مقالات

ما هو الإيمان


حديث جامع : من حديث لعمر رضى الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرنى عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت.
قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرنى عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت.
قال: فأخبرنى عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك …”.
الإسلام، الإيمان، الإحسان، كلمات ثلاث وردت فى الحديث معرفة بما يشرح دلالتها، وهى ـ فى نظرنا ـ لتعد عناوين شتى لحقيقة واحدة.
والحقيقة الواحدة قد تنظر إليها من عدة جهات فيعنيك من كل جهة وصف خاص بارز، مع أن هذه الأوصاف كلها متضافرة فى تحديد الحقيقة وتوضيح معالمها.
ولذلك ختم الحديث بتلك العبارة: ” هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم “.

والدين الذى نزل أمين الوحى لتوضيحه هو الإسلام إن نظرنا إلى السلوك الظاهر، والعمل البين.
وهو الإيمان إن نظرنا إلى اليقين الباعث والعقيدة الدافعة
وهو الإحسان إن نظرنا إلى كمال الأداء والوفاء على الغاية عند اقتران الإيمان الواضح بالعمل الصالح…
بل هو جملة هذه المعانى، لا ينفصل أحدها عن الآخر عند التصور الكامل، كالشجرة الحية.
قد تنظر إلى جذعها الذى يحمل الغذاء للغصون الدانية والذوائب العالية.
وقد تنظر إلى الأثمار المطعومة والأوراق المظللة.
وقد تنظر إلى ينع الشجرة وحفولها وازدهارها.

بيد أن هذه الأنظار المختلفة لا تغير من وحدة الشجرة، واكتمال صورتها فى الذهن وفى الخارج.
من الجذع القائم، والأغصان الممتدة، والرواء الشائع فى الأزهار والجنى…
وربما انكمشت العناصر التى تتكون منها حقيقة الدين، ووهت الروابط التى تشد بعضها إلى البعض الآخر، فيكون الإسلام عملا خافتا لا تلمح وراءه قوة الإيمان، أو يكون الإيمان باعثا مريضا لا يدفع الأهواء ولا يوقظ الضمائر، أو يكون الإحسان زعما لا يبصر الحق ولا يحس هيمنته.
نعم، قد يقع هذا فى حياة الناس كما ترى أحيانا شجرة معطوبة الثمر، ذابلة الورق، لا جذعها يحمل الخصب والثمار، ولا أفنانها تحمل القطوف والخير ولا منظرها يوحى بالبهجة والرضا.
ولكن هذه الأحوال المعتلة ليست الفطرة العامة والطبيعة السائدة.

والحديث الذى بين أيدينا يشرح الحقيقة الصحيحة للدين.
والإيمان إذا صح لابد أن ينتج العمل.
والعمل إذا صح لابد أن يرتكز على الإيمان.
والإحسان إذا صح لا ينشأ إلا من إيمان راسخ وعمل كامل.

ويمكنك أن تقول: إن الدين الذى جاء جبريل يعلمه هو الإسلام.
والإسلام لا يصح إلا بالروح الكامنة فيه، والوقود المحرك له أى الإيمان الحق
فإذا استبطن هذا اليقين الدافع فأمامه مثله الأعلى فى إحكام الصلة بالله، والشعور برقابته الدائمة وشهوده الجليل، وهو مقام الإحسان.
وقد شرحنا الحديث بهذا الأسلوب لأن بعض الناس وهم أن كلمات الإسلام والإيمان والإحسان مراتب يسلم بعضها إلى البعض الآخر، وأن بينها فواصل وفجوات، أى أن الإسلام قد ينفك عن الإيمان، وأن الإيمان قد ينفك عن الإسلام ثم جاء فى هذا العصر الهازل من ظن الإحسان منزلة يتوصل إليها بغير الفروض المشروعة والعقائد المقررة.
وبذلك أصبحت الكلمات الثلاث ترمز إلى حقائق شتى لا إلى دين الله الواحد، وهذا شرود بعيد.

والقرآن الكريم يهدى إلى تلازم هذه المعانى وتساوقها فى بيان حقيقة الدين من ألفه إلى يائه، وإلى أن تلون العبارات إنما يشير إلى الوجوه الوضاءة لهذه الحقيقة الواحدة.
وإنك لترى هذا فى عشرات الآيات التى تصف هذا الدين، وتشرح تعاليمه، ذاكرة فى تضاعيف هذا الوصف كلمات الإسلام والإيمان والإحسان، لتكون هذه الكلمات منارا يضىء الطريق، وحاديا يسوق إلى الغاية.
قال عز وجل يصف المؤمنين فى صدر سورة النمل: (هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) .
وقال يصف المحسنين صدر سورة لقمان: (تلك آيات الكتاب الحكيم*هدى ورحمة للمحسنين)

فاتحدت الصفات للنوعين معا.
وأنت خبير بأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة أهم عناصر الإسلام التى ذكرت فى الحديث.
وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين)

(… وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا).
(ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) .
(ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) .
(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

والآيات السابقة كلها ترادفت فيها عبارات الإسلام والإحسان على أساس أن الإيمان المستكن فى الأفئدة شىء مقطوع بوجوده ووفرته، وإلا فلا يتصور هنالك إسلام ولا إحسان.
واذا كانت هذه الآيات قد تناولت الجانب الظاهر من جوهر الدين فإن الآيات الأخرى تناولت الحقيقة تناولا يصف جذرها الأصيل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا)
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا)
(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا).

(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا).

والمتأمل فى هذه الآيات يرى أن متعلقات الإيمان كثيرة لا يجوز بتة أن ينفك أحدها عن الآخر، كما يرى أن آثار الإيمان العملية- وهى لباب الإسلام لا يمكن أن تنفصل هى الأخرى عن طبيعة اليقين الموحى بها.

بل يرى أن الإيمان بالبعض والكفر بالبعض كفر كامل: وأن الإيمان المقرون بنية التمرد، ورفض الخضوع لله كفر كامل: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون).

ومن ثم يتضح أن حقيقة الدين واحدة، وأن أوصاف الإسلام والإيمان والإحسان التى تعرض له هى شروح لوجوه شتى منه، وليست مراحل مغايرة له أو بعيدة عنه، وإن كان العنوان الذى شاع علما على هذا الدين، بل صفة للأديان كلها، وسمة للفطرة الإنسانية السليمة، هو الإسلام…

ما هو الإيمان؟:

الإيمان معرفة بلغت حد اليقين، أو هو علم يصحبه الجزم والقطع.
فإذا قلت: أنا أؤمن بوجود القاهرة فمعنى ذلك أمران: أحدهما عقلى، هو أنك تعرف وجود هذا البلد، والآخر قلبى، وهو أن علمك لا ريبة فيه ولا تردد، بل مقرون بالتصديق التام.
والإيمان بالله ـ جل شأنه ـ ينطوى على الأمرين جميعا، النظرى والنفسى.
فإذا قلت: أنا أؤمن بالله فمعنى ذلك أنك تعرفه، وأن معرفتك له لا تلتبس بشك أو تردد.

بل إن فؤادك ملئ بالتصديق لقضية هذا الوجود الأعلى.
وبديهى أن تتفاوت حقائق الإيمان فى النفوس بتفاوت المعرفة ضيقا وسعة، وتفاوت التصديق عمقا وقربا.
فهناك عارفون بالله معرفة صافية الرونق، مجلوة الأفق، شديدة التألق كأنها معرفة دراسة وخبرة.
(الرحمن فاسأل به خبيرا).
وهناك معرفة دون ذلك.
وهناك أصحاب قلوب مفعمة باليقين، راسخة الثقة، تمر بها العواصف كما تمر الرياح بشماريخ الذرى لا تزحزها عن الحق قيد أنملة.
وهناك يقين دون ذلك.
على أن الإيمان إذا كان معرفة وتصديقا.
فإن هذه المعرفة يجب أولا أن تتسم بالصحة، وإلا فلا قيمة لتصديق لبابه الخطأ.
إن من البشر أجيالا لا تعرف الله، ومنهم من يعرفه على وجه حافل بالأغلاط والترهات.
والفريق الأول: ينكر أصل الألوهية كالشيوعيين والوجوديين وأضرابهم من الملحدين.

والفريق الثانى: يعترف بالألوهية ولكنه يتصورها تصورا مخالفا للواقع، وينسب إليها ما لا يليق بها، كجماهير المشركين على اختلاف مللهم، سواء فيهم عبدة الأصنام؟ أو الزائغون عن الحق من أهل الكتب الأولى.

والإيمان عندنا يجعل العلم الصحيح بالله روح التصديق المقبول.
وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التى تعرف الله لعباده تعريفا ينفى عن أذهانهم صور الضلال والانحراف، ويقر الحق فى نصابه.
خذ هذه الآية: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم).
هذه الآية تعرف بين المسلمين بآية الكرسى، وقد نوهت السنة النبوية بفضلها ومكانتها، وتتكون من عشر جمل متصلة المعنى فى الحديث عن ذات الله وصفاته:

1– (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ… )

ليس فى الوجود أحد يتجاوز مرتبة العبودية، فكل ما عدا الله عبد له، وهو وحده المتفرد بالألوهية فى السموات والأرض…
من قال عن نفسه إنه إله فهو كاذب، ومن قال عنه الناس ذلك فهم عليه كذبة، وقد تمر بالناس أعصار يتخذون فيها بعض الجمادات والدواب آلهة، وهذه أعصار الانحطاط الذهنى والنفسى التى نرجو أن يتم خلاص البشر جميعا منها.
ولكن الضلال الشائع إلى اليوم اتخاذ بعض البشر الطيبين آلهة مع الله بحجة أنهم انبثقوا منه أو أنه حال فيهم.
وقد حارب الإسلام هذه الضلة حربا شديدة، وأكد أن البشر مستحيل أن يرتفعوا إلى مصاف الآلهة، وأن الله العلى الكبير لا يمكن أن يهبط إلى منازل البشر.
إنه الإله الذى خلق غيره، ومنحه الحياة، وقام على أمره من المهد إلى اللحد
(واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا).
ورسول الإسلام ـ وهو قمة البشرية ـ عندما يدعو الله يؤكد هذه الحقيقة ” اللهم أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك وفى قبضتك
ناصيتى بيدك ماض فى حكمك، عدل فى قضاؤك… “.

2– (الحى القيوم ..)

والأحياء من الخلق ليس لهم من أنفسهم ما يوجب الحياة، إن الحياة عرض مفاض عليهم من خارج أنفسهم.
وهو عرض يفارقهم يوما ولا يعود إليهم إلا وفق مشيئة مفيضه جل شأنه، الحى الذى لا بداية لحياته ولا نهاية، فحياته وصف ملازم له أزلا وأبدا، وذلكم الفارق بين حياة الخالق والمخلوق.
ومن ثم يقول الله لنبيه: (إنك ميت وإنهم ميتون)
أما المتفرد بالحياة العظمى فهو الله.
ولما كانت هذه الحياة وضاحة نفاحة ناسب أن يجىء عقبها وصف القيوم أى الذى يمد الأكوان والخلائق كافة بحركاتها وسكناتها، ويشرف إشراف إحاطة وهيمنة على شئونها وأحوالها فهى أحوج ما تكون إليه وهو أغنى ما يكون عنها.
وقد ورد فى الآيات والآثار أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأنه القيم على السموات والأرضومن فيهن.
والقائم على الشىء، والقيم عليه أو القوام عليه، ألفاظ تتفاوت فى الكشف عن هذه الإحاطة الشاملة لفنون التصريف وألوان السيطرة على العالم.
ولكن لفظ القيوم جاء على هذه الصيغة فى المبالغة، إشارة إلى أنه من المستحيل أن يفلت زمام الأمور من الخالق، أو أن تسير فى وجهة غير ما قضى، إذ كل شىء يستند فى وجوده وبقائه وتقلبه إلى هذا الوجود الأعلى (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا).

وهذه الجملة ـ الحى القيوم ـ أولى الجمل التسع التى ترادفت أشبه بالاستدلال على الوحدانية المتقررة فى الجملة الأولى من آية الكرسى.
إذ هذه الأوصاف تنفى الشركة نفيا حاسما، وتشهد للبارئ الفرد أنه لا إله غيره.

3- ( لا تأخذه سنة ولا نوم )

السنة ما يخالط الأجفان من أوائل النعاس، والنوم هو الاستغراق التام.
والمراد أننا نحن البشر تدركنا ساعات غفلة نفقد فيها الشعور بأنفسنا وما حولنا.
بل نحن فى إبان اليقظة يختلف انتباهنا ونشاطنا الذهنى نحو ما نفكر فيه وما يحيط بنا.
وعند الكلال يضعف هذا الانتباه، وتهن العزيمة، وتكثر الأخطاء.
لكن رب العالمين لا يشغله شأن عن شأن ولا يغفل عن أمر فى السماء لاهتمامه بأمر فى الأرض، ولا تلحقه عوارض الوهن والإعياء، ولا تنفك قبضته الواعية عن ذرة فى العرش أو الفرش لسهو أو إغفاء.

4- (له ما في السماوات وما في الأرض)

الله واسع الملك.
وما تقول فى غنى يشمل آفاق السموات وفجاج الأرض؟ إن العالم كله، علوه وسفله، ملك لله وحده.
والذين يظنهم الجاهلون شركاء لله، ليس لهم فى هذا العالم ذرة، إن كانوا أصناما فما هى الأصنام؟ تماثيل نحتها المصورون فهم فى الحقيقة يملكونها ولا تملكهم.
وإن كانوا بشرا، فهؤلاء البشر ملك لمن صورهم فى الأرحام، وجعل صدورهم تهبط وتعلو بالشهيق والزفير، ولو شاء أن يقف دقات قلوبهم فى أية لحظة من ليل أو نهار ما رده راد..
إن هناك ملاكا على المجاز يضعون أيديهم على بعض التراب ليرتفقوه حينا، وربما طغوا بما يملكون ظاهرا، ثم يجيئهم الموت فيدعون الحياة صفر الأيدى، يدعونها لمالكها الحق الذى له ميراث السموات والأرض.
(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم).

5- (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)

القاعدة العامة فى الإسلام أنه لا شفاعة لمشرك، أو ملحد.
وأنه لا حق لأحد من الملائكة أو المرسلين يذهب به إلى الله ليقول له أعف عن فلان، أو اترك فلانا.
وأن الأساس الأول للنجاة هو الإيمان والعمل الصالح، ولذلك قال!
الله تعالى قبل هذه الآية مباشرة : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون).
ويقول مخبرا عن مصاير المشركين والمجرمين (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
ويقول أيضا: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)
وقد يقع ـ لمن ينجون بأعمالهم ـ شىء من الفضل ترتفع به درجاتهم فوق ما يستحقون.
أو يقع ـ لمن قاربوا ولم يصلوا ـ شىء من العفو ينجحون به ولا يرسبون ويجعل الله السبب الظاهر فى ذلك شفاعة المرسلين أو الصالحين.
وهى شفاعة لا ترجع إلى أن هؤلاء المرسلين أو الصالحين يجيرون على الله، أو ينقذون منه من يريد عقوبته، كلا، فما يجرؤ ملك ولا نبى على أن يقف من الله هذا الموقف.
إنهم لا يشفعون إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى.
قال تعالى: (لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون).
(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا).

وربما قال قائل: ولم هذه الشفاعة وما قيمتها؟ والجواب أنها لا تعدو لونا من إكرام الله فى الدار الآخرة لمن أهينوا بسببه فى الدنيا، فيريد الله أن يصلح بالهم وأن يعلى قدرهم، وأن يشعر عباده بما لهم عنده من مثوبة ومنزلة، وأن يطوى قلوب المقصرين والمتأخرين على محبتهم وإعزازهم لما سيق إليهم من فضل على أيديهم.

بيد أن الشفاعة المذكورة لا تهدم قواعد العدل، ولا تعطل موازين الحساب ولا يحتاج إليها سابق بالخير، ولا ينتفع بها مارق من الحق.

6- (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

ليس يخفى على الله شىء فى الأرض ولا فى السماء، وعلم الأمس واليوم والغد عنده سواء.
كأن العالم منذ خلق، وإلى أن تبدل معالمه، صفحة واحدة يستوى فيها القريب والبعيد والأول والآخر.
وذلك ـ بداهة ـ لأن الخالق يعلم ما خلق، ولا يتصور أن أحدا صنع من ورائه شيئا فيكون هوـ سبحانه ـ جاهلا به.
إن الإبداع ـ وهو إبراز شىء من العدم ـ لا يقدر عليه إلا الله.
والتغييرات التى تحدث فى المادة ـ وهى محور الأعمال البشرية ـ لا تتم إلا بأقدار الله، ومن هنا كانت إحاطة العلم.
ومن هنا كان معنى قولنا: إن الله لا يعلم هذا الشىء، أن هذا الشىء لا وجود له، إذ لو كان موجودا لعلمه حتما، وهذا معنى الآيات الكريمة.
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون).
ولقد تجول الفكرة فى خاطرى ـ وكم يحمل تيار الشعور السارى فى كيان المرء من خطرات، وسوانح ـ فأقول: إن الله يعلم هذه الخطرة المارة، كما تمر السحب بالآفاق .

ثم أقول : وعلمه بها منذ أجيال: وأستتلى القول: وهو يعلم من غيرى مثل ما يعلم منى!

ومن غيرى؟ ألوف مؤلفة تزحم أرجاء العالم.

وعلمه يسع هؤلاء فى عصرنا.

وما قبل عصرنا وما بعد عصرنا!!

وما يملك المرء وهو يتابع هذا التصور إلا أن يهتف بالآية: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم).

7- (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)

ينابيع المعرفة تنبجس ابتداء من مشيئة الخالق، حتى العلم بما يقع فى مجال السمع والبصر، إنه لولا ما ركب فى الإنسان من عقل مدر، لماح، ما استطاع أن يفقه مما حوله شيئا.

والاطلاع على ما هو أعمق من ذلك موكول إلى مراتب الذكاء الإنسانى، وأنصبتنا من هذا الذكاء مقسومة علينا ونحن أجنة فى بطون الأمهات.

ومن هنا كان فتح نوافذ قليلة يطل منها العقل البشرى على آفاق من العلم محدودا بما تهىء المشيئة العليا من أسباب عادية أو غير عادية.

ومصادر المعرفة المعتادة مبثوثة فى كتاب الكون المفتوح، وفى تجارب الناس مع الحياة العامة، ويمكن بالوعى والتأمل والتجربة أن نبلغ آمادا بعيدة فى هذا المضمار دون حرج ودون قيد.

أما المعارف الغيبية التى مصدرها الوحى الأعلى، فإن الله قد اصطفى لها رسله الأولين وقد انتهى هذا المصدر بالرسالة الخاتمة ولن يحيط أحد بشىء من هذا العلم عن طريق الاتصال بالله أو بملائكته، ومن زعم ذلك فهو كاذب.

وقريب من ذلك الإنباء بالغيوب، فإن هذا ليس من العلوم الميسرة للخلق حتى تتاح فرصها للبشر على سواء: ولا مكان لوحى ينزل به بعد انقضاء النبوات.

ومن ثم فلا يقبل من أحد القول بأنه داخل ضمن الإمكان العام فى قوله تعالى (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).

فإن هذه المشيئة مبينة بما أوضحناه لك آنفا.

8_ (وسع كرسيه السماوات والأرض)

المتبادر إلى الأذهان أن السماوات والأرض هما حدود الملك الإلهى، وهذا خطأ ، فإنهما بعض آثار القدرة العليا فحسب، ولذلك قال فى آية أخرى:

(ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة )

وقال : (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)

هما من آيات الله وآيات الله الشاهدة بجلاله لا يحاط بها، وكرسيه من الرحابة بحيث يسع السماوات والأرض وسائر ما لا نحصى من آيات.

ونحن لا ندرى ما الكرسى؟ ولا نكلف باكتناه ذلك.

وكل ما ندركه من هذه الجملة هو ما توحى به من الإشراف الإلهى العالى على سائر الخلق، ما نرى منه وما لا نرى، وأن السموات والأرض ما يستغرقان إلا جزءا من الملكوت الواسع الذى اشتمل عليه هذا الكرسى (و الله من ورائهم محيط).

9- (ولا يئوده حفظهما)

لا يتجشم أية مشقة فى ضبط السموات والأرض وتدبيره الأمر بينهما، كما أنه لم يتجشم أية مشقة فى الخلق الأول، وهذا ما ذكره فى قوله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون).

أى أن ذلك البناء شىء هين إلى جانب ما فى وسعنا، كما ينفق صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فلوسا قليلة، فلا يرى أنه أعطى شيئا طائلا كذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ بناء العالم وحفظه، ما يتعب الخالق المدبر، ولا يرهقه، لفرط عظمته.

والجملة السابقة فى وصف الكرسى تشير إلى علو الذات.

ولذلك جاءت الجملة الأخيرة.

10- (وهو العلى العظيم)

تذييلا يختم المعانى السابقة بذكر اسمين من أسماء الله الحسنى مناسبين للمقام ، مقام العلو والعظمة الواجبين لذى الجلال والإكرام.

العقيدة الصحيحة بين الإسلام والنصرانية: هذا الاعتقاد الشريف فى إله منزه عن كل عيب مستحق لكل كمال هو أساس الدين.

وإن وراء المادة وجودا أعلى يجب اليقين فيه والاستمداد منه.

والله جل شأنه لم يدع الخلق دون رعاية وهداية، بل تعهدهم بالوحى الذى ينير لهم الطريق ويعرفهم المبتدء والمنتهى.

وما الوحى؟ إنه ليس حديث نفس، ولا ارتقاء فكر، إنه تعاليم حملها ملك، وتضمنتها كتب، واصطفى لها بشر.

واستمعت إليها الأمم على مر العصور من أناس يعلمون عن ثقة وصدق أنهم مرسلون من لدن الله إلى عباده لإبلاغ كلماته.

ومن هنا كان من تمام الإيمان بالله، الإيمان برسله وكتبه وملائكته.

لابد لتمام الإيمان من أن يعترف البشر بما وراء المادة، وبالعلم الذى تمخض عنه الوحى السماوى.

إن الإيمان بعلوم الحياة الأرضية وحدها دلالة كفر برب العالمين.

ولا ينجاب هذا الكفر إلا بالاعتراف بالوحى وتصديق المرسلين، والشعور بأن ما جاءوا به حق وأنهم موفدون من قبل الله كى يعدوا الناس لحياة راشدة يحسن بعدها لقاؤهم لله فى اليوم الآخر.

تلك عرى الإيمان كما ذكر الله فى كتابه، وبينها رسوله الأخير فى سنته.

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

والمسلمون يرون الأنبياء جميعا اخوة.

ويرون الكتب النازلة من السماء كلها شارحة لأصول الدين شرحا يصدق بعضه بعضا.

ويرون الأجيال الأولى حفلت بالعديد من هؤلاء المرسلين الكرام، ولا ينتظرون نبوة جديدة فى الأجيال الأخيرة، لأن السماء ألقت كلمتها الأخيرة، فى القرآن الكريم الذى جاء به محمد خاتم النبيين.

(وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)

والخلاصة التى أكدها الإسلام لدين الله الذى بلغه المرسلون عامة تنحصر فى أنه:

1- لا إله إلا الله، ليس هناك إله ثان ولا ثالث.
2- استحقاق الله لكل كمال وتنزهه عن كل نقص.
3- نجاة البشر فى عبادتهم وانقيادهم لتعاليم هذا الإله الفرد كما نزلت من لدنه.
4- ليس هناك أحد يجير على الله، أو يملك التعقيب على حكمه؟ فلا شركاء ولا شفعاء.

والإسلام يأخذ على أتباع الديانات السماوية الأخرى انحرافهم عن الجادة فى تقرير هذه المعانى.
فالمسيحية مثلا ترى أن هناك إلها هو الأب وثانيا هو الابن، وثالثا هو الروح القدس!

ثم تلحق ذلك بأن الأب هو الابن؟ وأن الثلاثة مع ذلك إله واحد!!
وهذا الكلام شطر الإيمان فى المسيحية؟ أما الشطر الآخر الذى لا يتم الإيمان إلا به، فهو القول بأن الإله الابن صلب كى يرضى الإله الأب عن أولاد آدم بعد خطيئته الموروثة.
ولما كان الإله الأب هو نفسه الإله الابن، فمعنى هذا أن الله، قتل الله ليرضى الله.. !!
والحق أن العقل البشرى تبهظه هذه الأثقال، ولذلك فهو بين أمرين إما أن يهضم نفسه فيقبل هذه الأوهام ويعتنقها على ما بها.
وإما أن يطرحها ويسير وفق ما يراه.

وذاك سر البراكين التى تثور فى الكيان الصليبى، وتجعله يقذف العالم بين الحين والحين بأشتات من مذاهب المروق والفسوق والعصيان، كالشيوعية والوجودية والإباحية وغير ذلك من عوج فى الطبيعة الإنسانية بعد ما سارت فى الأرض من غير زمام.
وهاك ما يصور العقيدة المسيحية منقولا عن بعض الكراسات التى توزع اليوم ـ للدعاية ـ ومدعوما بالمصادر الشاهدة له من الكتاب المقدس.
” إن الثالوث الأقدس هو الله الأب السرمدى وهو كائن ذاتى قادر على كل شىء حاضر فى كل مكان عالم بكل شىء، لا حد لحكمته ومحبته، والرب يسوع المسيح ابن الله الأزلي الذى به خلقت كل الأشياء وبه أيضا يتم خلاص المفديين، والروح القدس الأقنوم الثالث فى الثالوث الأقدس، وهو القوة العظيمة المجددة فى عمل الفداء.

إن الرب يسوع المسيح هو الله نفسه إذ هو من طبيعة الله الأبدي نفسها وجوهره، الذى مع احتفاظه بطبيعته الإلهية اتخذ الطبيعة البشرية، وعاش على الأرض كإنسان، ومثل فى حياته، كمثال لنا، مبادئ البر، وأثبت ألوهيته بعجائب كثيرة عظيمة، ومات على الصليب من أجل خطايانا وقام من بين الأموات وصعد إلى الأب حيث الآن يشفع فينا.
[ يوحنا: ا،14، عبرانيين 9:2- 18، 8: 1 ، 2 ؛ 14:4- 16؛ 25:7.

لقد توج السيد المسيح إعلانه عن محبة الله، إذ سار أخيرا إلى الصليب، وهنالك، بوصفه الممثل الكامل الأوحد للجنس البشرى، امتزجت طبيعتاه الإلهية والبشرية امتزاجا لا انفصال له.
وهكذا بعد أن قضى سحابة حياته على الأرض فى طاعة تامة لناموس البر الأبدي الذى وضعه هو، بذل نفسه عن خطايا الناس ذبيحة كاملة تامة وافية بلا تلاعيب، “لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرين خطاة هكذا أيضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرين أبرارا.
[رومية 5: 19.]

وكتب الرسول بولس: ” مخلصنا يسوع المسيح، الذى بذل لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم ” تيطس 2: 13،14.
لقد صور الرسول بولس التضحية الإلهية الجلى بهذه الكلمات الخالدة: ” إذ كان فى صورة الله لم يحسب (المسيح)
خلسة أن يكون معادلا لله.
لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا فى شبه الناس
وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ” فيلبى 2: 6- 8.

أجل، تنازل السيد فانتقل من أسمى علو إلى أدنى مرتبة، من كرسى المجد إلى خشبة العار، من القدرة اللامحدودة إلى التسليم التام، من السلطان المطلق إلى التواضع العميق من تسبيح الملائكة وتعبدهم له إلى تجديف البشر عليه وهزئهم به.

يا لها تضحية عجيبة فائقة التصور!
أجل، لقد كان الله مستعدا أن يدفع هذا الثمن الذى لا يستقصى فى سبيل خلاصنا.
هكذا أراد أن يعلن محبته لنا ويتصل بنا عبر الهوة السحيقة التى أوجدتها الخطية، وعليه قال الرسول بولس : ” فإن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا.
البار من أجل الأئمة لكى يقربنا الله ” بطرس 3: 18 ” أ. هـ.

هذا الكلام العجيب المشحون بالنقائض هو محور الإيمان عند القوم.
الله صلب الله، لكى يرضى الله… يرضى عن الخاطئين من بنى آدم، لو خبر الإنسان بأن قوما فى كوكب آخر يجمعون فى تدينهم هذه الغرائب لأنكر وجودهم، ومع ذلك فهم يعيشون معه على ظهر هذا الكوكب.
وليس لنا من تعليق على قصة الأبوة والنبوة والفداء وروح القدس التى تلتقى كلها فى ذات واحدة إلا قول الله فى كتابه الكريم (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير * قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ).

* الإلحاد خرافة علمية: قلنا: إن الإيمان معرفة بالله بلغت حد اليقين، وإن المعرفة المقبولة هى المعرفة الصحيحة التى تطابق الحق.
وقلنا: إن هناك من يعرفون الله معرفة مشوبة بالخطأ، مقرونة بأوهام لا يساندها الواقع.
وقد ذكرنا نماذج لتفكير هؤلاء.
وبقى أن نتعرض لقوم آخرين لا يعرفون الله أصلا، بل ينكرون وجوده بقوة.
وهؤلاء الموغلون فى الجحود قد اشتدت سواعدهم فى العصر الأخير اشتدادا محزنا، وأسعفتهم حضارة الغرب المادية بقوى كثيرة.
ففلسفة الشيوعية القائمة على أنه، لا إله والحياة مادة، أمست لها دولة مسلحة مخوفة.
وفلسفة الوجودية، أو نزعات البعد عن الدين إجمالا، تنتظم مواكب ضخمة من المثقفين فى دول أوربا الغربية.
وهؤلاء يروجون لنظرية النشوء والارتقاء، ويدرسون الحياة على أنها بداية هزيلة مبهمة تدرجت فى سلم التطور حتى بلغت وجودها الحالى.

واستطاع الغزو الثقافى أن يقذف مجتمعنا بجملة من هذه الأفكار العليلة وهى أفكار ما تلبث ـ إذا نوقشت ـ أن تنهار
وقد تجددت الحملة على الإيمان فى الآونة الأخيرة فرأينا أن ندفع ما فيها من باطل، تحت العنوان نفسه الذى اختاره المبطلون وهو: * لغز الحياة: ماذا ترى عندما تعبث الأيدى بأوراق اللعب، أو بأزهار النرد؟.
إنها تلقى ما بها أو تستقبل ما أمامها دون أن تدرى عنه شيئا، ثم تتأمله بعد أن يقع لتعرف ماذا يحتوى.

أترى الأطفال وهم يلهون بالألاعيب المهداة إليهم؟ إنهم يرمونها يمنة أو يسرة ويحركونها بضعف أو قوة، دون أن يكون لهم هدف أكثر من حب العبث وطلب المرح.
هذه الحركات التى تلمحها فى الصغار والكبار لا يمكن أن توصف بأنها مقرونة بحكمة أو محكومة بقانون، أو مصوغة فى إطار من سداد الفكر ودقة الغاية، إنها حركات وحسب.
ونحب أن نسأل: هل خلق العالم جاء على هذا الغرار؟ فركمت مواده بعضها فوق بعض دون قصد، وسيرت حركاته علوا وسفلا دون ضبط، كأن الخالق أراد من هذا الصنيع اللهو والتسلية!
والجواب السريع لا، فإن مبدع هذه العوالم قال فى وضوح: (و ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين).
وفى آية أخرى يبين أن كيان هذا العالم تضام وتماسك، أو تحرك وانطلق وفق نظام رائق، وسنن متسق، وغاية مرسومة، ومراحل معلومة.
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون).

ونريد أن نقف وقفة ذكية فاحصة عند كلمة (الحق ) هذه.
فإنها تكررت فى كتاب الله عشرات المرات.
وهى فى شتى مواضعها تعنى أن الحياة لا تسير خبط عشواء، وأن بناء الكون قائم على بصر نافذ وأوضاع اكتنفها من ألفها إلى يائها إعداد حكيم، وتنظيم مضبوط، يستحيل أن يتطرق إليه خلل أو ينتابه عوج.
فكل قطرة فى المحيطات الفسيحة أخذت سمتها والتقت مع سواها وتهيأت لحمل السفن الماخرة، أو صلحت لحياة الأسماك والحيتان، وثارت موجا عاتيا أو حالت جليدا باردا.

كل قطرة فى عالم الماء العميق الوسيع تكونت على هذا النحو وفق قانون عتيد وخطة مرسومة، وصل العلم البشرى إلى جزء منها، وربما وصل إلى أجزاء أخرى مع إدمان النظر والتفكير.

وكل ذرة فى القارات الراسية من أرض مخصبة أو مجدبة تماسكت مع غيرها وصلحت مهادا للناس يستخرجون دفائنها، ويرتفقون ظواهرها، ويجوبون أقطارها، ويعمرون فجاجها كل ذلك ما يتم إلا فى نطاق التخطيط الأزلى الذى وضعه البارئ الأعلى للكائنات كلها.
فهى مطبوعة به منساقة إليه لا تعرف غيره ولا تحيد عنه.
أجل، فالنظام الشامل يسود كل حركة وسكنة تتعرض لها الكائنات جملة وتفصيلا.
وعندما وجه فرعون إلى موسى وأخيه هذا السؤال: (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).

إن هداية كل شىء فى الحياة ليقوم بوظيفته المطبوع عليها، هو ” التقدير ” الذى سير الله به الحياة تسييرا متقنا..!
(سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * و الذي قدر فهدى)
وذلك هو معنى الحق الذى قامت به السموات والأرض.

فلا تحسبن نبتا ينبثق من ترابه كما يحلو له.
إن مقادير الأغذية التى يحملها أو الروائح التى يطلقها عبئت فيه وفق سنن بينة قائمة.
ولا تحسبن نجما يخترق هذا الفضاء متجولا فهو يسرع إذا أحب ويبطئ إذا أحب.
إنه يجرى تبعا لقوانين قيد بها، وقوى حبس فى حدود أذن الله بها، ولم يأذن بغيرها.

وقد وزعت هذه الإيحاءات من بدأ الخليقة توزيعا لا يلحقه اضطراب ولا ترقى إليه فوضى.
وإبرازاً لهذه الحقيقة قال الله جل شأنه: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم).
ذلكم هو الحق الذى انساب فى أوصال العالم كما تنساب الروح فى البدن، والذى تكرر كثيرًا فى سور القرآن الكريم.
(ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون).
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل).
(أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون).

وربما ظن القارئ أن هذا الكلام خيال شاعر سخيف، أو تصور طفل غرير!
لكننا نسارع إلى زيادة دهشته فنقول له…
بل هذا الكلام يوصف بأنه تفكير علمى لدى بعض الناس!.
هذا المنطق الصبيانى هو للأسف محاولة علمية لتفسير لغز الحياة!
وحل مشكلة الوجود!
وبيان أن العالم مادة وحسب، وأنه لا إله.

هذا المنطق يرثد أن ينقل خصائص الألوهية إلى المادة نفسها جاعلا السنن الكونية المنتظمة لها علامة تفكير واختيار لدى الأحياء والجمادات على سواء.
يقول الكاتب: ” اسمعوا.
هذه ليست نكته.
إن الوردة فيها عقل.
وشجرة البلوط لها عقل.
وإن كان عقلا ثخينا مثل جذعها الثخين.

إن حركة زهرة عباد الشمس وهى تلوى عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيرا عن حركة النحلة وهى تطير إلى الحقل لتجمع العسل.
ولا عن حركة الإنسان الواعية العاقلة وهو يطير ليقتحم المخاطر مستهدفا رسالة سامية.
إن الحركات الثلاثة منظومة متصلة الحلقات، الفارق بينها فارق فى الدرجة فقط إن حركة زهرة عباد الشمس فى بساطتها. عقل.
فما هو العقل؟ إنه قدرة تصرف وتكيف بالبيئة.
إنه فى كلمات قليلة بسيطة.
القدرة على اتخاذ موقف انتقائى أكثر ملاءمة للحياة فى كل لحظة، والزهرة حينما تلوى أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفا انتقائيا أكثر ملاءمة لحياتها.

إنها تتحرك عاقلة.
ومعنى هذا أن العقل ليس شيئا جديد  فى الإنسان.
إنه فى الطبيعة الحية كلها.
كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال على بلوغ أهدافه، الإنسان بحكم كونه مخلوقا معقدا يملك يدين فيها عشرة أصابع.
ويملك لسانا ناطقا.
ويملك عينين مبصرتين.
وأذنين حادتين.
وبشرة حساسة
وأنفا شماما.
وكل هذه الأجهزة فى خدمة عقله.

الإنسان حيوان إقطاعى عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة.
وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينها.
وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة.
العقل باطن كامن فى كل الطبيعة الحية.
ومنذ أن انبثت الحياة فى الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة.
وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث والنية التى فى الإنسان: لا جديد فى الإنسان.
وإنما هناك تطور فقط “.

أقرأت هذا الكلام العجيب ووعيت مراميه؟ إن أرضنا هذه لم يصنعها أحد خارج عنها، فإن كل ذرة فيها تؤدى رسالتها وفق عقلها الخاص ورأيها المستقيم!.
فإذا خرجت بعرة من دبر بهيمة، فبرأيها خرجت، وبرغبتها وقعت حيث وقعت!
وإذا تحركت جرثومة بمرض فبعقلها سادت وبمشيئتها أصابت من أصابت.
وهذا الكلام ليس نكتة.
بل هذا هو التفكير العلمى كما استقر فى أذهان بعض الغافلين، وهو الحل الموفق للغز الحياة، كما يتخيل نفر من الحاقدين على الله الكارهين لاسمه المحاولين إطفاء نوره.
والجنون فنون.

****

الله. هو الحق المبين.

إن بعض الناس يتناول الحقائق العليا بعبارات ساخرة، فلا حرج علينا إذا دافعنا قضايا الإيمان بأسلوب يمزج بين الجد والتهكم.
وليعذرنا القراء إذا رأونا نسوق الأمثلة والشواهد جامعة بين هذه الأطراف الـبعيدة
لو قيل لك إن إسكافا فى إحدى حارات القاهرة شارك ـ بعلمه ـ فى إرسال صواريخ الفضاء!
وبعث الأقمار المصنوعة!
فماذا تقول؟.
ستقول يقينا: هذه أضحوكة!
لماذا؟ لأن إطارة هذه الأقمار توفر عليها نفر من العلماء العمالقة أتقنوا من الدراسات الكونية ما يعجز أمثالهم عن مناله.
إن سبعين قنطارا تنطلق فى الفضاء وتعود وفق خطة مرسومة متحدية قوانين الجاذبية وعواصف المجهول عمل هائل، تراصت عقول كبيرة فى إتقان كل أنملة منه.

وليس ثم مجال للقاصرين والجاهلين لتحمل وجودهم بله مشاركتهم، فما للأساكفة وهذا الأفق؟ ولو قيل لك: أنظر هذا القصر الوسيق الأركان السامق البنيان!
إن أحد البغال التى تشد عربات النقل هو الذى شاده!!
إنك ـ بداهة ـ ستثق من أن القائل قد جن.
لماذا؟ لأنك تعلم أن أفكارا نيرة وأيديا قادرة هى التى خططت الشكل، ثم أقامت الأركان، وصاغت الأبواب والنوافذ، ونسجت شبكة الضوء والماء، ووزعت عليه، علوا وسفلا، أنواع الطلاء.

وأنى للبغالى كلها هذه القدرة؟ ولكن العقل الإنسانى الذى يستسخف هذه الفروض، لا يزال يهوى عند بعض الناس حتى يحول هذه الفروض الغبية إلى حقائق محترمة.
إطارة قمر صغير تحتاج إلى ذكاء لامع، وعلم واسع وتقدير دقيق، وبصر عميق.
أما إطارة الألوف المؤلفة من الكواكب الضخمة الرحبة فلا تحتاج إلى شىء من هذه الصفات؟ إن اسكاف أفندى بغبائه هو الذى يطيرها ويديرها!!
بناء بيت محدود يحتاج إلى هندسة وقدرة وفن وابداع، وهذه الصفات لابد أن تكون طبعا فى ذات لا فى فراغ.
أما بناء الكون الكبير الطويل العريض، فلا يحتاج إلى شىء من هذه الصفات.
إن بغل أفندى يستطيع ببهيمته أن يضع الرسم، ويبرز البناء.
إن الإيجاد والتدبير وظائف عالية، لا يمكن أن تتم إلا إذا تصورنا إرادة عليا، وقدرة عليا، وحكمة عليا وعلما أعلى.
وابداعا أعلى.

وهذه الصفات لا تتصور إلا فى ذات المريد القادر الحكيم العليم بديع السموات والأرض ذى الجلال والإكرام.
هذه بداهة لا تحتاج إلى كد الذهن، وإجهاد الفكر، ومع ذلك فإن أحد الكتاب أخذ يتناول لغز الحياة، لماذا؟ ليحل هذا اللغز على أساس أن اسكافا طير القمر الصناعى، وأن بغلا بنى أهرام الجيزة.
وأن شيئا باطنا فى تراب الأرض هو الذى أنبت سنابل القمح، ولف كل حبة فى غلالها، ونسقها صفوفا متراكبة، وأودع بها النشا والزلال والسكر…
الخ.

شىء باطن فى تراب الأرض لا عقل له، ولا إحساس، ولا مشيئة، ولا تدبير هو الذى صنع هذا.
هكذا يريد منا أن نفهم وأن نصدق.
إنها غرائز فى الطين ـ ليس لها مصدر إلا الطين ـ جعلت هذا الطين، ينبثق عن الحدائق الزاهرة والحقول العامرة.!!
فما تلمح على صدور الأغصان من ثمار، وما تشم رائحته من أزهار، وما تقيم به حياتك من عناصر طيبة كمنت فى هذه الحبوب المحصودة والفواكه الجنية، هذا كله، من صنع “العلامة طين أفندى” قام من تلقاء نفسه، فلا ألوهية هنالك، ولا وجود أعلى.
وطين أفندى هذا هو أخو إسكاف أفندى الذى شارك علماء الروس والأمريكان تطيير أقمارهم!!
لا إله والحياة مادة، هكذا يريد أن يعلمنا الكاتب البائس الباحث عن حل للغز الحياة!
اسمعه يقول: ” ما الحياة؟ وما سرها؟ من الذى علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج…؟ “.
إنه طبعا اهتدى إلى ذلك بعقله الخاص!
” من الذى علم الطيور الهجرة عبر البحار والصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن، وإلى حيث تتلاقى وتتوالد؟ ومن الذى يسدد خطاها طول هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل ولا تتوه؟ “.
إنها طبعا عرفت ذلك بعبقريتها الملهمة!
” من الذى علم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرة بعد أخرى، ثم تنزوى فى ركن لتبنى لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالى طويلة مثل أهل الكهف، ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة.
يقول الكاتب الألمعى: هذا الانتقال المنظم الدقيق من نمط فى الخلق إلى نمط آخر.
هذا التطور من دودة إلى حشرة، الذى تتعاون فيه الألوف المؤلفة من الخلايا، يحدث تلقائيا بلا معلم؟ “.
أى ليس هناك ملهم من الخارج تولى هذا الأمر وأشرف عليه، إذن كيف حدث؟ يقول : “إن المعلم هو الفطرة المرشدة المغروسة فى المادة الحية بطريقة لا يعرفها أحد…”.
والطريقة التى لا يعرفها أحد هذه، هى الحل الموفق المحترم للغز الحياة..!!
قل أى شىء فى قطع صلة الموجودات ببارئها الأعلى يكن الكلام علما تقدميا مسموعا.
مهما كان الكلام سخيفا سمجا.
ف عليه، بل لأن النطفة من تلقاء نفسها مشت فى هذا الطريق، وبلغت تمامها كما يتحول الشخص المفلس إلى غنى مكثر بجده واجتهاده..!!

هذا هو منطق العلم، ولا بأس أن نتمشى مع هذا المنطق فى مراحل خلق الإنسان لنستقر على حقيقة واضحة فيه.
يبدأ وجود الإنسان عقيب التقاء الحيوان المنوى بالبويضة السابحة فى رحم الأنثى والحيوان المنوى كائن عجيب فهو مع ضآلته المتناهية يحتوى على خصائص الرجل المادية والمعنوية، وعنه تكون وراثة المشابه فى طول القامة وقصرها مثلا، فى سواد الشعر أو شقرته، فى لون الجلد، فى حدة المزاج والذكاء أو فى ضد ذلك… الخ.
ونسأل: من صنع هذا الكائن العجيب؟ أهو الرجل؟ أنا وأنت خلقنا هذا الحيوان وأودعنا فيه أسرار السلالة البشرية والمواهب الشخصية؟ لا بداهة، فما يذكر أحد منا أنه فعل شيئا من هذا!

أم أن لقمة الخبز التى أفلتت من بين الأسنان أخذت تكافح فى سبيل الترقى فتحولت من تلقاء نفسها إلى دم، ثم إلى منى؟ إنه شىء مضحك أن نتصور هذه اللقمة من الخبز قد رسمت لنفسها خطة كاملة لإيجاد بشر، أو للتحول إلى بشر يمشى على ظهر الأرض.
إذن من الذى خلق هذا الحيوان وجعل فى كيانه الدقيق مشروع بناء إنسان؟ ليس إلا الله !
(أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون).
إن هذا الخالق الكبير يحكم الأسباب ولا تحكمه الأسباب، وهو مستطيع أن يخلق البشر بوسائط أخرى غير ما يعرف فى النشأة الأولى للإنسان الآن.
ولذلك يقول بعد الآيات السابقة: (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشأكم فيما لا تعلمون).
ولنتابع النظر فى أطوار خلق الإنسان بعد النطفة المعلومة، إنه يتدرج فى أعماق الرحم آخذا طريقه إلى التمام.
ترى من يشرف على تكوينه وتصويره، الأب أم الأم؟ إن دور الأب انتهى فماذا تصنع الأم فى تطوير هذا الجنين؟ من الذى يشق الأجفان ليضع العين المبصرة، ومن الذى يصنع الآذان، ويضع فيها حاسة السمع، ومن ومن؟؟؟.. الخ.

إن الجنين فى بطن الأم تحت أمعاء مشحونة بالطعام والفضلات، ووسط أجهزة لا تعى إلا ما سخرت له من وظائف معينة فهل يراد منا أن نتصور الخالق للسمع والبصر والفؤاد هو الجهاز البولى أو الجهاز الدورى؟.

إننا نتصور بغلا يبنى الأهرام، ولا نتصور هذا الذى يفترضه الملحدون حين ينكرون الألوهية فى هذا المجال الناطق باسمها الدال على عظمتها…
إن الخلق يا أولى الألباب وظيفة لها مؤهلات، إن إيجاد شىء من عدم أو من غير عدم يقتضى أوصافا معينة لابد منها، إن تجميع آلات الراديو ووصلها بالتيار لتنطق عمل لا تطيقه دابة من الدواب، ففاقد الشىء لا يعطيه، إنما يستطيع هذا امرؤ له عقل وخبرة.
والذين يتصورون العالم المنسق الرتيب قد كونته مادة لا روح بها ولا وعى، قوم يريدون أن يشيعوا غفلتهم أو تغفيلهم بين الناس وهيهات..!!

قال لى أحد هؤلاء: أتنكر نظرية التطور؟ فقلت له: لنفرض جدلا أن نظرية التطور أضحت حقيقة علمية ثابتة، وليست نظرية يمكن أن يعدل العلماء عنها إلى تفسير أصدق لأصل الأنواع فماذا تفيده تلك النظرية؟ هب الإنسان كان أولا ” أميبا ” ثم ارتقى حتى أصبح كما هو الآن، أفمعنى ذلك أنه لا إله؟ كلا إن الزعم بأن هذا التطور يتم من تلقاء نفسه لأن بالأشياء خصائص تجعلها تتدحرج من فوق إلى تحت أو تتدرج من تحت إلى فوق، هكذا من غير مؤثر خارجى، زعم فارغ من العلم والمنطق!!
إنك تتصور فى تراب الحقول الذى تأنقت فوقه الأزهار والأثمار عبقرية مصورة خلاقة، وأنا لا أتصور فى تراب الحقول شيئا من هذا وأرجع وجود الأزهار والأثمار إلى كائن أعلى هو الجدير بأن يسمى الخالق المصور.
إنك تستقبل الوليد حين ينفتح عنه الرحم، زاعما أن فى جسم الأم المصانع التى نسجت اللحم، وأنشأت العظم، وأوجدت المخ قابلا للذكاء والتفكير.
وأنا لا أرى فى جسم الأم إلا مجالا لعمل المشرف الأعلى.
الذى يقول: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين).
إنك تنظر إلى القصر المشيد فتقول: بناه ما فى البلاط من خصائص.
وما فى الأخشاب من طبائع!

 

بقلم الشيخ العلامة محمد الغزالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى