مقالات

التاريخ الإسلامي صانع العقل العربي


عبدالحميد الأنصاري

مناهج تدريس التاريخ الإسلامي في صفوف مراحل التعليم العام، لها أكبر الأثر في صياغة عقلية الطالب وتشكيل وجدانه، وتوجيه سلوكه وتنمية وعيه بالماضي، وبالتالي تصوره للحاضر والمستقبل، كما أن لها المساهمة الكبرى في تشكيل نظرة الطالب للشعوب الأخرى ومدى تقبله الآخر وتسامحه معه، والتاريخ من جهة أخرى له دور بارز في تقوية الانتماء الوطني لدى الطالب تجاه مجتمعه ودولته ونظامه السياسي الحاكم.
ومن هنا كانت أهمية بناء مناهج تاريخية تقوم على رؤى متوازنة وموضوعية، وذلك من خلال ذكر إيجابيات أعمال وإنجازات الشخصيات التاريخية وسلبياتها، بهدف تكوين عقلية فكرية نقدية لدى الطالب وتعويده على ممارسة مهارة الفكر النقدي الحر منذ المرحلة الإعدادية المبكرة.

صياغة مناهج التاريخ الإسلامي أخطر من أن تترك للمؤرخين، بل يجب أن يشارك فيها كل المعنيين بتشكيل شخصية الطالب منذ النشأة الأولى، لكن الحاصل اليوم أن تدريس التاريخ الإسلامي عبر مراحل التعليم العام وفي معظم البلاد العربية، يتم تدريسه –غالباً- طبقاً لمنهجين سائدين:

1- التركيز على التاريخ السياسي أي تاريخ الحكام والملوك والقادة وحروبهم وغزواتهم وانتصاراتهم وبطولاتهم وأمجادهم مع تغييب وإهمال التاريخ الاجتماعي، وتهميش دور الجماهير والشعوب العربية والإسلامية في صنع التحولات والإنجازات والانتصارات، فأصبح تاريخنا تاريخ الملوك والقادة لا تاريخ الناسالذين عاشوا وواجهوا تحديات بيئية ومجتمعية وتغلبوا عليها عبر مراحل تاريخية متعددة.


2- التركيز على المؤامرات والدسائس التي قام ويقوم بها الأعداء لإحداث الفتنة وإثارة الفرقة والانقسام وتأجيج الطائفية والمذهبية بين المسلمين بهدف شق وحدتهم وإفساد ذات بينهم، وتأليبهم على بعض وتقويض دولتهم وإضعاف دينهم وتذويب شخصيتهم تمهيداً لاحتلال أوطانهم والاستيلاء على مواردهم، وإضعاف دينهم والتحكم بمقدراتهم، وهكذا يخرج الطالب الدارس للتاريخ الإسلامي بتصورين مشوهين: تصور أن هذا التاريخ الطويل ما هو إلا تاريخ الخلفاء والقادة وحروبهم المستمرة مع الأعداء الطامعين، إلى عصرنا الحديث، تصور أن تاريخنا المجيد ما هو إلا مجرد سلسلة طويلة من الدسائس والمكائد والمؤامرات التي يحيكها الأعداء لاستهداف الدول العربية بهدف تقسيمها إلى دويلات يسهل التحكم بها والاستحواذ على مواردها.


وكان من نتائج تدريس التاريخ وفق هذين المنهجين، إنتاج عقلية عربية عامة عندها القابلية الشديدة لتصديق أوهام التآمر العالمي على الإسلام والمسلمين، انظر على سبيل المثال إلى ما يحصل في الساحة المصرية كيف تنقاد جماهير مصرية عريضة وتؤمن جازمة بما يقوله المرشح السلفي الشيخ حازم أبو إسماعيل بعد أن استبعدته اللجنة من سباق الرئاسة.

يصرح هذا الشيخ علناً وعلى الملأ أن الرئيس الأميركي أوباما جمع مستشاريه ومخابراته لأمر جلل، هو وضع “خطة بديلة” للتعامل مع ملفات الشرق الأوسط تحسباً لنجاح “أبو إسماعيل”، ووصوله إلى كرسي الرئاسة المصرية، واتهم المجلس العسكري واللجنة المشرفة بأنهما خاضعان لإملاءات المخابرات الأميركية التي لا تسمح بوصول رئيس إسلامي مثله لسدة الحكم! لماذا؟! خوفاً على إسرائيل! لذلك لجأت أميركا إلى تزوير مستندات حصول والدته على الجنسية الأميركية حتى تمنع وصوله إلى الرئاسة!

القضية الموجعة، ليس فيما يعتقده ويصرح به أبو إسماعيل بهدف الضحك على الجماهير والتلاعب بعواطفهم الدينية، بل تلك الحماسة والقابلية للجماهير العريضة لكل ما يقوله أبو إسماعيل عن نظرية المؤامرة ضده! بل استعدادهم للتظاهر والاعتصام ومحاصرة اللجنة العليا للانتخابات، أي أن تلك الجماهير مستعدة لأن تدوس القانون والعدالة وتضحي بنفسها في سبيل إنجاح مرشحها المحبوب.

تلك العقلية النمطية الشائعة وهذه النفسية المسكونة بأوهام المؤامرات والدسائس ما هما إلا إفرازات أو محصلة مناهج تاريخية غير متوازنة صورت العالم والتاريخ كله مؤامرة خارجية ضد العرب، ورسحت في البنية المجتمعية القابلية الشديدة لتصديق أي داعية أو ناشط ديني أو سياسي يبحث عن النجومية والشهرة أو رئيس دولة مأزوم فشل في حل مشاكل دولته مثل الرئيس السوري الذي يرى في ثورة شعبه ضده مؤامرة خارجية!
لقد أفرزت تلك المناهج عقلية عامة من أبرز سماتها وخصائصها:


1- تقديس الشخصيات والرموز السياسية والإسلامية باعتبارها الصانعة للأحداث والحامية للأوطان والمقدسات، فلا نندهش من ولع الجماهير بتلك الرموز، الأمر الذي خلق تركيبة ثقافية هشة لمجتمعاتنا لا تحصنها في مواجهة عوامل الاستبداد والعنف والفساد والتطرف الديني، هذه المجتمعات التي تعلق آمالها بالرمز السياسي والديني إنما تغامر بمستقبلها حينما ترهنها بإرادة الفرد البطل الشعبي المحبوب صاحب الكاريزما الجماهيرية، وهذا هو المعوق الأكبر أمام نهضة مجتمعاتنا وتقدمها، وهذا الموقف لا يقتصر على الرموز التاريخية الماضية أو الحاضرة، بل له امتداد مستقبلي في الإيمان بفكرة “المهدي المنتظر” الذي سيأتي في آخر الزمان، ويملأ الأرض عدلاً، فلا عزاء للشعوب العربية المسلوبة الإرادة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً!


2- تمجيد الذات وتضخيمها مع بخس الحق التاريخي للآخرين، ففي تدريس التاريخ نحشو ذهن الطالب بأمجاد ومآثر وفضل أمته على الشعوب الأخرى مع المبالغة والتركيز والبعد عن إيضاح أخطائنا التاريخية تجاههم، ومن الطبيعي أن يشب هذا الطالب وقد امتلأ بفكرة قومية أو عنصرية ودينية متطرفة تجاه الشعوب الأخرى، وإلا ما جدوى التباهي بتوسع الإمبراطورية الإسلامية في عهد هارون الرشيد والتفاخر بمقولته “أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك”، هلا تساءلنا عن كم الدماء التي أسيلت من الشعوب الأخرى في سبيل تأمين هذا الخراج للسلطان العباسي؟!


3- إقصاء الآخر المختلف دينياً أو طائفياً أو مذهبياً أو قومياً، لأنه إما أن يريد بنا شراً أو يتآمر ضدنا ولا يأتي منه خير أبداً، وإما لأنه مشكوك في عقيدته، فهو ضال أو مبتدع أو منحرف، فلا يؤمن جابنه ولا يوثق يإيمانه وأمانته، ومن يطلع على كتب الملل والنحل التاريخية يخرج بفكرة شديدة الانغلاق، هي أن العقيدة الصحيحة واحدة، أصحابها من أهل الجنة، أما بقية الفرق الإسلامية فهم ضالون ومصيرهم النار، الإيمان بهذه الفكرة يكوّن عقلية متعصبة يسهل انزلاقها إلى التطرف والعنف.


4- قبول ممارسة التمييز ضد المرأة مجتمعياً والعمل على تهميش دورها في الشأن العام وعدم الثقة بها في المناصب القيادية، فالمرأة في تاريخ المجتمعات العربية كائن ناقص مسلوب الإرادة، خلق لخدمة الرجل وإمتاعه وتربية أولاده فقط.


5- لوم الآخر وتحميله مسؤولية تردي أوضاعنا قديماً وحديثاً، وتفسير كل السلبيات التاريخية بتحميلها للأعداء المتربصين، مثل تحميل عبدالله بن سبأ اليهودي مسؤولية الفتنة الكبرى اعتماداً على رواية المؤرخ سيف بن عمر التميمي الذي قال إن ابن سبأ تمكن خلال سنتين من تأليب الأمصار على عثمان فانقاد له بعض كبار الصحابة، وتمكن من إفساد الصلح بين علي وعائشة في معركة الجمل، علماً أن سيف هذا بإجماع علماء الحديث (وضاع) و(كذاب).
العقل العربي هو محصلة هذا التاريخ أو بالأخص حصيلة ونتاج المنهج المتبع في تدريس التاريخ إيجاباً وسلباً، وعقليات الأمم المختلفة إنما تتشكل انفتاحاً أو انغلاقاً بنمط المنهج التاريخي المتبع في كل أمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى