عوامل القول بألوهية المسيح عليه السلام
الحمد لله رب البريّة، والصلاة والسلام على سيد البشرية، بعدُ:
فإنّ وحدانية الله تعالى هى أصل عقيدة كل الرسالات السماوية، وما نبي ورسول إلا وقد جاء ليؤكد على هذه العقيدة فى قلوب البشر، إلا أن هناك نفوسًا بشرية مريضة تختلق أمورًا مُحْدثة فى الدين، كعبادة بني إسرائيل العجل، وجعل النصارى عيسى عليه السلام إلهًا مع الله تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ولقد كان للمجامع النصرانية أثرًا بالغًا فى تحريف العقيدة النصرانية، وأخطر هذه التحريفات هو الاعتقاد بألوهية المسيح عليه السلام، ومن أخطر هذه المجامع مجمع نيقية الذى عُقِد 325م، والذى صدر فى ختامه القول بألوهية المسيح عليه السلام صراحةً، فأصل فكرة الألوهية ومنشؤها يرجع إلى هذا التاريخ، والذى تمّ برعاية قسطنطين إمبراطور الرومان فى الأمر، فأمضى المجتمعين القول بألوهية المسيح عليه السلام تحت رغبة الإمبراطور الروماني ورهبة السلطان، وبذلك قرروا ألوهية المسيح عليه السلام وظهرت فكرتها علانية، وقسروا الناس عليه بقوة السيف، ورهبة الحكام (الشيخ محمد أبو زهرة: محاضرات فى النصرانية. ص 140. ط 3. 1385هـ / 1966م. دار المدنى – القاهرة).
فمسألة ألوهية المسيح عليه السلام جديدة وطارئة على رسالة المسيح عليه السلام، وكان منشأ وظهور هذه العقيدة فى أوّل مجمع للنّصارى، والذى جعل من فكرة القول بألوهية المسيح عليه السلام أصل عقيدتهم، حتى فرضت هذه العقيدة على الناس بقوة السيف، وقـد استمد النصارى عقيدتهم فى ألوهية المسيح عليه السلام من إنجيل يوحنا الذى ركّز على قضية ألوهية المسيح وبنوته لله تعالى. ثم توالت الانحرافات الدّخيلة على النصرانية، حتى استمرّت هذه الانحرافات فى العقيدة إلى يومنا هذا.
ومن العوامل التى أدّت إلى القول بألوهية المسيح عليه السلام:
أولًا: تحريف متن الأناجيل:
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: “الاضطهادات التى نزلت بالمسيحيين، ومصادرة الكتب وتحريفها بأمر الرومان، والأيدى العابثة المفسدة، كلّ هذا جعل مصادر المسيحية يعتريها الشكّ والريب” (الشيخ محمد أبو زهرة: محاضرات فى النصرانية. ص 169).
ثانيًا: بولس اليهودي:
من المعلوم جليًّا أنّ بولس من أصل يهودي، ونشأ فى بيئة متعددة الاعتقادات، وكان من أشدّ الأعداء على دعوة عيسى عليه السلام، وبعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء أظهر بولس أمام تلاميذ عيسى عليه السلام إيمانه بالمسيح عليه السلام، حتى أصبح من المقرّبين إلى التلاميذ، وصديقًا لهم حسب قول المسيحية (انظر: أعمال الرسل 9: 3 – 6. كورنثوس الأولى 15: 8 – 10 ).
ولقد ساعد بولس على انتشار القول بألوهية المسيح، بقوة تأثيره فى النفوس، يقول شارل جنيبير: “الحماسة الوثّابة، والمنطق البين المدرب على المناقشة، ثم التفكير العملي الحي، والعزيمة التى لا تُقهر، والتى تفرض فرضًا رسالة صاحبها وآراءه” (شارل جنييز: المسيحية نشأتها وتطورها ص 70 . ترجمة د. عبد الحليم محمود. ط 1981م. دار المعارف – القاهرة).
ثالثًا: الاضطهادات:
إنّ من أعظم الوسائل لنشر دين ما هو توفير الأمن والاستقرار، والناظر إلى تاريخ النصرانية يجد أن عيسى عليه السلام يتعرض للاضطهاد من النصارى، كما كان للرومان النصيب الأكبر فى اضطهادها لأتباع المسيح عليه السلام، واستغرق هذا الاضطهاد الوثني الروماني ثلاثة قرون، وفيه قاسى أتباع المسيح عليه السلام أشد ألوان العذاب؛ مما أدّى بالنصارى إلى التخلّي عن العقيدة، يقول شارل جنيبير: “فإن سائر التهم كانت تتميز بقابليتها للتلاشى التام، عندما يعلن المتهم المسيحى تخليه عن عقيدته. وهذا يدل دلالة صريحة على أن الغرض من كلّ الإجراءات القضائية لم يكن فى الواقع سوى القضاء على الديانة المسيحية ذاته، ولا شىء غيرها” (انظر: المسيحية نشأتها وتطورها ص 70).
كما قام الرومان بتحريف الكتب والمصادر النصرانيـة، يقول الشيخ أبو زهرة: “الاضطهادات التى نزلت بالمسيحيين، ومصادرة الكتب وتحريفها بأمر الرومان، والأيدي العابثة المفسدة، كلّ هذا جعل مصادر المسيحية يعتريها الشك والريب” (انظر: محاضرات فى النصرانية. ص 169).
رابعًا: الثقافات والفلسفات الوثنية:
بقيت رسالة المسيح عليه السلام صافية بعيدة عن الشوائب والتأثيرات الخارجية إلى فترة طويلة استمرّت ما يقرب من ثلاثة قرون، والمؤمنون بالرسالة ما عرفوا عيسى عليه السلام إلا رسولًا لبني إسرائيل، فلم يقولوا بألوهية المسيح عليه السلام ولا اعتقدوا بأنّه ابن لله تعالى، ولا أنه مات مصلوبًا لأجل خطايا البشر، ولا غير ذلك من خزعبلات الوثنية.
يقول الكاتب الأمريكى درابير فى كتابه (النزاع بين الدين والعلم): “لقد دخلت الوثنية والشرك النصرانية عن طريق من تظاهروا باعتناقها رياءً وكذبًا؛ ليتقلَّدوا المناصب العالية فى الدولة الرومانية من دون أن يؤمنوا بها” (المستشار محمد عزت الطهطاوى: الميزان فى مقارنة الأديان. ص 58 . ط1. 1413هـ / 1993م . دار القلم – بيروت).
خامسًا: قسطنطين:
لم يكن دخول قسطنطين فى الديـانة النصرانية عن اقتناع، ولم يعتنقها لأجل رفع شأن المسيح عليه السلام وعقيدته، بل لمصالح شخصية دفينة فى صدره المليء بالعقائد الوثنية، يقول درابير عن قسطنطين: “لقد اعتنق النصرانية مرغمًا بعد أن رفعته إلى العرش، آملة أن يتقيد بأوامرها، ويساعد على انتشارها، غير أنها لم تستطع أن تقضى على جرثومة الوثنية الرومانية فيه” (المستشار محمد عزت الطهطاوى: الميزان فى مقارنة الأديان. ص 58).
هذا اعتراف صريح من أحد كبار علماء النصارى أنّ قسطنطين ما تنصّر إلا لتوطيد حكمه، وكسب النصارى فى جانبه، وبذلك يتحقق مآربه فى توسيع دولة الحكم، فلم يكن اعتناقه سببًا عقائديًا، بل لهدف سياسى، فالمصلحة عنده هو نشر الأمن فى إمبراطوريته، وتوطيد حكمه (د. محمد الزين: المسيحية والإسلام والاستشراق. ص 96. ط 2. 1422هـ / 2000م. دار الفكر – دمشق). وهكذا انتشرت الديانة النصرانية المُحَرّفة فى الأرض بقوة السلطان، وأصبح المسيح إلهًا؛ رغبة فى مآرب ذاتية. وكان قسطنطين من أحد العوامل الرئيسة المؤثرة على القول بألوهية المسيح.
المصدر: طريق الإسلام