الإسلام يأمرنا بالعدل
الدكتور: زغلول النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في آواخر الثلث الأول من سورة “النساء” وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وست وسبعون (176) بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالنساء, ولذلك عرفت بوصف “سورة النساء الكبرى”, تمييزا لها عن سورة “الطلاق” التي عرفت بوصف “سورة النساء الصغرى”. ويدور المحور الرئيس للسورة حول قضايا التشريع لكل من المرأة, والأسرة, والمجتمع, مع عدد من الضوابط التربوية والأخلاقية والسلوكية التي تضبط المجتمع المسلم وتقيمه على قواعد من هذا الدين العظيم.
هذا , وقد سبق لنا استعراض سورة “النساء” وما جاء فيها من ركائز التشريع والعقائد الإسلامية, والإشارات الكونية, ونركز هنا على جانب الإعجاز التشريعي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه :
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً *) (النساء:58). و(الحكم) وجمعه (أحكام) هو القضاء والفصل ؛ يقال (حكم) (حكما) و(حكومة) ؛ في البلاد أي : تولى إدارة شئونها فهو (حاكم) وجمعه (حكام) ؛ و(الحكم) وجمعه (أحكام) هو تولي إدارة شئون البلاد , و(الحكومة) تشمل أرباب السياسة والحكم, وهم الهيئة الحاكمة المؤلفة ممن يتولون إدارة شئون البلاد على مختلف المستويات.
أولا : الأمر بالعدل بين الناس جميعا ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ):
ومن معاني قوله – تعالى- (… وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ…*) أي ويأمركم ربكم إذا قضيتم بين الناس في حقوقهم أن تقضوا بينهم بالعدل والإنصاف , بغض النظر عن أية اعتبارات باطلة شاعت بين الناس.
وأصل العدل : التسوية, ومعنى أن تعدلوا بين الناس في أحكامكم : أن تسووا بين الناس في الحقوق والواجبات, دون أدنى تمييز لعرق أو لون أو مستوى اجتماعي. وإطلاق لفظ (الناس) هنا يشمل كل الناس دون أي تفريق بين غني وفقير, أو أمير وغفير, أو أبيض وأسود أو غير ذلك من الفروق الاجتماعية أو الخلقية بين جميع الناس. فالعدل في الحياة الدنيا حق لكل إنسان بوصفه إنسانا , لأن البشر جميعا ينتهي نسبهم إلى أب واحد , وأم واحدة , هما آدم وحواء- عليهما السلام- ولذلك قال- تعالى-:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *) (المائدة:8).
وفي الحديث القدسي يقول الحق – تبارك وتعالى- : “ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا, يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه“.
ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- :” الناس سواسية كأسنان المشط , ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم..
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب
رضي الله عنهما قال : سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ” كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته”.
“عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة “(أخرجه البخاري).
وقال رسول الله- صلى عليه وسلم-: “من وليَّ أمر عشرة من المسلمين ولم يعدل بينهم يأتي يوم القيامة مكبلا ويداه مقيدتان إلى عنقه إما أن يفكهما عدله وإما أن يبقى مقيدا “.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل …” .
وعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين”, وفي رواية ” ….خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين” .
ثانيا: (…إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً *):
إن الأمة المسلمة مطالبة بتحقيق العدل بين الناس متى حكمت في أمرهم. وهذا العدل الإسلامي لم تعرفه البشرية أبدا في تاريخها الطويل إلا في ظل التحكيم الدقيق لشرع الله بأيدي عباده المؤمنين, كما حدث في عهد الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- وفي عهود خلفائه الراشدين.
فالعدل كان- ولا يزال- أساس الحكم في الإسلام, وأداء الأمانات إلى أهلها- بمختلف أشكالها وصورها- هو من أسس الحياة في المجتمع الإسلامي , ومن أهم ضوابطها , لذلك ختمت الآية الكريمة بقول الحق- تبارك وتعالى-: (… إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً *) وأصل التعبير هو: أنه خير ما يعظكم به الله- تعالى- , وهو تأدية الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل. وإطلاق تعبيرالناس دون أدنى تقييد أو تمييز يشمل الناس جميعا: غنيهم وفقيرهم, أميرهم وغفيرهم. ومن معاني ذلك تعظيم الله- تعالى- الذي يعظكم بهذا السلوك النبيل. والأمر الإلهي وصف في نهاية الآية الكريمة بأنه عظة, حتى يكون أقرب إلى القلب, وأبلغ في الوصول إلى العقل, وأدعى إلى تحقيقه بقناعة ورغبة طلبا لمرضاة الله. وفي قوله- تعالى-: (… إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً *) فيه تحذير واضح من مخالفة أمر الله في حتمية أداء الأمانات إلى أهلها, والحكم بين الناس بالعدل, لأن الله- تعالى- سميع لجميع أقوال عباده , بصير بكل من أعمالهم وأحكامهم ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ). ومن هنا كان لا بد من الرجوع إلى شرع الله في الحكم على كل أمر من هذه الأمور حتى يتم تأدية الأمانات إلى أهلها دون أدنى تقصير, ويتم الحكم بين الناس بالعدل دون أدنى قدر من الجور أو الظلم.
وهنا يتضح وجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, والله يقول الحق, ويهدي إلى سواء السبيل , فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام – صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.