الحكمة من الصيام_1
ـ الصوم سرّ بين العبد و ربه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نظرًا لِقُرْب حلول شهر رمضان ، فمِنَ المناسب أن نتحدّث عن الصّيام في هذا الدرس ، والدرس الذي يليه إن شاء الله تعالى ، لعلّنا نستعدّ له الاستعداد الكافي ، أو لعلّنا نؤدّي هذه العبادة كما أرادها الله عز وجل .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ العبادات التي شرعها الله سبحانه وتعالى ، المسلمون اليوم يؤدّونها ، ولكنّ هناك فرْقاً كبيراً بين أن تُؤدَّى وفْق ما أراد الله عز وجل فتُؤتي أُكلها ، وتُجْنى ثمارها ، وبين أن تؤدّى بِطَريقةٍ ألِفها الناس ، هذه الطريقة جعلَتْ من هذه العبادات نوعًا من العادات ، فالله سبحانه وتعالى فيما يرويه النبي عليه الصلاة والسلام عن ربّه يقول :
((كلّ عمل بن آدم له إلا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به ))
فيا تُرى ما معنى كلّ عمل ابن آدم له ؟ الإنسان إذا ترك السّرقة فترْكها عائدٌ له ، بوُضوحٍ جليّ ، إذا ترك الكذب ، فترْكُ الكذب عائدٌ له بشكلٍ واضحٍ ، إنّه يكسبُ ثقة الناس ، فالأمين مُعَزّزٌ مكرّم ، والصادق محترمٌ مبجَّل ، وأيُّ أمْرٍ إلهي أمرنا الله به في علاقتنا ، وحياتنا الشخصيّة ، وفي علاقاتنا الاجتماعيّة ، في بيعنا ، في زواجنا ، في شرائنا ، في الدَّين ، وفي أيّ شيءٍ أمرنَا الله به ، إنّ الثِّمار التي يجنيها الناس من تطبيق هذا الأمر واضحةٌ جليّة ، ولكن الإنسان قد يتساءل ؛ ما هي الحِكمة مِن ترْك المباح ؟ إنّك في هذا الشّهر الكريم تتْرك الطّعام والشّراب الذي أحلّه الله للناس ، إنّك في هذا الشّهر الكريم تتْرك شُرْب الماء الذي أحلّه الله للناس، فالصّيام كما قال الله عز وجل لي وأنا أجزي به .
مِن هذا الحديث القدسي الذي رواه النبي عليه الصلاة والسلام يُستنبط أنّ نسبة هذه العبادة إلى الله وحدها من دون العبادات لها أسباب ، هذه العبادة نُسِبَتْ إلى الله وحدها ، من دون العبادات، فما أسباب ذلك ؟ أسباب ذلك أنّ العبادات كلّها ظاهرةٌ جليّة للناس ، فالذي يدخل إلى المسجد ويتوضّأ ويُصلّي ، فهذه الصلاة ظاهرةٌ للناس ، والذي يُزمعُ السّفر إلى الدّيار المقدّسة لأداء فريضة الحجّ له حفلُ توديع ، وحفلُ استقبال ، ويُسمّى الحاجّ الفلاني ، عبادةٌ ظاهرةٌ بيّنة جليّة ، يعرفها الناس ، والذي يؤدّي زكاة ماله إنّ هذه الزكاة تُؤَدَّى على مرأى ومَسْمعٍ من الناس ، ولكنّ الصّوم هذه العبادة كما قال بعض العلماء سِرّ بين العبد وربّه ، لا يعرفها إلا الله ، فلكَ أن تدَّعي أنَّك صائم ، ولكنّ الله وحدهُ يعلمُ ما إذا كنت كذلك ، أو لمْ تكن كذلك ، إنّ هذه العبادة من بين العبادات كلّها سِرّ بين العبد وربّه ، هذا هو الذي استنبطهُ العلماء من قول الله تعالى في الحديث القدسي :
((كلّ عمل ابن آدم له إلا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به ))
2 ـ الصوم عبادة الإخلاص :
شيءٌ آخر ، هو أنّ الصّوم عبادةٌ سَلبيّة ؛ ليس فيها فعلٌ ، إنّما فيها ترْكٌ ، والتَّرْكُ – كما قلتُ قبل قليل – لا يعلمهُ إلا اللّه ، من هنا سمّى بعض العلماء أو بعض الفقهاء هذه العبادة بأنّها عبادة الإخلاص ، يا تُرَى لو أنّ بلدًا اجتمعَ أطِبّاؤُه ، وأقرُّوا أنّه لا بدّ من أن يصوم الناس صيانةً لأجسامهم ، وحفظًا لها من الآفات الوبيلة ، وهؤلاء الأطباء توصّلوا إلى استصدار أمرٍ وَضعيّ بإلزام الناس بالصّيام ، هل تستطيعُ أيّ جهةٍ على وَجه الأرض بإلزام الناس على الصّيام ؟ قد تمنعُ تناوُل الطّعام والشراب في الأماكن العامّة ، أو في الأماكن الرّسميّة ، ولكنّ الإنسان هل يستطيع أن يصِل إلى خلْوة أخيه الإنسان فيفرض عليه الصّوم ؟ لهذا قالوا : إنّ الصّيام عبادة الإخلاص إذا كان الإنسان بين أخذٍ ورد ، إذا كان هناك صراعٌ في نفس الإنسان حول إذا ما كان مخلصًا أو غير مخلصٍ ، يأتي الصّيام ليؤكّد له بالدليل القاطع أنّه مخلص ، وأنّه يراقب الله عز وجل ، فلو دخل الإنسان إلى الحمّام ليتوضّأ ، وأغلق الباب وشربَ في أيّام الصّيف التي فيها الصّيام حتى ارْتَوى ، ثمّ مسحَ فمهُ من آثار الماء وخرج ، من يستطيعُ أن يكتشفهُ ؟ الله سبحانه وتعالى ، يعلم خائنة الأعيُن وما تخفي الصّدور ، لذلك الإنسان حينما يصوم ، فإنّه بهذا الصّيام يؤكّد لنفسه قبل كلّ شيء بالدليل القطعي أنّه مخلصٌ لله عز وجل ، وأنّه يراقبهُ ، من هنا سمّى بعض العلماء هذه العبادة بأنّها عبادة الإخلاص ، يشبه هذه العبادة أن تدفع المال ابتغاء مرضاة الله تعالى ، مِن دون أن تُحدِّثَ بهذا العمل أحدًا ، من كان يشكو سوء ظنّه بنفسه ، ومن كان يشكو وسْوسةً تأتيه من الشيطان لأنّه منافق فعليه بالصّيام ، وعليه أيضًا بِصَدَقة السرّ لأنّها تؤكّد لصاحبها أنّه يخشى الله وحدهُ ، ولا يخشى أحدًا سواه ، وعليه أيضًا بصلاة الليل وهي قيام الليل .
صلاة الليل ، وصدقة السرّ ، وصومُ رمضان ، أو صومُ النَّفل إنّما هو عبادةٌ سمّاها العلماء عبادة الإخلاص ، والإخلاص جوْهر الدّين ، والإخلاص سِرّ الدِّين الدفين ، يا معاذ أخْلصْ دينك يكفِكَ القليل من العمل ، أيُّ شُعورٍ أعظمُ حين يشعر الإنسان أنّه مخلصٌ لخالقه ، وأنّه مستقيم على أمره ، وأنّه في طريق مرضاته .
3 ـ الصيام يربي الإرادة :
حكمةٌ أخرى من حِكَم الصّيام ، كنت قد ذكرتُ لكم في درسٍ الحديث النبويّ الشريف أنّني سأتحدّث في جامع النابلسي يوم الأحد عن أحكام الصّيام ، ووعدْتكم أن أتحدَّث في درس التفسير عن حِكَم الصّيام ، فالصّيام له حِكَمٌ ، وله أحكام ، من حِكَم الصّيام أيضًا يُرَبِّي الإرادة ، الإرادة التي هي أساس استقامة الإنسان ، الإنسان حينما يُطلق لِنَفسه العنان ، وحينما يتفلّت من القواعد ، حينما يتكلّم ما شاء ، وحينما يُطلق بصرهُ إلى كلّ منظرٍ شاء ، وحينما يفعل ما يشاء من دون منظومةِ قيَمٍ ، من دون حُدود ، من دون قواعد ، من دون مبادئ ، إنّ هذا الإنسان لا يصلحُ لشيءٍ ، الإنسان غير المؤمن هكذا تربّى على التفلّت ، على أن يُعطيَ نفسهُ شهوتها ، على أن يُعطيَ نفسهُ حظَّها ، فهذا الذي لا ينضبط بما نهى الله عنه ، ولا يأتمر بما أمر الله به، هو إنسانٌ ضعيف الإرادة ، وضعيف الإرادة لا يمكن أن يصْنعَ شيئًا ، فكأنّ الصّيام يربّي الإنسان أن تكون إرادته قويّة ، إنّه إذا تمكّن من أن يمْنعَ نفسهُ من المباحات ، فهو لِمَا حرّمه الله أشدّ تمكُّنًا من تركها ، فأنت في رمضان تتْرك الطّعام والشّراب ، وتتْرك المباح ، فلأَنْ تتْرك النّظر إلى المرأة التي لا تحلّ لك من باب أولى ، ولأَن تدَعَ الكذب من باب أولى ، ولأن تدَع غشّ المسلمين من باب أولى ، ولأن تدَع قول الزور والعمل به من باب أولى .
المصدر:موسوعة النابلسي