المعضلة الرياضية للإلحاد
تدعي الرياضيات أشياء عجيبة قد لا يمكن تصديقها أو التدليل عليها.
فمثلاً الرياضيات تقول إن عدد النقاط في خط طوله اثنين سنتيمتر يساوي عدد النقاط في خط طوله عشرة سنتيمترات! فالخطان فيهما العدد نفسه من النقاط وهو ما لا نهاية.
تعلمنا أن نتقبل هذا الأمر رياضيًّا ولكن هل فعلًا يبدو حقيقيًّا؟
كيف أقنعنا مدرس الرياضيات أن نتقبل هذا على انه أمر علمي، فهو لم يثبت لنا مفهوم اللانهاية رياضيًا ولم يقدم دليلاً تجريبيًا واحدًا على أن الخطين فيهما عدد النقاط نفسه، بالعكس الدليل الحسي الوحيد – وهو رؤية الخطين- يناقض الادعاء بتساوي مكوناتهما.
فلماذا نؤمن أصلاً أن هناك وجود لللانهاية؟
بالنسبة للمؤمنين، فمفهوم اللانهائي أو المطلق أمرٌ بسيط ومألوف، فهم في كل المواقف مستحضرون وجود خير مطلق وعدل مطلق، ومستأنسون بوجود قدرة مطلقة وعلم مطلق، وبالتالي فاللانهاية أمر متسق تمامًا مع رؤيتهم لدنياهم كجزء محدود ومؤقت من وجود غير مادي.
المأزق العقلي يظهر لدى الملحدين، كيف لشخص لا يؤمن إلا بالوجود المادي أن يفهم اللانهاية؟ كيف يقتنع بشيء ليس عليه دليل حسي، ولا يمكن وجوده بشكل مادي؟ والأكثر إهانة له هو أنه لا يستطيع أن يمتنع عن قبول مفهوم اللانهاية كما يمتنع عن قبول وجود الله، فلو اشترط وجود دليل وإلا لن يعترف بوجود اللانهاية فسيتعرض لعاصفة من الاستنكار والتسفيه ناهيك عن رسوبه في درس الرياضيات ولن يفيده أن يدعي أن مدرس الرياضيات مضطهده لأنه مختلف معه في الرأي، بينما أن تقبل المفهوم في صمت واتبع المدرس خوفـًا من الرسوب أو لكيلا ينتقص المجتمع من رجاحة عقله، فهو بذلك خضع للإيمان كنتيجة للهزيمة النفسية والمجتمعية، ويكون قد اقترف بالضبط الذي يتهم بعض المؤمنين بارتكابه.
لهذا فقد تحلى أرسطو بشجاعة تندر اليوم في كثير من الملحدين، فهو كشخص مادي صرف لم يكن يؤمن بوجود ما لانهاية بشكل حقيقي «بل بشكل متخيل»، ومنطقه كان بسيطـًا أن الكون المادي لا يتحمل وجود أي جسم بخواص لانهائية، فلو اعتبرنا أن هناك فراغ تام «لانهائي» داخل الكون ستكون مقاومته صفرًا وسيبتلع الكون بسرعة لانهائية.
كذلك فلو أن هناك جسمًا كتلته لانهائية ستصبح جاذبيته لانهائية وستنجذب له كل الكواكب والمجرات ثم تنسحق الكواكب ومكوناتها وتلتصق به ليشكل كتلة كبيرة من البشر والأشجار والمباني الملتصقة ثم تنسحق خلايانا وتنجذب كل ذرات الكون ليصبح الكون كله عبارة عن كتلة واحدة ملساء من الذرات المتراصفة، ثم تبدأ الذرات نفسها في التحطم وتخرج البروتونات والنيوترونات من مدارها ويعود الكون كله عبارة عن نقطة واحدة بها إجمالي مادة الكون، وبما أننا نمشي بحرية ونحتفظ بذرات أجسادنا في مكانها فهذا دليل حسي كافي أنه لا يوجد جسم مادي لانهائي الكتلة.
لمثل هذا فقد خلص أرسطو أنه لا يمكن للكون المادي أن يحتوى على مفهوم اللانهاية بشكل حقيقي، لهذا وجد أرسطو نفسه أمام تداعي منطقي لا مفر منه، وهو وجود كائن خارج الكون له القدرة على خلق شيء من اللاشيء، وبالتالي فيجب رياضيًا أن يكون لانهائي القدرة، وكونه كليَا «لانهائي» القدرة وخالقـًا استتبع أرسطو أن يعترف له بأنه كلي العلم «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» الملك-١٤ وأنه أبدي ليس له بداية أو نهاية ومستعل لا يحتاج لأحد، ولكن لأن أرسطو عالم مادي ومؤمن تمامًا بأن العالم منضبط بمنطق آلي فقد قال إن الإله «وهو بالفعل سماه إله» مستعلٍ وساكن ولا يتدخل في الحياة.
ولكن لم يتفق الجميع مع أرسطو في عدم وجود اللانهاية بشكل حقيقي، فنيوتن مثلاً دافع عن فكرة أن اللانهاية حقيقية في عالمنا المادي، بل بناء على فهمه لوجود اللانهاية أسس التفاضل والتكامل الذي تقوم عليه الفيزياء إلى يومنا هذا، فنيوتن كان مؤمنًا بأن حركة الأشياء صحيحة بشكل مطلق «وليست نسبية كما قال جاليليو»، وبالتالي أصبحت ضرورة رياضية أن يعتبر أن الزمان والمكان نفسهما لانهائيين لينتجوا قوانين الحركة المنضبطة بشكل مطلق، ولكن إذا كانت قوانين الحركة على الأرض تنبع من حركة الأرض نفسها وكتلتها فما الذي يحكم حركة الأرض نفسها؟ هنا استطرد نيوتن أن حركة الأرض تحكمها حركتها مع باقي الكواكب حول الشمس، وافترض نيوتن أن الشمس والنجوم تتولد حركتهم من دورانهم حول نظام أعلى، وهكذا تتصاعد الحركة كل نظام يسبح في مدار أعلى يحكم حركته حتى نصل حتمًا لبادئ للحركة ذاتي القدرة لا يحتاج لغيره، ويسود كل شيء بقدرته، يستنتج نيوتن الصفات الواجبة له، وهنا سأترجم كلام نيوتن نفسه مع إيراد النص الأصلي فقد تخونني ترجمة بعض الألفاظ، ما بين الأقواس توضيح مني.
«و من سيادته الحقيقية «على الكون» يستتبع أن يكون حيًّا «وإلا لن تستمر سيادته لو كان ميتًا»، ذكيًا وقادرًا، ومن صفات الكمال الأخرى الواجبة له، أن يكون مثاليًا أو كاملاً، خالدًا ولانهائيًا، ذا قدرة وعلم كاملين «وإلا فالسيادة غير كاملة»، مدة وجوده من الأبد إلى الأبد، وحضوره من اللانهاية إلى اللانهاية، يحكم كل شيء ويعلم كل ما هو كائن وكل ما يمكن أن يكون، هو ليس الأبدية ولا هو الإطلاق، ولكنه أبدي ومطلق، هو ليس الزمان أو المكان ولكنه موجود أبدًا وحاضر في كل مكان، وبحضوره في كل مكان وزمان هو بذلك يشكل الزمان والمكان أنفسهما، فكل ذرة في الكون موجودة أبدًا، وكل لحظة من الزمان موجودة في كل مكان، فبالضرورة أن خالق كل شيء «كل هذه اللحظات والذرات» لا يمكن أن ينقطع وجوده للحظة أو ينتفي حضوره في أي مكان «أي لا يمكن أن يخلق ذرة تستطيع أن تعيش زمن أكثر منه أو زمن يستطيع أن يبلغ مكانـًا جديدًا عليه».
“And from his true dominion it follows that the true God is a Living, Intelligent, and Powerful Being; and, from his other perfections, that he is Supreme or most Perfect. He is Eternal and Infinite, Omnipotent and Omniscient; that is, his duration reaches from Eternity to Eternity; his presence from Infinity to Infinity; he governs all things, and knows all things that are or can be done. He is not Eternity and Infinity, but Eternal and Infinite; he is not Duration and Space, but he endures and is present. He endures forever, and is every where present; and, by existing always and every where, he constitutes Duration and Space. Since every particle of Space is always, and every indivisible moment of Duration is everywhere, certainly the Maker and Lord of all things cannot be never and nowhere. المصدر
الأمر نفسه تراه مع ستيفين هوكينج، فبالرغم من أنه ملحد، ولكن لأنه عالم فلم يستطع لأن يلوي الحقائق ليبرر إلحاده، بل بالعكس قام بالتدليل على أن مفهوم اللانهاية ليس له وجود مادي في الكون، وأن كلًّا من الزمان والمكان أنفسهما لهما بداية بل نص صراحة أن الكون لابد له من خالق خارجي خارج حدود الزمان والمكان، ولكن لأن هوكينج اختار الإلحاد فلم يسمه الله وسماه «مؤثر خارجي» واعترف بقصور علمه عن ماهية هذا المؤثر الخارجي، ولكنه اختار ألا يؤمن بأنه إله ويترك الباب مفتوحًا لأي تفسيرات أخرى قد تأتي في المستقبل.
فعادةً ما تجد العلماء الملحدين متسقين مع أنفسهم، ولا يضللوا أنفسهم، فالعالم لا يجد غضاضة أن يعترف أنه لا يدري، وأن إلحاده اختيار شخصي يجده أقرب للتصديق، ويعلم أن فكرة الإلحاد مليئة بالثغرات وعدم الاتساق، ولكن العلماء تدربوا ألا يجزعوا من الثغرات، ولهذا يسهل نقاشهم وتحديد نقاط الاتفاق وتحييد الاختلاف بشكل أفضل بكثير مما يحدث مع عوام الملحدين.
فالملحد العامي لا يدري شيئًا عن كل هذه النقاشات العلمية، هو فقط يريد أن يصدق أن العلم كامل بلا ثغرات، وأن الرياضيات لا تكذب وأن العلم أثبت بشكل قاطع أننا لا نختلف عن النبات والحيوان سوى ببعض التطور العقلي، وأننا حيوانات بلا غرض وأنه لا معنى مطلق للخير والشر ولا الأخلاق بل هي اتفاقيات اجتماعية، ولا معنى روحي لعاطفة مثل الأمومة أو الصداقة مثلاً إلا في كونها كانت أداة مفيدة عمليًا في بعض حلقات التطور.
ولكن هذا الملحد يجد نفسه في مأزق كبير عندما يواجه أمر متناقض مع عقيدته المادية مثل مفهوم اللانهاية. أي إعمال لعقله سيتسبب بالإيمان بخالق غير مادي أعلى من الزمان والمكان سواء أطلق عليه الله مثل نيوتن أو المبدئ كأرسطو أو المؤثر الخارجي كهوكينج، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يتجنب المشكلة بأن يكفر بالمفاهيم المطلقة طالما ليس عليها دليل كما كفر بوجود إله لعدم وجود دليل، فلو اعتبر أن اللانهاية أو المفاهيم الرياضية المجردة مجرد أداة ولكنها غير حقيقية في حد ذاتها، ستصبح الرياضيات المبنية عليها هي أيضًا غير صحيحة في حد ذاتها بل مجرد وجهة نظر، وستفقد الرياضيات موضوعيتها فتصبح الإجابة المثلى على سؤال «كم عدد النقاط في الخطين» هو «أنت عايزهم كام؟».
وليكون ممكنًا لأحدهم أن يؤمن بالمعرفة المبنية على المطلقات «مثل الرياضيات»، وبالرغم من هذا يظل على إلحاده فليس لديه إلا حلان:
إما أن يقول مثل هوكينج أنا أعلم أن هناك خالقًا ولكني أرفض أن أتخيله كإله ذي وعي وعلم وقدرة وبالتالي أرفض أن أعبده.
أو أن يتوقف تمامًا عن التفكير.
فيقول لا أدري
ثم يؤمن بهذه المسلمات بشكل دوجماتي ليس فيه منطق
ثم يكفر بوجود خالق بشكل دوجماتي ليس فيه منطق.
وبالتالي عندما يقول لك الرياضيون إن الخطين القصير والطويل متساويان يقول سمعًا وطاعة، وينتقل لتلقي الدرس التالي قبل أن يبدأ في التفكير.
وهذا الانقياد والإيمان بلا نقاش هو اختيار معظم الناس في التعامل مع مثل هذه القضايا الرياضية، وهو عادة اختيار عملي، فبالرغم من أنه لا يوجد تحديد موضوعي وقاطع لمفاهيم جوهرية في الرياضيات مثل اللانهاية، إلا أن معظم الناس مستعدون لقبول الرياضيات حتى لو لم تكن قطعية بشكل كامل، والاختلافات محدودة ولن تقدح في الرياضيات بشكل عام
المصدر:شبكة الالوكة