيات الأخرس، وعندليب طقاطقة، وهبة دراغمة، وهنادي جرادات، وريم الرياشي، وزينب أبو سالم، وميرفت مسعود، وفاطمة النجار.
وذلك ما أكدته الاستشهادية دارين أبو عيشة في وصيتها على دور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني، ودوره الفعّال في تحرير فلسطين، داعية المرأة الفلسطينية إلى الوقوف إلى جانب الرجل في العمل الجهادي المقاوم، والمشاركة الفعّالة في العمليات الاستشهادية، إذ قالت: «لأن دور المرأة المسلمة الفلسطينية لا يقل في شأنه متانة عن دور إخواننا المجاهدين، فأهب نفسي رخيصة في سبيل الله سبحانه وتعالى انتقاماً لأشلاء إخواننا الشهداء، وانتقاماً لحرمة ديننا ومساجدنا، وانتقاماً لحرمة المسجد الأقصى وبيوت الله التي حولت إلى بارات يمارس فيها ما حرم اله نكاية في ديننا وإهانة لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إن دور المرأة الفلسطينية لم يعد مقتصراً على بكاء الزوج والأخ والأب، بل إننا سنتحول بأجسادنا إلى قنابل بشرية تنتشر هنا وهناك، لتدمير وَهْم الأمن للشعب (الإسرائيلي)، وأتوجه إلى كل مسلم ومناضل عشق الحرية والشهادة أن يبقى على هذا الدرب المشرف؛ درب الشهادة والحرية».
والواقع أن المرأة الفلسطينية ما تزال تُثبت يوماً بعد يوم أنها تشكل حالةً نضالية متقدمة في تاريخ القضية الفلسطينية، فمنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية لم تتوان المرأة الفلسطينية عن تقديم روحها رخيصةً فداءً لوطنها الغالي، فكانت أسماء عديدة من المناضلات الفلسطينيات ممن سطّرن أروع ملاحم البطولة بدمائهن وأجسادهن الطاهرة فكانت دلال المغربي، وشادية أبو غزالة، وأسماء أخرى ممن تصدرن قيادة العمليات المسلحة ضد الاحتلال.
– بيّنت النتائج أن أغلبية الاستشهاديين من الشباب غير المتزوجين (العزّاب)، الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة.
– أغلبية الاستشهاديين من الفئة المتعلمة والمثقفة في المجتمع الفلسطيني، التي وصلت إلى إدراك صحيح لحقيقة الصراع مع المحتلين.
– جاءت أغلبية الاستشهاديين من الأسر النووية، والمتوسطة الحجم، ومن ذوي الترتيب الوسط في الأسرة.
– أشارت النتائج إلى أن أغلبية الاستشهاديين من المتدينين.
– بينت النتائج أن أغلبية الاستشهاديين يتمتعون ببناء جسمي سليم من حيث: الوزن، والطول، ولون البشرة، والملامح الخارجية.
– أغلبية الاستشهاديين من الضفة الغربية، فقطاع غزة، ومن كافة التجمعات السكانية الفلسطينية من مدن وقرى ومخيمات، وكانت نابلس مدينة الاستشهاديين.
– أغلبية الاستشهاديين من اللاجئين الفلسطينيين الذين تعرضوا للاقتلاع والتهجير من أرضهم ومدنهم وقراهم المحتلة عام 1948.
– بالنسبة للوضع الاقتصادي للاستشهاديين بينت النتائج أنهم من ذوي الوضع الاقتصادي المتوسط، ومن الفئة المنتجة في المجتمع، وكانوا يعملون في وظائف عديدة بمرتبات شهرية متوسطة، ولم يكن الأغلبية المعيل الأساسي لأسرهم.
عنف صهيوني
أشارت النتائج إلى تعرض أغلبية أسر الاستشهاديين الفلسطينيين لشتى أنواع العنف الإسرائيلي، التي جاءت مرتبة حسب الأهمية: مصادرة الأراضي، واقتلاع الأشجار، وتجربف الأراضي، والتعرض للإهانة والشتيمة، والاعتقال، ومداهمة المنازل، وعدم الحصول على تصاريح لدخول الأراضي الفلسطينية المحتلة 48 لأغراض إنسانية، تلاه فقدان العمل (مصدر الرزق) داخل المناطق المحتلة عام 48، والمنع من السفر، والتعرض للإصابة والاستشهاد، إضافة إلى هدم المنازل، والمطاردة، وحدوث الإعاقة أو العجز، والتعرض للإبعاد، والإقامة الجبرية. ولم يسلم الاستشهاديون أنفسهم من العنف الإسرائيلي الذي طال شريحة واسعة منهم، إذ تعرّض أغلبيتهم لخبرات صادمة كان من أهمها: الإهانة والشتيمة، ومداهمة المنزل، والمعاملة السيئة على الحواجز والبيئة المحيطة، والتعرض للضرب، واستشهاد عزيز، إلى جانب الاعتقال والإصابة، وعدم الحصول على تصاريح لدخول الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 لأغراض إنسانية، وفقدان العمل (مصدر الرزق) داخل «الخط الأخضر» 48، والتعرض للمطاردة والمنع من السفر. ولم تسلم حتى جثث الاستشهاديين من الإجراءات الإسرائيلية العقابية، فقد أشارت النتائج إلى أن سلطات الاحتلال ما زالت تحتجز في مقابر خاصة أغلبية جثثهم وترفض تسليمهم إلى ذويهم لدفنهم.
وحاولت قوات الاحتلال ثني الفلسطينيين عن المقاومة واستخدام أسلوب العمليات الاستشهادية بكل الوسائل القمعية التي طالت في جانب كبير منها أسر الاستشهاديين بعد العملية الاستشهادية ومن أهمها: عدم الحصول على تصاريح لدخول الأراضي الفلسطينية عام 48 لأغراض إنسانية، ومداهمة المنازل، وفقدان أفراد أسرهم العمل (مصدر الرزق) داخل الأراضي المحتلة 48، ومنعهم من السفر خارج البلاد، وهدم بيوتهم، والتعرض للإهانة والشتيمة، والاعتقال، والمطاردة، والإصابة، والإقامة الجبرية، وتجريف الأراضي، واقتلاع الأشجار، إضافة إلى مصادرة الأراضي، والتعرض للقتل والإبعاد عن أرض الوطن.
حماس تتصدّر القائمة
أشارت النتائج إلى أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بجناحها العسكري «كتائب الشهيد عز الدين القسام» هي الأب الروحي للعمليات الاستشهادية الفلسطينية، تلاها حركة الجهاد الإسلامي بذراعها العسكرية «سرايا القدس»، فحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) بجناحها العسكري «كتائب شهداء الأقصى»، تلاها قوى اليسار الفلسطيني وبالتحديد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بجناحها العسكري «كتائب الشهيد أبو علي مصطفى»، فالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بجناحها العسكري «كتائب المقاومة الوطنية».
وبينت النتائج أن أغلبية فصائل المقاومة الفلسطينية استطاعت تنفيذ عملياتها الاستشهادية من خلال الأحزمة الناسفة، في كافة المدن والتجمعات الإسرائيلية، وبالتحديد في مدينتي تل أبيب، والقدس، وغيرهما من التجمعات الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعكست النتائج قدرة الفصائل الفلسطينية على التخطيط الدقيق لعملياتها الاستشهادية من حيث المكان، والتوقيت فجاءت أغلبيتها على مدار الأسبوع وبالتحديد صبيحة أيام الأحد، وعلى مدار السنوات الماضية وبالتحديد عام 2002.
وأظهرت النتائج تعبير أغلبية الاستشهاديين عن خيارهم الاستشهادي من خلال وصاياهم بكلمات كتبوها بدمهم ولحمهم، لحن وفاء وأنشودة حرية. وقد توزعت هذه الوصايا بين مرئية ومكتوبة، وجّهت أغلبيتها إلى أسرهم، وأفراد الشعب الفلسطيني، وللقيادة الإسرائيلية أيضاً، مع حرصهم الشديد على الظهور بالزي العسكري أثناء قراءتهم لها.
وأوضحت الدراسة أهمية عامل الاختيار للاستشهادي، والتزامه بالعمل السري، كمتطلب أساسي لضمان نجاح العملية. فلم يترك أغلبية الاستشهاديين أي علامة تدل على نيتهم القيام بالعملية، ولم يختفوا من بيوتهم قبل تنفيذ العملية، وكانت العملية مفاجئة لجميع من عرفهم، وكان الإعلام بمصادره المختلفة المصدر الأساسي لأسرهم لمعرفة ملابسات العملية.
وأشارت النتائج إلى أن الاستشهاديين أناس عاديون، عاشوا حياة عادية طبيعية في وسطهم الاجتماعي، وكانوا اجتماعيين، متدينين، وطنيين، ويتمتعون بدرجة كبيرة من الاتزان الانفعالي.
الدوافع
بينت الدراسة أن دوافع الاستشهاد إنما هي دوافع وطنية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وممارساته القمعية اليومية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل. إن أبسط الواجبات الإنسانية هي مواجهة العدو المحتل، والمقاومة بكافة أشكالها واجب وطني طالما هناك احتلال، فالشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي أمام وحشية (إسرائيل) لمجرد إرضاء الرأي العام العالمي، الذي فشل في توفير الحماية الدولية له. لقد أصبح راسخاً في الذهنية الفلسطينية، وفي العقل الجمعي الفلسطيني أن الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين هو السبب المباشر في وجود المقاومة، وعلى هذا فإن استمرار الاحتلال يعني وبكل بساطة استمرار الشعب الفلسطيني في المقاومة بكل أساليبها وأشكالها، بما فيها العمليات الاستشهادية التي حققت توازن رعب مع احتلال يقتل الفلسطينيين ليلاً نهاراً، ولا يجد من يردعه أو يوقفه، فضلاً عن أن المقاومة حق مشروع كفلته كل الشرائع والمواثيق السماوية والوضعية.
في المقابل علينا ألا نغفل أهمية الدوافع الدينية التي هي عوامل داعمة وبقوة للعمليات الاستشهادية الفلسطينية، بالإشارة إلى أن أغلبية الفلسطينيين مسلمون، ويلتزمون بتعاليم الإسلام التي تحض على مقاومة المعتدين بكافة الأشكال والطرق. ويتميز الاستشهاد في الإسلام بأنه يقع في دائرة الجهاد، فالاستشهادي يضع نصب عينيه الاستشهاد في سبيل الله، فهو طالب للشهادة، وقد عزم على أن يقاتل العدو إلى أن يُقتل فيكون شهيدًا، وفي شهادته عملية إحياء كبيرة، انطلاقًا من حقيقة أن الشهيد الذي هو حي عند ربه مرزوق، فإنه باستشهاده يبعث الحياة في مجتمعه.
فالاستشهاديون الفلسطينيون أدوا واجبهم الديني استجابة لقول الله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله…» – (الحج: 39-40). وبذلك كسبوا رضى الله، وهم يعلمون أن الشهادة مقام عظيم مع النبيين والصديقين والصالحين، وأنها اختيار من الله، مدركين قوله تعالى: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون» – (آل عمران، 169).
بينت النتائج تأييد أغلبية أسر الاستشهاديين للنضال الوطني الفلسطيني وللعمليات الاستشهادية، وحق الشعب الفلسطيني في استخدام كافة أشكال النضال لدحر الاحتلال واستعادة حقوقه المسلوبة. فالعمليات الاستشهادية تبلورت في سياق النضال الوطني الفلسطيني لدحر الاحتلال، فكان هذا الكم الهائل من الاستشهاديين من كافة المناطق الفلسطينية، الذين قرروا بكل إرادة وتصميم التضحية بحياتهم لصالح المجموع حتى تحرير فلسطين. وبذلك أصبح الاستشهاد ظاهرة اجتماعية عامة تتجاوز خصوصية العمل الفردي، لتذوب في المجتمع كله بعد أن يقدّم الاستشهادي روحه في سبيل الله والوطن. فالحصار الإسرائيلي الخانق وسياسة التجويع، والاغتيالات والتوغلات العسكرية، والمشاهد اللاإنسانية التي يتعرض لها الفلسطينيون في المعابر وغيرها، كلها أسباب تساوت معها الحياة والموت، وتحول الفلسطينيون جميعاً في ظلها إلى خلية لإنتاج الاستشهاديين، ولم تعد الظاهرة حكراً على تيار أو جنس، أو تجمع سكاني دون غيره، بل ملكاً للشعب الفلسطيني بأسره، مارستها كافة شرائح الشعب الفلسطيني من إسلاميين ووطنيين ويساريين ورجال ونساء وشبان وشيوخ، فهي تعبير عن وعي شعبي فلسطيني تجذّر فيه إدراك حقيقي لكنه الصراع وطبيعته مع الوجود اليهودي في فلسطين، وهي الامتداد المنطقي للنضال الفلسطيني المستمر منذ أكثر من مائة عام.
فالشعب الفلسطيني الذي تعرض منذ العام 1948 ولا يزال يتعرض إلى أبشع أشكال الإبادة والاضطهاد والاحتلال لجأ إلى المقاومة والعمليات الاستشهادية من أجل تحرير وطنه من الاحتلال والدفاع عن نفسه وحقوقه الإنسانية وكرامته، واختار أسلوب المقاومة لممارسة حقه في العودة وتقرير المصير والسيادة والاستقلال، انطلاقاً من ميثاق الأمم المتحدة وبقية العهود والمواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. وعليه تبقى إستراتيجية المقاومة ذات عنوان ثابت هو طالما هناك احتلال هناك مقاومة، الأمر الذي يعني ببساطة استمرارها على المدى البعيد إلى جانب أشكال أخرى للمقاومة حتى دحر الاحتلال. فالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني والمتمثلة في تواصل عمليات الاغتيال والحصار والإغلاق هي التي استدرجت كافة شرائح المجتمع والقوى الفلسطينية لتنفيذ العمليات الاستشهادية.
من الوصايا
والعنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين لا يولد إلا عنفاً، ويشكل حافزاً أكبر للانتقام. وفي هذا السياق كتب الاستشهادي جمال ناصر منفذ العملية الاستشهادية على مفرق مستوطنة شافي شمرون في الضفة الغربية يوم 29/4/2001 كلمات مؤثرة تدل على فظاعة العنف الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، إذ قال: «من منا لا يغضب ولا يعتريه شعور الانتقام عند سيره في جنازات الشهداء، خاصة جنازات نابلس الجماعية، من منا لا يغضب ويحب الانتقام عند مشاهدة أمهات الشهداء وزوجاتهم وأبنائهم على التلفاز، ومن منا لا يشعر مع أصحاب البيوت التي هدمت أخيرا في خانيونس ورفح ومتاجر الخليل، ومن منا لا يغضب عند قتل الأطفال وقطع الأشجار وقصف المدن، ومن، ومن، ومن، والله إن اليهود قطعوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد».
أما الاستشهادي ماهر حبيشه منفذ عملية حيفا يوم 2/12/2001 فقال في وصية له في السياق نفسه: «وددت لو أن لي أرواحاً كثيرة لكي انتقم المرة تلو المرة وأرد على مجازر كثيرة وإهانات كثيرة للمسجد الأقصى وللحرم الإبراهيمي وللشعب الفلسطيني».
فالخبرات الصادمة التي مر بها الاستشهاديون الفلسطينيون وأسرهم بشكل خاص والشعب الفلسطيني بشكل عام جراء الممارسات الإسرائيلية الوحشية بحقهم، كانت ذات علاقة وثيقة بانخراطهم في العمليات الاستشهادية. أما الحديث عن العوامل النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها كدوافع للاستشهاد فهذا أمر غير صحيح، فربط الاستشهاد بمثل هذه العوامل يقلل من قيمة الاستشهاد ويجعله انتحاراً اجتماعياً، وهو أقرب إلى الإحباط الذي يقود الإنسان للبحث عن وسيلة تخلصه من ضغوط الحياة. فلم يهرب الاستشهاديون من مشاكلهم، ولا من أزماتهم النفسية، والزوجية، والمالية،… الخ من مشاكل إلى الموت، ولكنهم اختاروا هذا الطريق بقرار واع، حاملين آمال الشعب الفلسطيني، وقضيته العادلة نحو تحقيق الحرية وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن البديهي أن يسلكوا هذا الطريق في ظل وجود الاحتلال، فكانوا معنيين بتحرير فلسطين من الاحتلال، شأنه في ذلك، شأن أي مواطن حر في مجتمعات العالم قاطبة، من هنا كان استشهادهم الواعي، باتجاه أهدافهم السامية. فمن غير المعقول أن يطالب الشعب الفلسطيني بالتوقف عن المقاومة بينما لا يزال يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذا السياق كتب الاستشهادي هشام حمد منفذ عملية مستوطنة «نتساريم» بقطاع غزة يوم 11/11/1994 في وصيته: «إن المعركة مفروضة على الجميع فلا تقفوا في طوابير الانتظار الكسيح على أبواب غد لا تملكون منه سوى الإذعان».
وفي السياق نفسه كتب الاستشهادي محمود مرمش منفذ عملية «نتانيا» يوم 18/5/2001 في وصيته: «يمر الشعب الفلسطيني بأقسى أيامه حيث إنه يعاني يومياً من القتل والقصف والتهجير وأقصى أنواع العنف ، وفي كل يوم تزداد معاناة هذا الشعب، فلا بد أن تكون هناك طائفة تضحي بنفسها وتجاهد في سبيل الله من أجل الدفاع عن كرامة الشعب، ورفع رايته، وأنه لا حل لهذه الحملة الشرسة إلا بالجهاد والاستشهاد وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة».
المصدر: نقلا عن مجلة فلسطين المسلمة