عظمة رمضان
إذا كان الحديث عن العظمة يسري إلى زمن من الأزمان فإنه في رمضان أولى وأحق ، ولكن من أي ناحية نتحدث عن تلك العظمة ، ومن أي فج نسلك لنقف بخشوع مبهورين وأقزاما متصاغرين
إن الحديث عن جوانب العظمة في هذا الشهر ليس غريباً فهو شهريجذب الأنظار إليه ، ويحرك أوتار قلوب المسلمين إليه ، وتتلهف الأنفس شوقاً إليه ، والأرض كلها والسماوات السبع تتجاوب مع هذا الشهر الكريم
إن عظمة هذا الشهر تبرز في تميز هذه الأمة المرحومة به
دونما سواها من الأمم فأمة اليهود وأمم النصارى والمجوس ، والصابئة ، وسائر طوائف الوثنيين لا يمكلون رصيداً ضخماً كضخامة هذا الشهر ، ولا يحلمون بمثقال ذرة من خير في أي زمان فضلاً عن أن يكون لهم مثل شهر رمضان .
فأي إكرام وإجلال للمسلمين أعز من هذا الشهر الذي بفخرون به على سائر الأمم .
وإن سألت عن الجانب الآخر في عظمة هذا الشهر فهو قد ذكره الله جل في علاه بقوله :
(
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
)
حسبك أن ينزل القرآن في هذا الشهر ، هذا القرآن هو ينبوع الحياة ، وسلسبيل الظمآن ، قد أحيا هذه الأمة بعد موتها وأقامها بعد عثارها ، وشيد بها الأرض بعد ذواها ، فأنبت في الأرض شجراً مثمراً من الرجال ما كان بغيره أن ينبت شجرها .
مات الرسول صلى الله عليه وسلم وبقيت الرسالة ، بقي القرآن بين ظهراني الناس ، يعيشوا أعزاء ما تمسكوا به ، وأقوياء ما لاذوا بأركانه ، وقادةً ما اتخذوه قائداً ودليلاً .
فياطيب عيش من كان القرآن سراجه في ليالي رمضان ، وحديثه في نهار رمضان ، وسماعه في بيته وسيارته ، طوبى لمن اجتهد في ختمه مرات اقتداء بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة رضي الله عنهم ، طوبى لمن تخلق بأخلاق القرآن فقد أحسن إلى نفسه ، وأكرمها وأعزها .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ” القرآن شافع مشفع ، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار ” .
أما الجانب الثاني من جوانب العظمة في هذا الشهر الكريم :
فهو الاستمتاع بصور كثيرة ومتنوعة من الأجور التي يحتسبها المسلم في هذا الشهر عند الله ، وحسبك أن تسمع إلى تلك الفضائل لتحمد الله أن بلغك هذا الشهر ، ولتسأله أن يتقبله منك وأن يختمه عليك بخير ، فقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ” من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ” فما بالك بصوم شهر رمضان كله . وجاء في الحديث الآخر المتفق عليه : عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن في الجنة باباً يقال له الريان ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد ” .
والصيام في هذا الشهر وغيره يشفع لصاحبه عند الله يوم القيامه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ” الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار ، فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل ، فشفعني فيه ، قال : فيشفعان ” .
والصائم أيها الأحبة على الرغم من تركه الشراب والطعام التي هو مجبول على حبهما إلاّ أن الله تعالى يعوضه بتركهما سعادة غامرة يجدها في نفسه ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” للصائم فرحتان فرجة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ” .
كما أن الصائم الذي يترك الطعام والشراب يجد خلوفاً ينبعث من المعدة وهي رائحة مكروهة عند الخلق ، لكنها عند الله محبوبة ، لأنها ما جاءت إلاّ من طاعة قال صلى الله عليه وسلم : ” والذي نفس محمد بيده ، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ” .
وتأتيك سحائب المغفرة مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن رمضان ” من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ” وحديثه صلى الله عليه وسلم عن القيام بقوله : ” من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ” .
وعن ليلة القدر : ” من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ” .
فلا إله إلاّ الله ، ما أعظمها من أجور متدفقة ، وعطاء غير ممنون ، وبحار زاخرات من الفضائل ، هنا تبرز العظمة وتحل المكرمات .
فيا خسارة من يفرط أو يقصر في نيل تلك الحسنات ، لو كانت تلك الحسنات أموالاً لما نام الناس .
فكم يخسر العباد عندما يضيعون الفرائض في رمضان ، وكم يخسر العباد عندما يتأففون من طول القراءة في الصلاة أو التسبيح وكم يخسر العباد عندما لا يحافظون على صلاة التراويح أو القيام كاملة مع الإمام ، كم يخسر العباد عندما يقبلوا على الطاعة في أول رمضان ثم يضعفون في العشر الثانية ، ثم يتهاونون في العشر الأخيرة ، كم هم محرومون من الحسنات أولئلك الذين يصومون في نهار رمضان عن الطعام والشراب ، ولا يصومون في الليل عن المنحرمات ، إن عظمة رمضان أيها الموفّق تتجلى في أن تعقد عزمك على ألاّ يسبقك إلى الله أحد .
ومن جوانب العظمة في شهر رمضان أنه شهر له مع النفوس لمسة حانية ، ومع القلوب نفحة إيمانية ، إنه شهر يطبب أمراض الشاكين ، ويضمد جراح العاصين ، إنه شهر يدعو القلوب لتعتصم بعلاّم الغيوب ، شهر يقول للصالحين هل من مزيد ، فينادي العاصين أن انطرحوا عند باب الكريم المجيد .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
لعلكم تتقون فتتركوا سماع الحرام ، لعلكم تتقون فتذروا مشاهدة الحرام ، لعلكم تتقون فتنبذوا أكل الحرام لعلكم تتقون فلا تظلموا الناس ، ولا تهتكوا أعراضهم وحرماتهم ، لعلكم تتقون فتخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم .
لعلكم تتقون هي سرّ الصيام ،
وهاكم بشرى على أعتاب الشهر الكريم ، إذ أعلن صاحب موقع في الانترنت يعتبر من أكبر المواقع التي يرتادها هواة سماع الموسيقى أعلن توبته ، وناشد كلّ من زار الموقع أو سمع أغنيات أو حملها أن يتخلص منها .
وياليت كل من جمع الربا يتوب ويتخلص منه ، وياليت كل من أكل رشوة يتوب ويتخلص منه ، وياليت كل من اقترف حراماً أن يجعل من هذا الشهر خلاصاً وتوبة وعودة صادقة إلى الله . فالراحة واللذة والسعادة ليست إلاّ في طريق الذين أنعم الله عليهم .
ومن العظمة في هذ الشهر :
أن ترى صوراً مشرقة من التحمل والصبر ، فالذي يترك الطعام أكثر من نصف اليوم لا شك أنه تعلّم شهراً كاملاً على ترك الطعام ، الذي يصبر على شهوته هذا رجل تعلم الصبر ، الذي صبر وترك الدخان نهار رمضان ألا يمكنه أن يترك سائر الليل ؟
الصبر عندما يسابّك أحد أو يشتمك تذكر أنك صائم ، فاصبر عليه ، عندما تتأخر عن البيت قبيل المغرب ويواجهك زحام السيارات تذكر أنك صائم واصبر ولا تفلت أعصابك في اللحظات الأخيرة .
إن كنت موظفاً مدنياً أو عسكرياً وكثر عليك المراجعون فلا تتأفف واصبر فلك إن احتسبت بكل واحد تخدمه وتقضي حاجته أجر ، ولعل الله أن يقضي حاجتك بسبب أولئك الناس الذين أعنتهم وساعدتهم .
من صور العظمة في هذا الشهر أن تسود الرحمة , وتنتشر المحبة فأنت لا تنظر للفقير نظرة ازدراء واحتقار بل نظرة مواساة ورحمة واشفاق تعطيه من مال الله , تنظر إلى أولاده وأسرته وتقول :
كم هم في حاجة إلى الطعام , واللباس , وتكاليف اإيجار ومصاريف المدارس , فتزداد شفقةً عليه . فتنفق عليه مما آتاك الله
إذا رأيت الصائمين هاجتك نفسك لكي تفطر صائماً فتنال أجره , فتدفع من مال الله الذي أتاك , كما جاء في الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :” من فطر صائماً فله مثل أجره “.
إن كنت ممن أنعم الله عليه ووجبت عليك الزكاة فتذكرت حق الله في هذا المال وقلت في نفسك : اللهم أعطيتنيه من غير حول مني ولا قوة , وها أنذنا أدفع ما قدرته علي في هذا المال , فلك الحمد ولك الشكر , عطاء قليل في جنب أنعم لا تعد ولا تحصى فيصل هذا المال إلى الأرملة والمسكين واليتيم فيفرج كرباً كثيرة أو يقضي ديناً أو يدخل في نفسه فرحة هكذا تكون الرحمة والمواساة .
(
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
) .
إننا وإن كنا نستحضر عظمة هذا الشهر الكريم وما وهب الله فيه من رحمات , وما أنزل فيه من مغفرات وما ستر فيه من عيوب , وما دفع من أقوام وعندما نتذكر السلامة في أبداننا , والطول في آجالنا حتى بلغنا الله هذا الشهر , إلا أن هناك فئات ضعف إيمانهم , وقل دينهم وقرضت قلوبهم يشوهون روعة رمضان ويحجبون الأجر , ويجلبون الأوزار يستعد الناس للخيرات وهم يستعدون بالسيئات , يتسابق الناس على جنة عرضها السموات والأرض , وهم يتسابقون للشر والإغراء والإفساد .
أو مسلسلات تاريخية تشوه صورة الصحابة وأعلام الأمة المسلمة , كما فعلوا بابن تيمية رحمه الله , والدور في هذا الشهر عن الإمام الشافعي رحمه الله , ولو كان زعيماً لما تجرؤوا على قلب الحقائق في حياته أو الكذب عليه .
أو برامج فكاهية , بنكهة السخرية بالدين و وبرامج فوازير موسيقية تقدمها نساء متبرجات .
إن هذا السطو اللا أخلاقي على حرمة الشهر يعتبر فاعلوه مجرمين في حق أنفسهم وفي حق الأمة التي يبثون إليها هذه السموم ويضيعون أجورهم ويهرمون أوقاتهم , ويتحملون وإياهم الأوزار .( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فلنعرف لهذا الشهر حقه ولنقدره قدره ولنجتهد فيه بالطاعات فهو كما قال الله (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) . لعل الله أن يكتب لي ولك فيه سعادة لا نشقى بعدها أبداً و رضى لا يسخط علينا بعده أبداً , وأن يعتق فيه رقابنا من النار .
بعدها أبداً و رضى لا يسخط علينا بعده أبداً , وأن يعتق فيه رقابنا من النار .
منصور محمد الغامدي
www.islam-love.com/