رحمة النبي بغير المسلمين
إذا كنا نتعجب من سعة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فإننا –ولا شك– سننبهر برحمته بغير المسلمين!
إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين أمر متوقع ومفهوم, فهم أتباعه وناصروه ومحبوه, وهم الذين يعتقدون عقيدته, ويدينون بدينه, وهم الذين يقدموه على أبنائهم وأزواجهم وأموالهم, بل وعلى أنفسهم, وإن أخطأ المسلمون أحيانًا فهو صلى الله عليه وسلم لهم كالأب لأولاده, وكالمعلِّم لتلامذته, بل أعظم من ذلك, فهو صلى الله عليه وسلم كان يقول: “أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ”[1], فهو ليس فقط أقرب إليهم من والديهم ومعلميهم, ولكن أقرب إليهم من أنفسهم!
لهذا كله فرحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين أمر مفهوم..
لكن أن تشمل رحمة النبي صلى الله عليه وسلم غير المسلمين فهذا شيء مبهر حقًّا!!
إنه لشيء رائع حقًّا أن يرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين رفضوا عقيدته واعتنقوا غيرها, وأولئك الذين لم يعترفوا بنبوته أصلاً! بل إنه لشيء شديد الإبهار أن نراه يرحم ويَبَرُّ ويعطف ويحنو على أولئك الذين عذبوه وعذبوا أصحابه, وعلى أولئك الذين مارسوا معه ومع المسلمين أشد أنواع القسوة والعنف!!
صور من رحمة النبي بغير المسلمين
رحمة النبي مع المشركين
لقد كانت العلاقة بينه وبين المخالفين له في الدين -والذين يعيشون معه في مجتمع واحد- أعلى بكثير من مجرد علاقة سلام ووئام, لقد كانت علاقة “بِرٍّ ورحمة” بكل معاني الكلمة..
ونحن لا نخالف الحقيقة إذا قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعامل غير المسلمين المحيطين به معاملة الرجل لأهله..
فها هو أنس بن مالك رضي الله عنه يروي موقفًا عجيبًا من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ؛ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ؛ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: “أَسْلِمْ”؛ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ؛ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ؛ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ”[2].
وتدبر جيدًا بعقلك وقلبك!
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل غلامًا يهوديًّا في الخدمة, ولا يمتنع عن ذلك ليجعل الحياة مع أصحاب الديانات الأخرى في داخل المدينة المنورة حياة طبيعية, ثم يمرض هذا الغلام فيذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده في بيته!!
إننا يجب أن ندرك -لنعرف قيمة الموقف- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلى سلطة في المدينة المنورة, والغلام اليهودي لا يعدو أن يكون خادمًا, وعلى غير مِلَّة الإسلام!
أيحدث في بقعة من بقاع الأرض أن يزور رئيس البلاد خادمًا له إذا مرض, وخاصة إذا كان على غير دينه؟!
إننا قد اعتدنا أن نقرأ مثل هذه المواقف عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم فلم نعُدْ نحلل وندرس, ولكن الوقوف للتدبر في مثل هذه الكنوز يعطينا فيضًا هائلاً من الخير والحكمة.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينسى وظيفته الأولى في الدنيا وهي البلاغ؛ فيدعوه للإسلام, فيسلم الغلام, فيخرج النبي فرحًا بإسلامه, كأنما أسلم أحدُ أَحَبِّ أهله إليه..
إن هذه هي الرحمة -حقيقةً- في أعلى صورها..
وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تحكي فتقول: “قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي[3]وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا فَاسْتَفْتَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رسول الله, إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: “نَعَمْ صِلِيهَا”[4]
ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن تصل أمها المشركة, ومع أن دولة قريش في ذلك الوقت كانت دولة محاربة, ولكنها في عهد مؤقَّت, فلم يمنع المرأة المشركة من دخول المدينة, ولا دخول بيت أسماء رضي الله عنها, وهو بيت الزبير بن العوام[5], وهو من كبار رجال الدولة, وقد يكون لديه من الأسرار ما لا يجب أن يطَّلع عليه المشركون, ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَحْرِمُ أمًّا مشركة من زيارة ابنتها المسلمة, ولا يحرم بنتًا مسلمة من بِرِّ أمها المشركة..
هكذا بمنتهى التسامح والرحمة, وبأعلى درجات الرضا.. إنه لم يفكر ولم يتردد.. فليس في الرحمة تردد!!
وفي موقف آخر لطيف يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, ويذكر فيه أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ[6] عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رسول الله لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؛ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ“, ثُمَّ جَاءَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً؛ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رسول الله كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ, قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا”؛ فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا[7]!!
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يُهْدِي هذه الحُلَّة لأحد إخوانه المشركين[8], ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعترض, وإقراره -كما هو معلوم- سُنَّة.
يقوم الإمام النووي رحمه الله معلقًا على هذا الموقف: “وفي هذا دليلٌ لجواز صلة الأقارب الكفار والإحسان إليهم, وجواز الهدية إلى الكفار”[9].
وهذه رحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمر رضي الله عنه, وكذلك رحمة بأقاربه المشركين!
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين أنه كان يسلك معهم دائمًا مسلك التبشير, ويتخذ ذلك منهجًا عامًّا له, فكان هذا هو الغالب على حياته صلى الله عليه وسلم وعلى أقواله وأفعاله, ولم يكن يخرج عن هذا الطبع على الرغم من قسوة المشركين عليه…
روى ربيعة بن عباد الديلي -وكان مشركًا فأسلم- قال: “رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُفْلِحُوا”, وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ[10], عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا, وَهُوَ لا يَسْكُتُ يَقُولُ: “أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُفْلِحُوا” إِلا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ؛ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ؛ قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ”[11].
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن أدبه في المعاملة حتى مع السفاهة الواضحة لأبي لهب, وظل على منهج التبشير يدعو الناس إلى الفلاح والنجاة.
بل إنه كان يبشرهم بمُلْكِ الدنيا قبل نعيم الآخرة إن هم آمنوا بالله ولم يشركوا به شيئًا..
عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما قال: “مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ؛ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: “إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ“؛ قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَة؟!ً قَالَ: “كَلِمَةً وَاحِدَةً” قَالَ: “يَا عَمِّ قُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؛“, فَقَالُوا: إِلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ؛ قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1, 2] إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص: 7]”[12].
فهو لا يعبس في وجوههم, ولا يقاطع مجالسهم, ولا ينظر لهم نظرة المتكبر المعرض, إنما يتلطف إليهم ويتودد, ويبشرهم بمُلك الدنيا ونعيم الآخرة.
إننا أمام هذه المواقف لا نملك إلا أن نهتف بقول ربنا سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
[1] البخاري: كتاب الكفالة, باب الدَّيْن (2176), ومسلم في الفرائض, باب مَن ترك مالاً فلورثته (1619), والترمذي (1070), والنسائي (1963), وأبو داود (2954), وابن ماجة (2415), وأحمد (9847), وابن حبان (4854).
[2] البخاري: كتاب الجنائز, باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلَّى عليه؟ وهل يُعرَض على الصبي الإسلام؟ (1290), ورواه الترمذي (2247), والحاكم (1342), والنسائي في سننه الكبرى (7500).
[3] هي قُتيلة بنت سعد من بني عامر بن لؤي, امرأة أبي بكر الصديق, وهي أم عبد الله وأسماء. ذكرها ابن الأثير في الصحابيات, وقال: تأخر إسلامها. قدمت إلى المدينة وهي مشركة بعد صلح الحديبية. انظر: أسد الغابة 6/ 242.
[4] البخاري: كتاب الهبة وفضلها, باب الهدية للمشركين (2477, 5634, 3012), ومسلم في الزكاة, باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (1003), وأبو داود (1668), وأحمد (26960).
[5] هو الزبير بن العوام, يُكنَّى أبا عبد الله, أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم, لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان أول من سلَّ سيفًا في الإسلام, وقد استشهد يوم الجمل. انظر الاستيعاب 1/ 151, أسد الغابة1/ 377, الإصابة الترجمة (2791).
[6] حُلَّة سيراء: من الحرير الخالص, وهي مُحَرَّمة على الرجال.
[7] البخاري: كتاب الجمعة, باب يلبس أحسن ما يجد (846), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2068), وأبو داود (1076), والنسائي (5295), وابن ماجة (3591) وأحمد (4713) ومالك برواية يحيى الليثي (1637) وبرواية محمد بن الحسن الشيباني (869).
[8] عثمان بن عبد حكيم, وهو أخو عمر من أمه, ومُختلَف في إسلامه بعد ذلك, انظر: فتح الباري 1/ 331.
[9] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 14/ 39.
[10] متقصفون: مزدحمون.
[11]مسند أحمد (491, 492, 493) و (341) وسنده حسن. وقال الساعاتي في الفتح الرباني (20/216): سنده جيد. ومستدرك الحاكم (1/15), ومعجم الطبراني الكبير (5/55), والبيهقي (17505), وله شاهد من حديث طارق به عبد الله المحاربي, أخرجه أبو بكر بن شيبة, انظر المطالب العالية (4277).
[12] سنن الترمذي (3232), وقال: حديث حسن. ومسند أحمد (2008), والحاكم في المستدرك ( 3617).