اعترافات خطيرة لمُلحد سابق لماذا أسلم بروفسور الرياضيات الملحد ؟ – الجزء الخامس –
في هذا المقال الخامس ستجد إجابة عن هذه الأسئلة :
– ماذا قال ” جيفري ” في دعاء أول صلاة بعد إسلامه ؟
– ما المغري في الإلحاد ؟
– هل للملحد الأخلاقيات ؟
– ما أكثر شيء يرعب الملحد ؟
من الأمور اللافتة للانتباه قلة ” الوثائق” في المراجع العربية التي يتحدث فيها ملاحدة سابقون بالتفصيل عن
” خارطة نفسياتهم وتفكيرهم “ أبان إلحادهم، وفي نظري أن من أهم تلك الوثائق حديث د. ” جيفري لانغ “ عن أسراره النفسية في مرحلة إلحاده التي سبقت دخوله إلى الإسلام، والخطير في الأمر لأي دارس لظاهرة الإلحاد أنه سيجد تلك الوثيقة ” اللانغية “ إن صح التعبير تحمل في طياتها معلومات في غاية الأهمية صادرة عن تجربة حقيقية بل ومن غربي تربى على ثقافة حرية التعبير والتفكير ولا يعاني من ضغط اجتماعي يحول بينه وبين التصريح بماضيه الإلحادي ، ثم هو بعد ذلك كله آمن بالإسلام وعاش في نور الهداية أكثر من ثلاثة عقود مما يتيح له أن يشخص ” نفسية الملحد وتفكيره “ تشخيصاً أقرب إلى الموضوعية والعلمية من غيره ، ومثل هذه الوثيقة المفصلة من الندرة بمكان في المكتبة العربية المعاصرة، لذا أحببت أن أعرضها على القراء الكرام لتحقيق الفائدة خاصة للمتابعين لظاهرة الإلحاد الجديد التي أثارت المشهد المحلي في الآونة الأخيرة .
لماذا ألحد ؟
تحدثنا في المقالة الأولى ” وجدت القرآن كأنه يقرؤني ” عن بداية إلحاده ، عندما ذكر قصة عنف والده تجاه والدته التي أحبها “جيفري” حباً شديداً ، وما صاحب طفولته من خوف كبير كان ينمو دائماً من بطش أبيه وشراسته ، وفي آخر سنة في المدرسة الثانوية بدأت نقاشاته مع ” الكاهن “ الذي يدرس لهم مادة التربية الدينية وكانت تلك المناقشات حول وجود الله حيث كان “جيفري” يعترض على الأدلة ويشكك في قوتها ، وقد أخبره المعلم بأن عليه أن يغادر الصف وألا يعود حتى يغير وجهة نظره ، وإلا فإنه سوف يرسب في المقرر.
وقد أبلغ والده بذلك فقال له : ” كيف لا يمكنك أن تؤمن بالله ؟ سوف يُذلك الله يا جيفري ! ولسوف يُخزيك لدرجة تتمنى فيها أنك لم تخلق أبداُ ” .
رد جيفري : ولكن لماذا ؟ هل لمجرد أني لم أستطع الإجابة عن أسئلتي ؟
ثم يقول : ” وهكذا أصبحت ملحداً في نظر العائلة والأصدقاء .. مع أني لم أتخل عن إيماني بالله .. ما قلته هو أني وجدت البراهين التي قدمت في درس التربية الدينية غير ملائمة .. ومهما يكن فإني لم أرفض هذا اللقب الجديد ، لأن المشاحنة تركت أثراً كبيراً فيّ” [الصراع من أجل الإيمان ص: 23-24 ]
من المهم أن نقف هنا مع حالة ” التهديد ” الفاشلة التي يُواجه بها ” مراهق متمرد ” وكيف أنها قد تقوده إلى الإصرار على موقفه ، فمن يظن أن التهديد بالإكراه وممارسة التخويف للعقل المتسائل ستجعله يكف عن أسئلته وأفكاره فهو واهم ،
” المراهق المتمرد ” بطبعه يُحب إثبات ذاته المختلفة ويهوى بشدة أن يتميز عن السائد المحيط به ، لذلك من المهم جداً أن نتعامل مع ذلك بهدوء شديد ، وأن نمنحه فرصة التعلم وأن نفتح له باب النقاش ، فحتى اعتراضاته يمكن لنا بسهولة أن نسجل عليها اعتراضات عقليه أيضاً تتشكك فيها ، إن أسلوب الطرد والتهديد لهو أفضل هدية نقدمها للباطل وبهذا نكون بالفعل أعواناً للشيطان على ذلك الفتى ، وسيجد نفسه بعد مدة قصيرة ، وقد ارتمى في أحضان الضد عناداً وإصراراً على موقفه بل والتمادي فيه ، كما قال : ” لأن المشاحنة تركت أثراً كبيراً فيّ ” !! فلتكن الحكمة هي موجهنا في التعامل مع هذه الحالات ، ولا نسمح للرغبة في القهر والاستعلاء أن تُملي علينا أفعالنا ، لندع الرحمة العاقلة تُفكر لنا فهؤلاء أولادنا .
ما المُغري في الإلحاد ؟
يسجل ” لانغ ” تحليلاً نفسياً خطيراً للمنح التي يجنيها الملحد من الإلحاد ، فيقول : ” لقد كنتُ من جيل تربى على عدم الثقة فهناك خوف دائم من أن أحداً ما سوف يؤذيك ، وخوف من شيء ما لم نكن نعلمه ، إن فكرة أن الله خلق الدنيا على هذه الحالة ، وفوق ذلك سوف يعاقبنا في النهاية جميعاً ما عدا نفراً قليلاً منا ، كانت أكثر رعباً وسيطرة على عقولنا من فكرة ألا نؤمن بالله على الإطلاق .
وهكذا فقد أصبحتُ ملحداً في سن الثامنة عشرة من عمري .. في البدء شعرت بالحرية ؛ لأن رؤيتي الجديدة حررتني من الفوبيا (الرهاب، الهلع ) .. لقد كنتُ حراً لأعيش حياتي الخاصة بي وحدي ، ولم يكن لدي ما يدعو للقلق من أجل إرضاء قوة فوق بشرية ، وكنتُ فخوراً إلى حد ما بأنني كنتُ أمتلك الجرأة لتحمل مسؤولية وجودي وأملك زمام نفسي ، شعرت بالأمان فيما يختص بمشاعري وبمداركي ، وكانت رغباتي طوع إرادتي بعيدة عن سيطرة أو مشاركة الكائن الأسمى أو أي شخص آخر ، لقد كنتُ مركز عالمي الخاص بي وخالقه ومغذيه ومنظمه ، وأنا الذي كنت أقرر لنفسي ما كان خيراً أو شراً أو صواباً أو خطأ ، لقد أصبحت إله نفسي ومنقذها “ [الصراع من أجل الإيمان ص: 24-25 ]
هذا النص خطير ومذهل ، يؤكد على أن المتملحد المراهق يجذبه الإلحاد في بداياته ؛ لأنه يحرره من الخوف ، ويُطلق له رغباته بلا أي قانون حاكم ، لقد كان ” لانغ ” صريحاً لدرجة الألم مع النفس حين قال : ” لقد أصبحت إله نفسي “ ، ولنعد لوصف القرآن الدقيق لهذه الحالة ، قال تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ) الجاثية : 23
ما أدق الوصف ! لقد جعل الملحد هواه ورغباته وشهواته وميوله وتحيزاته هي المطاعة ، ولذا فقد ألّه نفسه ، لقد عبر “لانغ” عن مرحلة إلحاده السابق بدقة شديدة حين قال : ” كنت أقرر لنفسي ما كان خيراً أو شراً ، صواباً أو خطأ ، لقد أصبحت إله نفسي ومنقذها “ .
هل للمُلحد أخلاقيات ؟
شدد ” لانغ ” على أنه حتى بعد أن قرر أن يكون إله نفسه إلا أنه لم يطلق العنان لها كما لم يفكر أن يستسلم إلى الجشع تماماً ، “بل زاد اهتمامه بالمشاركة والرعاية والاهتمام ؛ لأنه كان يشعر بحب إنساني جوهري حقيقي ، ولأن الحب هو شيء حقيقي كأي شيء آخر وهو الذي يجعلنا سعداء ؛ لأنك عندما تمنح الحب فإنك في المقابل تتلقى الخير في الحال “
وفي هذا النص ما يجعلنا نؤكد على أهمية مشاعر الحب ودورها في التأثير على تحولات الملحد الإيجابية فيما بعد ، كما أننا يجب ألا نعمم بأن كل الملاحدة غير أخلاقيين بالمطلق ، فهذا التعميم غير صحيح ، إلا أن التزام الملحد بالأخلاقيات هو محل النظر ؛ لأن أخلاقياته لا يوجد مصدر إلزام لها إلا القانون الخارجي ، أما المصدر الداخلي أو الضمير والرقابة الذاتية ، فليس سهلاً عليه أن يبرهن على وجود ذلك المصدر لإلزام البشر كافة بتلك الأخلاقيات كما سيأتي تأكيد ” لانغ” على ذلك بعد أسطر قليلة ، وهذه القضية هي إحدى المعضلات المستمرة إلى اليوم التي لم يستطع الإلحاد أن يجد لها جواباً مقنعاً ، بل قد لا يمانع بعضهم من القبول بالدين مع كونه في نظره من الخرافات لا لشيء إلا لعدم قدرته على إيجاد حل لهذه المشكلة .
ما المُرعب في الإلحاد ؟
اكتشف “لانغ” بعد مرور سنوات على تجربته الإلحادية أن الإلحاد قد قذف به إلى أحضان رعب جديد ، يقول :
” سرعان ما تعلمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد ، فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة ، ولكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة ؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع ، ويذكر نفسه بسخفها ؛ لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص به ، ولكنه عالم صغير جداً ؛ فعالمه قد حددته إدراكاته ، وهذه الحدود تكون دوماً في تناقص مستمر..
إن المؤمن يمتلك إيماناً بأشياء تفوق إحساسه وإدراكه ، في حين أن الملحد لا يستطيع حتى الثقة بتلك الأشياء ، وعنده ليس هناك من شيء حقيقي تقريباً ولا حتى الحقيقة ذاتها. إن مفاهيم الملحد عن المحبة والرحمة والعدالة هي في تحول وتبدل حسب ميوله ونزواته ، مع الشعور بنفسه وبمن حوله أنهم جميعاً ضحايا لمسألة عدم الاستقرار ، وتراه منهمكاً في نفسه يحاول الحفاظ على وحدتها واتزانها ، وبالتالي يسعى لجعلها ذات معنى .. فالملحد يحتاج للبساطة والعزلة والانفراد .
ولكنه يحتاج أيضاً إلى أن يمد نفسه فيما وراء نفسه ؛ لأننا جميعاً نصبو للخلود ، وبمقدور المؤمن أن يتخيل السبيل لتحقيق ذلك ، أما الملحد فإن عليه أن يفكر بالحل الآن ، وذلك ربما عن طريق الزواج وإنشاء أسرة ، أو تأليف كتاب ، أو إنجاز اختراع ما .. بحيث يعيش في أذهان الآخرين .
إن هدف الملحد الأسمى ليس الذهاب للجنة بل أن يذكره الناس ، ومع ذلك علي أن أسأل : ما الفرق بين هذا وذاك في النهاية ؟!
لا شيء يشبع حاجات الملحد ؛ لأن عقيدته تخبره أنه ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق .. وبعد فشل تجربة زواجي الأول حزنت كثيراً ؛ ليس لأني فقدتُ حب حياتي ، أو أحداً ما لا أستطيع العيش من دونه ، إنما كنتُ أخشى أن أواجه نفسي وحيداً ثانية ، ولكن عندما فكرتُ بذلك ملياً أدركت أني كنتُ دوماً وحيداً سواء أكنت متزوجاً أم عزباً ..
وأدركت بجدية قاسية أن عالمي أصبح سجناً أو مكاناً لأختبئ فيه ، ولكنني لم أكن لأعلم مم كنت أحاول الهرب ، حقاً إنه ليس من السهل أبداً أن تصبح إلهاً “ [ الصراع من أجل الإيمان ص: 25-27 ]
هل لاحظتم كيف أن “لانغ” بصدقه المذهل في حكاية تجربة إلحاده يخبرنا بأنه فر من الخوف الديني فوقع فيما هو أشد وهو الرعب الإلحادي ووحدته القاتلة مع عدم ثقته بأي شيء ، وكيف أوقعته تلك المشاعر في سجن معزول أدخل نفسه فيه ، وفي كتابه الآخر [ضياع ديني : ص 166 ] يقول : ” كان الفراغ الذي أعيشه هو أكثر ما يزعجني ، ما الذي دفعني إلى مشاعر العزلة التي تنتابني باستمرار ، بالرغم أن حياتي الاجتماعية كانت كاملة ومليئة ؟ “
ويعيد “لانغ” مرة أخرى وصفه الملخص لحال الملحد ونفسيته وطريقة تفكيره : ” ليس من السهل أبداً أن تصبح إلهاً ” وهذا هو الاعتراف الخطير : الملحد يريد بإلحاده أن يُؤلّه نفسه ويتحرر من طاعة الإله الحق ، كما قال تعالى : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ) الفرقان :43
كيف ينظر المُلحد لمعنى الحياة ؟
يستمر “لانغ” في اعترافاته المهمة ، ويحدثنا عن محاولته البحث عن حلول ليفك حصار الوحدة القاتلة التي يشعر بها بعد أن قرر أن يصبح ملحداً ، يقول بعد انفصال زوجته الأولى عنه :
” في تلك المرحلة شعرت بحاجة ماسة لأن أثور ، أردت أن أكون كل شيء لكل الناس ، ونظرة الناس إلى كانت تعني لي الشيء الكثير، على الرغم من أني كنت أصر أنها لا تعني شيئاً … أمضيت خمس سنوات من العمل الدؤوب في أطروحتي للدكتوراه ، وحصلت عليها ، ولكن بينما كنت عائداً إلى شقتي بعد مناقشة أطروحتي ومنحي الدرجة العلمية التي حلمت بها ، بدأت فرحتي تتلاشى ، وكنت كلما حاولت استرجاعها غمرني مزيد من الشعور بالسوداوية وخيبة الأمل والمرارة .. اعتقدتُ أن الحياة قد تكون عبارة عن سلسلة من الإعلانات التلفزيونية ، وربما يكون هذا هو السبب الذي يجعلنا توّاقين للأشياء التافهة جداً ، إننا نخدع أنفسنا عندما نعتقد أن غاياتنا في الحياة تحتوي على بعض القيم ، وفي الحقيقة ما نحن سوى نوع آخر من الحيوانات تحاول أن تعيش . وبدأت أفكر بكل شيء ثانية
هل هذا هو كل ما في الحياة ، نجاح مصطنع يليه آخر وهكذا ؟
إننا جميعاً لدينا الرغبة لكي نعلل وجودنا ، وإذا لم يكن هناك من شخص آخر يقدر حياتي إذن ما قيمة الحياة ؟
إذا لم يكن لهذه الحياة أي قيمة فلم الحياة إذن ؟ الصراع من أجل الإيمان ص 27- 28 باختصار وتصرف .
يُطلعنا ” لانغ “ هنا على أن الملحد ينتهي في نظرته للحياة إلى العدمية ، فكل شيء مآله إلى الفناء ، كل شيء في الدنيا زائل ولا أهمية له ولا فائدة منه ولا معنى له، الكل مصيره إلى الأفول ، والكل سينتهي ويتلاشى ، لا إله يوجد وبالتالي لا أمل يرتجى ، ولا عدل ينتظر، ولا استمرار للفرح ولا خلود للشباب ولا بقاء لإنجاز أو ديمومة لجمال .. كما قال ” لانغ ” الملحد يعيش مخادعاً نفسه ، يكذب عليها يقول : لا يهمني الناس ولكنه يهتم لأبعد حد بنظرتهم إليه .
إن معضلة الملحد في استناده بإفراط على منهجية ” الإنكار “ التي يغرق فيها فتطبع كل سلوكيات حياته ، فيمسي مُنكراً مكذباً معانداً لكل ما لا يتفق مع رغباته وميوله ، ويصبح هذا ديدنه يُنكر وينكر حتى يقع في أخطر فخ وهو أنه ينكر الحقائق ويزيفها بينه ونفسه ، ولعل في هذا ما يوضح معنى أن يُنسي الخالق سبحانه الإنسان نفسه ، كما قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) الحشر:19 فهذه الآية تنطبق على الملحد تماماً ، وما أشد هذه الحال أن يُنسيك الله نفسك فتغفل عن مصلحتها وتذهل عن حقيقتها ، فترى الباطل حقاً ، وترى الحق باطلاً ، فلا تستطيع أن تعرف ما ينفعك وتنسى المهم والجوهري ، وهذه عاقبة الإنكار والتكذيب للحقيقة الأولى والكبرى الخالق سبحانه ، فمن أنكره فهو لغيره من الحقائق أنكر ، ومن كذب بألوهيته فهو إلى تكذيب حقيقة نفسه أسرع وأجدر .
هل يتحدى المُلحد خالقه ؟
في ضوء ما سبق ، من المتوقع أن نفسية الملحد ستكون دائماً متوترة مأزومة ، ويصر باستمرار على أنه هو الأفضل عقلاً وعلماً ويُغذي هذا الشعور داخل نفسه باستمرار لحد التكبر ، وإن كان في حقيقة نفسه يعلم أنه ليس كذلك ، يقول : “لانغ “ مشخصاً معضلة تحدي الملحد لخالقه وهي أظهر صور النفسية المتوترة المحتقنة : ” إن حياة الملحد هي بحث سقيم عن السعادة سعياً وراء أوهام فارغة ، وما كان كل إحباط إلا ليزيده عطشاً ما دام يتعلق بالجهل ، ويغرق في كل ما هو آني وزائل ، فهو يسوّغ حالته ويجادل فيها عن مبدأ وعقيدة يتحدى من خلالها ربه الذي خلقه ، ويحلف لك إنه يمتلك أنبل الأهداف ، ومع ذلك فهو يستمر بإيذاء نفسه وإيذاء من حوله، لقد عميت بصيرته ، ولفه الويل والثبور” [ الصراع من أجل الإيمان ص: 114]
وهذا التحليل في ظني يصدقه الواقع ، وهو ما ألحظه في بعض صفحات الملاحدة في ” تويتر” ، إذ أجد نبرة ” التحدي “ الشخصي عالية بل وغارقة جداً في الذاتية الضيقة للملحد ، حتى أن المرء ليتساءل : كيف يكون أحدهم – كما يزعم – يبحث عن الحقيقة وهو محتقن بالكراهية ضد الخالق سبحانه وأنبيائه وكتابه الكريم ؟
إن الملحد المكابر وصل إلى قناعة بأنه لا رجعة ، فقد أساء الظنون بربه ، وتلفظ بأحط العبارات في حقه ، واستهزأ بكل المقدسات وأغلق بنفسه نوافذ الهداية والخير عن عقله وفكره ، كما قال سبحانه : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصف: 5 ، وبعد حوارات نفسية مجهدة يستسلم الملحد لشعور يائس بأنه قد ابتعد عن ساحل الأمان كثيراً ، ولم يعد هناك من فرصة للعودة ، وقد يملأ بعضهم هذا الفراغ بمعارك التحدي المستمرة ، ولا يتورع حتى عن قول : أتحداك أن تهلكني الآن ؟! كأنه يكلم طفلاً سريع الانفعال .
وأي عقلية هذه التي تتجاهل سنن الله الكونية التي أمضاها بحكمته في الوجود ، وتتغافل عن محورية مبدأ الابتلاء والامتحان الذي يحكم مسارات الحياة وأحداثها ، وتطلب من الخالق أن يُثبت وجوده بإماتته في الحال ؟!
لو استجاب الله لكل مغفل أرعن يطلب إثبات وجوده بهلاكه فوراً ؛ لما بقي لمبدأ الابتلاء أهمية ، ولزالت الحكمة من تلك السنن الكونية التي قضى الله بأن يخضع الكون لها .
ومنهم من يلطف التحدي فيقول : يا رب إن كنتَ موجوداً فخذ بيدي إليك ؟!
ويا للعجب أتشك في الله وتستجديه ؟!
أي سوء أدب مع الله هذا !
الخالق سبحانه لا يتعاظمه شيء فما الذي يحول بينك وبين أن تعزم في مسألتك ودعائك ؟!
ألا ما أبشع التكبر والتحدي !
هل يليق بضعفك وحاجتك وفقرك وهوانك أن تخاطب ربك معلقاً الأمر على وجوده إن كان موجوداً ؟!
كيف ترجو الاستجابة وأنت تخاطبه شاكاً في وجوده وقدرته ؟!
هلا قلت : اللهم أنت الهادي فاهدني يا ذا الجلال والإكرام !
جحيم الإلحاد !
إذا أردت أن تعرف معنى ” جحيم الإلحاد “ فاقرأ بتمعن هذا الكلام :
في أول صلاة صلاها ” جيفري لانغ ” بعد دخوله الإسلام كان أول دعاء يدعو الله به هو هذا : ( يا رب، إذا ما جنحتُ مرة ثانية نحو الكفر بك في حياتي ، اللهم أهلكني قبل ذلك وخلصني من هذه الحياة ، إنني يا رب أجد الحياة صعبة بنقائصي وعيوبي ، ولكنني برغم ذلك لا أطيق العيش ولو ليوم واحد وأنا منكر لوجودك ) [ حتى الملائكة تسأل – ص 234 ]
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله سنكمل رحلتنا مع البروفسور ” جيفري لانغ “ لنطالع أهم المحطات المتبقية في سيرته الذاتية