الإعجاز العلمي في القرآن

محاضرة رائعة للمفكر الكندي المسلم جاري ميلر (2-2)

ظاهرتان

أحد أصدقائي من جامعة تورنتو له مواقف مع أحد الطلبة الذين يحضرون درجة الدكتوراه في علم النفس، وقد اختار ذلك الطالب عنوانا لدراسته هو “فعالية النقاش الجماعي”.

لقد اقترح عدة معايير لتحديد مكونات النقاش الفعال، ووضع رسما بيانيا يوضح العملية، أي إنه حقق معيارا لقياس فعالية أنواع المجموعات أثناء النقاش حسب مرجع مفتاحي لنظامه. وفي رسمه البياني ذلك حدد التقدم المتحقق في مجموعات النقاش ذات الأحجام المختلفة.

أما الأمر المثير الذي اكتشفه ولم يكن يتوقعه في البداية فهو إنه خلال بحثه في النسبة بين مدى التقدم في فعالية المناقشة وبين حجم المجموعة اكتشف أن المجموعات التي تتكون من اثنين تفوق كل المجموعات الأخرى بصورة لا تقارن بمقاييس تلك المجموعات.

عندما سمع صديقي المسلم عن ذلك خطر بباله شيء ليس غريبا حول هذا الموضوع. إن الباحث لم يكن مسلما، وكان يفكر في تغيير عنوان الدراسة، فهل يسميه “ظاهرة الاثنين” أو “الظاهرة الثنائية”.. لقد كان مندهشا لاكتشافه..

في هذه الأثناء تذكر صديقي المسلم آية من القرآن الكريم تتحدث عن النقاش وحجم مجموعات النقاش وفعاليتها. ولن نستغرب عندما نكتشف من تلك الآية أن المجموعات الثنائية هي التي كان لها الفعالية الكبرى في حصول النتائج. والآية تتحدث عن تدارس القرآن والتفكر في أمر الوحي فتقول:

قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد” سبأ 46

الفرق بين استخدام الكلمة وذكرها

أما عن نفسي حين قلت إن كل شخص لديه اهتمامات معينة وتجربة في الحياة، فإن اهتمامي هو الرياضيات والمنطق.

هناك آية في القرآن تقول:

كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير” هود 2

وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد في القرآن كلمات زائدة، أي أن كل آية قد أحكمت ثم فصلت من حيث المعنى، فهي إذن لا يمكن أن تأتي بعبارة أفضل مما هي عليه. فلو استخدمنا كلمات أقل فإنها لن تعطي المعنى كاملا، أما إن استخدمنا كلمات أكثر فإنها ستعطي معلومات زائدة غير مطلوبة.

لقد جلب هذا الأمر اهتمامي إلى موضوع رياضي محدد ذي صلة وثيقة بالمنطق، ولهذا فقد عمدت إلى تفحص القرآن لأكتشف إن كان هناك شيء يخص هذا الموضوع.

لقد حدثت خلال المائة سنة الماضية ثورة في المنطق، وكانت على وجه الخصوص تدور حول استخدام الكلمات وذكرها. فقد بدا البناء المنطقي موشكا على الانهيار قبل مائة سنة تقريبا، حيث ظهر للمهتمين بهذا العلم أن البناء المنطقي لم يكن سليما تماما. والقضية كانت تدور حول “المرجعية الذاتية” والفرق بين استخدام الكلمات وذكرها، وسأحاول توضيح الأمر.

كان قانون أرسطو “الوسط المستثنى” ينص على أن كل عبارة مفيدة إما أن تكون صحيحة أو خاطئة. وقبل حوالي مائة سنة تقريبا أشار أحد المهتمين إلى أن قانون “الوسط المستثنى” إنما هو نفسه عبارة مفيدة، وهو ليس في الحقيقة قانونا، ولهذا فكما أنه يمكن أن يكون صحيحا فهو أيضا قد يكون خاطئا.

لقد كان هذا الأمر عقدة بالنسبة للمنطقيين لم يتمكنوا من فكها حتى استطاعوا أن يفهموا الفرق بين استخدام الكلمات وذكرها.

فعندما نستخدم كلمة فإننا نفكر في معناها، ولكن عندما نذكرها فإننا نفكر في الكلمة نفسها. فلو قلت مثلا: “تورنتو مدينة كبيرة” فإني أعني تورنتو، تلك المدينة الكندية. ولكن عندما أقول: “تورنتو تتكون من ستة أحرف”، فإني أتحدث عن الكلمة نفسها وليس عن المدينة. في الحالة الأولى استخدمت الكلمة وفي الحالة الثانية ذكرت الكلمة.

عيسى وآدم

بربط هذه الأفكار المنطقية حول استخدام الكلمات وذكرها، وتلك الآية التي تقول إن آيات القرآن أحكمت ثم فصلت، تأمل في الآية التالية:

إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم…” آل عمران 59

من الواضح أن لدينا معادلة في هذه الآية. وهي تستمر في إثبات أنهما متماثلان لأن كل منهما أتى تحت ظروف غير طبيعية، ولم يأتيا من أب وأم كما هي الحال في طريقة التكاثر البشري العادية. ولكن أكثر من هذا يمكننا أن نفكر في الجانبين: استخدام الكلمات وذكرها.

إن الكلمتين تعنيان بوضوح عيسى وآدم، الرجلين. ولكن ماذا عن المثلية في ذكر الكلمتين تحديدا؟ فالآية تقول أن “عيسى” مثل “آدم”.. لكن الكلمتين لا تتكونان من نفس الحروف، فكيف تكونان مثل بعضهما في هذا الكتاب؟ كانت الإجابة الوحيدة قد خطرت في بالي سريعا فذهبت أتصفح معجم ألفاظ القرآن الكريم.

لم يتم تأليف معجم لألفاظ القرآن الكريم إلا في العام 1945. وكان ذلك المعجم ثمرة جهد أستاذ وطلبته لسنوات، وكان يحوي كل كلمة وردت في القرآن وموقعها.

عندما نبحث عن كلمة “عيسى” فإننا نجدها في القرآن خمسا وعشرين مرة، وعندما نبحث عن كلمة “آدم” فسنجد أيضا أنها وردت خمسا وعشرين مرة. والخلاصة هي أنهما مثل بعضهما كثيرا في هذا الكتاب.. إنهما حقا طرفا معادلة.

وكلما قال القرآن إن شيئا مثل الآخر فإن هذه القاعدة تكون صحيحة. فلديك مثلا هذه الآية الأخرى:

ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” الأعراف 176

إن المثلية هنا هي بين “الكلب” وبين ” القوم الذين كذبوا”، فكلا الطرفين وردا في القرآن خمس مرات.

بعد عدة أشهر من عثوري على هذا الأمر في القرآن، عرض لي أحد أصدقائي أن في القرآن أيضا ذكرا لبعض الكلمات التي “ليست كمثل” كلمات أخرى.

فورا ذهبنا لمراجعة معجم ألفاظ القرآن الكريم وبحثنا عن المواقع التي ذكر فيها أن أشياء ليست مثل أشياء أخرى، وأحصينا عدد مرات حدوثها، وكانت المفاجأة أنها لا تتساوى في مرات الحدوث. فمثلا الآية:

الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” البقرة 275

ذكر أن البيع ليس مثل الربا، والبيع ذُكر في القرآن سبع مرات، والربا ست مرات. وهكذا بقية الأمثلة. فعندما يذكر أن شيئا ليس كالآخر، فإن الفرق بينهما في العدد دائما هو واحد.

حدوث الكلمات

لقد أخذ بعض النقاد على القرآن تبنيه استخدام السنة القمرية بدلا من السنة الشمسية. ويقول أولئك النقاد أن “كاتب القرآن” لا يعلم عن الاختلاف في طول السنوات، فإذا كانت المدة عندنا إثني عشر شهرا قمريا فإننا نفقد أحد عشر يوما كل سنة.

وبمراجعة النص القرآني نكتشف الدلالات على الفرق بين طول السنة الشمسية وطول السنة القمرية. يقول القرآن:

ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا” الكهف 25

ومعلوم أن ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية.

دعونا نعود إلى موضوعنا الأصلي وهو حدوث الكلمات في النص القرآني. إن كلمة “شهر” في القرآن وردت 12 مرة، وهناك 12 شهرا في السنة. فإذا وجدنا كلمة “شهر” 12 مرة في القرآن فكم نتوقع أن نجد كلمة “يوم”؟ لقد وردت في النص القرآني 365 مرة. وفي الحقيقة أن ما جلب اهتمامي للنظر في حدوث كلمة “شهر” وكلمة “يوم” في النص القرآني هو اهتمامي بالسنة الشمسية والسنة القمرية.

إن من المعروف منذ ألفين وخمسمائة سنة أن المواقع النسبية للشمس والقمر والأرض تتطابق كل تسع عشرة سنة. وهذه الحقيقة اكتشفها إغريقي اسمه ميتون (Meton) ولهذا فإنها سميت “الدورة الميتونية”. ولما كنت أعلم ذلك فقد قررت أن أبحث عن كلمة “سنة” في النص القرآني فوجدت أنها قد وردت تسع عشرة مرة.

التوازن الكامل للكلمات

ما المقصود بالتوازن الكامل للكلمات؟ يمكن لغير المسلم أن يكتشف علم من نزّل القرآن بالفرق بين “استخدام الكلمات” و “ذكر الكلمات”، وهي لفتة منطقية لطيفة، لكن الأكثر من ذلك أنها تشير إلى حفظ هذا الكتاب من التغيير.

بعد أن ألقيت محاضرة عن هذا الموضوع حول القرآن، وتطرقت إلى بعض هذه المفاهيم، سألني أحد الحاضرين قائلا: “كيف نتحقق من أن لدينا النص القرآني الأصلي؟ ربما فقدت أجزاء منه، أو أضيفت أجزاء أخرى.”

كانت الإجابة بسيطة، فقد أشرت إلى أننا تحدثنا عن هذه الموضوع بشكل دقيق. لقد تم التحقق من هذا التوازن الكامل لألفاظ القرآن في هذا الجيل فقط، ولو حصل أن أحدا فقد أجزاء من القرآن أو أخفى أجزاء أو أضاف أخرى من عنده، فلن يكون على علم بهذه الشفرة المخفية في القرآن، أعني التوازن اللفظي، ولكان قد تم إتلاف هذا التوازن تماما.

من الملاحظات اللطيفة أيضا أنه بالإمكان اليوم عمل نموذج مشابه، أي أن نجمع قدرا من الكلمات التي نريد استخدامها ونعيد تنسيقها آليا بحيث تكون متوازنة العدد ثم نبدأ بصياغة المعاني. قد يكون هذا ممكن نظريا، ولكن حتى لو كان للبشر أن يفعلوا مثل هذا الأمر قبل أربعة عشر قرنا، فلماذا يتم بذل الجهد في استخدام هذه الخاصية العجيبة في القرآن وتركها مخفية عن أولئك الذين تلقوا القرآن أول مرة؟ لماذا يتركها “المؤلف” مخفية ليأتي بعد قرون عديدة من يكتشف هذه الأعجوبة؟

وأحسن تفسيرا

لقد أخبرنا القرآن أنه لن يأتي أحد للمسلمين بسؤال إلا ويجد أفضل الإجابات في القرآن..

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا” الفرقان 33

لقد نظرنا مرة أخرى في معجم ألفاظ القرآن الكريم فوجدنا أن كلمة “قالوا” وردت 332 مرة في القرآن، والآن مالذي يمكن أن يقابل هذه الكلمة في النص القرآني؟ إنها كلمة “قل”، وكما تتوقع فقد وجدنا أن عدد مرات ذكرها في القرآن هو 332 مرة.

مصدر القرآن

إن من المثير حقا أن القرآن يردّ كثيرا على منتقديه حول موضوع مصدره. أي أنه لم يأت أحد حتى الآن بادعاء حول مصدر القرآن إلا ويجد الرد في القرآن نفسه.

تحت كلمة (Quran) تشير الموسوعة الكاثوليكية الجديدة (The New Catholic Encyclopedia) إلى وجود نظريات كثيرة عبر القرون حول المصدر الذي أتى منه القرآن. ثم تقول: “لا يوجد شخص مدرك اليوم يستطيع أن يقبل أيا من هذه النظريات”. وهذا طبعا يترك النصراني في موقف لا يخلو من الصعوبة؛ فكل النظريات المطروحة إلى الآن، حسب هذه الموسوعة، غير مقبولة لدى الشخص الواعي المدرك. فكلها إذن نظريات غير واقعية، فمن أين أتى هذا الكتاب إذن؟

إن أولئك الذين لا يتفحصون القرآن يصرفون النظر عنه عادة باعتباره- في رأيهم- مجموعة من الحكم والأمثال والأقوال المأثورة قالها رجل في أوقات متفرقة فسارع من حوله بتدوينها ثم جمعت فصارت كتابا اسمه “القرآن”. أما أولئك الذين يقرأون القرآن بعناية فسيجدونه شيئا آخر. إن مجموع الأقوال التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم هي ما يعرف بالحديث. وهناك فرق واضح بين نصوص الحديث والنص القرآني.

ولهذا السبب فإن من قرأ القرآن من أولئك النقاد المتعجلين قال إنه عمل تأليفي قام به محمد (صلى الله عليه وسلم) ومعاونوه، وهم أناس يفترض أنهم جلسوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقاموا بتأليف القرآن؛ فيعتقدون أن “لجنة” قامت بتأليف القرآن.

إنهم يعترفون بأن هناك معلومات غزيرة تمت صياغتها بأسلوب دقيق بحيث يصعب على رجل واحد أن يقوم بتجميعها. أي أن أعضاء تلك تلك اللجنة كانوا يجتمعون دوريا ويحضرون معهم مصادر المعلومات المختلفة لديهم، ويكتبون شيئا يجمعون عليه ثم يناولونها لذلك الرجل قائلين: “اذهب إلى الناس غدا، فهذا وحيك جاهز!” بمعنى آخر، إنه تلاعب باطل مدبر من مجموعة أشخاص. ولكن مالذي يقوله القرآن عن الباطل؟:

“قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد” سبأ 49

فالآية تقول إن الباطل لا يمكن أن يصير مصدرا لأي شيء! فأي حق جديد لا يمكن أن يأتي من مصدر باطل، والباطل لا يعيد الحقائق إلى أذهاننا. فالحق يتفق مع الحقيقة، وأما الباطل فهو شيء آخر، وهو فارغ بلا محتوى، وإذا كان هناك ما ينتج عن الباطل فلن يكون معلومة جديدة نستفيد منها وهي لن تستمر بالتأكيد، وإنما ستسقط مع مرور الوقت.

التحدي

هناك آية أخرى مثيرة تحوي تحديا لغير المؤمنين:

أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا” النساء 82

وهنا تحدٍّ للكافرين: إذا كنت تعتقد أن لديك تفسيرا لمصدر هذا الكتاب، فتدبر الكتاب جيدا.. وحتما ستجد تناقضا عند استدلالك على المصدر الذي افترضته.

تخيل لو أن طالبا يقدم اختباره النهائي لأحد المواد ثم يكتب ملاحظة في أسفل الورقة لأستاذه: “لن تجد أخطاء في هذه الورقة. فاختباري هذا لا أخطاء فيه!” مالذي تعتقد أن يفعله المدرس عندما يقرأ هذه العبارة؟ طبعا لن يقر له قرار حتى يجد خطأً أو تناقضا في ورقة ذلك الطالب بعد هذا التحدي!

إن هذه الطريقة ليست طريقة بشرية في التحدي، فالبشر لا يتحدون هكذا.. لكننا نجدها هنا في القرآن في تحد سافر يقول: إذا كنت تعتقد أنه من عند غير الله فابحث عن المتناقضات فيه.

إن هناك من النقاد من يحاول ذلك، فيقولون أن القرآن يحوي بعض التناقضات، ولكن إذا استشهد أحدهم بآية من القرآن ليقول أنها خاطئة، فما علينا للتحقق من ذلك إلا أن نختار أحد ثلاثة طرق: إما أن الآية غير كافية لتأسيس ما يدعيه من الخطأ، أو أن الآية تحمل معنى آخر غير الذي ذهب إليه، أو أن الآية لا يمكن أن تعطي لغويا نفس المفهوم الذي ذهب إليه الناقد. ودائما تجد إحدى هذه الطرق الثلاث ناجحة في نفي ذلك الخطأ. فالدليل إما أنه غير كاف أو أنه غامض أو أنه ممتنع.

الادعاء بالشيطان

حدث موقف معي عندما كنت أشرح لأحد الأشخاص، وهو كاهن في أحد الكنائس، بعض محتويات القرآن، ولم يكن الرجل يعرف شيئا عن هذا الكتاب الذي أتحدث عنه. لقد جلس بجانبي والكتاب غير مفتوح، وكنت قد أخبرته عن الكتاب وما يحويه وقلت له إنه ليس “الكتاب المقدس”. فكان استنتاجه من كلامي أن الكتاب “معجزة”. ثم أردف قائلا: “نعم، إن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من عمل البشر، فهو لا بد وأنه من عمل الشيطان لأنه ليس “الكتاب المقدس”!

لقد رد القرآن على هذه الفكرة قائلا:

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ” الشعراء 210-211

والآية كما هو واضح تقول أنه لا ينبغي لهم ذلك، أي أنه لا يناسبهم.. وهو حقا لا يناسبهم، أليس كذلك؟ هل هذا هو الأسلوب الذي يضل به الشيطان الناس؟ أن يقول لا تعبدوا إلا الله؟ وأن يأمر بالصيام، والصلاة، والزكاة؟ فهل هذا هو الأسلوب المناسب للشيطان ليظل البشر؟

قارن هذا الموقف بموقف شبيه آخر، إنه موقف اليهود الذين عرفوا المسيح وحاربوه حتى النهاية. هناك نص في الكتاب المقدس يتحدث عن المسيح عندما أحيا أحد الأموات (بإذن الله) وهو لعازر (Lazarus) الذي كان ميتا لمدة أربعة أيام. ولكن ماذا فعل أولئك اليهود الذين كانوا يشاهدون لعازر وهو يخرج حيا من عالم الأموات؟ هل قالوا فورا بأن المسيح مرسل حقا من الله؟ لا، فإن “الكتاب المقدس” يقول أن هؤلاء اليهود قد اجتمعوا فورا وكانوا يتجادلون قائلين إنه إذا استمر هذا الرجل باستخدام تلك المعجزات فإن الكل سيؤمن به، وإنهم يجب أن يجدوا طريقة لقتله.وعزوا معجزاته إلى الشيطان، وأنه أحيا ذلك الرجل بقدرة الشيطان.

طبعا ستجد أن النصارى يشعرون بالأسى الشديد على أولئك اليهود عند قراءة تلك القصة في “الكتاب المقدس”. أولئك اليهود الذين كان البرهان الساطع يحدث أمام أعينهم ثم يعزونه للشيطان! ألا يظهر لنا أنهم يفعلون الشيء نفسه عندما يعرض عليهم القرآن ولا يجدون من التبريرات إلا أنه “عمل الشيطان”؟ هل من المعقول أن يقول الشيطان للناس كلما قرأتم كتابي استعيذوا بالله مني؟:

فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم” النحل 98

قصة أخرى

إن هناك من يصرون على أن القرآن منقول وأن مصادره يهودية ومسيحية. لقد صدر كتاب بعنوان “عبادة الرب الخطأ” (Worshipping the Wrong God)، وذكر مؤلفه شيئا وكأنه حقيقة، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعد الوحي الأول ماتت زوجته فسارع إلى الزواج بيهودية ونصرانية، ومن هنا يعزو الكاتب مصادر القرآن.

ورغم أن جزءا من الكلام حقيقي، لكن زوجته لم تمت إلا بعد عشر سنين من بداية نزول القرآن، ثم أنه لم يتزوج باليهودية والنصرانية إلا بعد عشر سنين أخرى من موت زوجته تلك، أي بعد عشرين سنة من بدء نزول الوحي وقبل وفاته بثلاثة أعوام فقط.

هل فعلا نقل القرآن من المصادر اليهودية والمسيحية؟ يذكر القرآن حاكم مصر الذي طارد موسى على أن اسمه “فرعون” وليس “فارو”. واليهود والنصارى دائما يسمونه “فارو” (Pharaoh). فلماذا هذا الاختلاف؟ لقد بقي الاسم في القرآن هكذا حتى اليوم رغم ملاحظات اليهود والنصارى المتكررة حول ذلك.

المدهش هو أن الكتابات التاريخية لهيرودوت (Herodotus)، المؤرخ الإغريقي، قد تحدثت عن حاكم مصري في ذلك العصر اسمه “فرعون”.

فهل حقا نقل القرآن من المصادر اليهودية والنصرانية؟ إن القرآن يؤكد على أن المسيح لم يصلب، وأن الصلب لم يكن إلا وهما، وأن اليهود الذين اعتقدوا أنهم صلبوا المسيح واهمون لأن ذلك لم يحدث في الحقيقة. والنصارى بالطبع لا علاقة لهم بذلك. وعلى أية حال، فإن فكرة أن المسيح لم يصلب قديمة جدا ويمكن تتبعها إلى القرن الميلادي الأول، ولكن أولئك النصارى الذين اعتقدوا ذلك تم التخلص منهم باعتبارهم مهرطقين خلال المائتي سنة الأولى من عهد المسيح. زد على ذلك أنه لم تتم الدعوة إلى ذلك في أي جزء من الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنا.

هل كان القرآن ينقل من المصادر المسيحية عندما قال إن المسيح تكلم في المهد؟:

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ” آل عمران 46

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ… الآية” المائدة 110

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا” مريم 29-30

كل هذه التفاصيل تشير إلى أنه ليس هناك نقل من المصادر المسيحية. ولكن عندما يصر المسلم أن هذا الاختلاف في المضمون ينقض فكرة النقل من المصادر المسيحية فإن الشخص المجادل لا يجد بدا من القول ببساطة أننا نحن النصارى نذكر القصة ولكن بأسلوب آخر، وهذه مغالطة واضحة.

تطهير البيت

الآن نتحدث عن كلام الدعاة المصلحين القدماء، الذي يمثل طريقا أخرى تقودنا إلى الإسلام. نجد في المخطوطات الفارسية التي كانت منتشرة لآلاف السنين ما نتوقع أنه من كلام أنبياء سابقين:

عندما يهبط الفرس كثيرا في أخلاقهم، سيولد رجل في جزيرة العرب وسوف يُقلق أتباعه عرش الفرس ودينهم وكل شيء لهم. وسيتم التغلب على أصحاب الأعناق القوية العظيمة. وأما البيت الذي بُني ووضع به الكثير من الأصنام فسيتم تطهيره من تلك الأصنام، وسيصلي الناس صلواتهم متجهين إلى ذلك البيت. وسيفتح أتباع ذلك الرجل فارس وإنتاوس وبلخ وأماكن كبيرة قريبة منها. وسيكون هناك تشويش بين الناس، وسيتبع حكماء فارس وآخرون ذلك الرجل.” (Desature no.14)

إن المسلم يستطيع أن يتعرف على التفاصيل هنا بسهولة بالغة، فالكعبة التي يتجه لها المسلمون في صلواتهم يوميا كانت يوما ما مملوءة بالأصنام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإزالة تلك الأصنام كلها. وبقيت الكعبة (وتسمى في القرآن بـ “البيت”) إلى اليوم خالية من الأصنام. وفي الجيل التالي فُتحت بلاد فارس واعتنق حكماؤها الإسلام.

نبي مثل موسى

في سفر التثنية من “الكتاب المقدس” الأصحاح الثامن عشر نجد كلمات موسى التي تقول أن الله أخبره أنه سيبعث نبيا من بين إخوة الإسرائيليين مثل موسى.

النصارى بالطبع يودون أن يطبقوا هذه النبوءة على المسيح، فيقولون إنه هو النبي الذي يشبه موسى! ولن يروق لهم الأمر عندما تثبت لهم أن المسيح لم يكن شبيها بموسى. فالمسيح لم يكن له أب ولم يكن له زوجة ولم يكن له أبناء، ولم يمت بسبب تقدم العمر ولم يقد أمة من الأمم، بينما كل تلك الأمور كانت لموسى. لكنهم يقولون أن المسيح سيعود منتصرا ولهذا فهو أقرب إلى الشبه بموسى.. فهل يعتقدون أنه أيضا سيعود ليكون له أب وزوجة وأبناء ثم يموت بعد عمر طويل؟ ليس بالتأكيد.

أكثر من ذلك فإن المسيح كان إسرائيليا، في حين أن الفقرة المعنية من “الكتاب المقدس” تقول أن ذلك النبي سيبعث من بين أخوة الإسرائيليين وليس من بين الإسرائيليين. والمعروف هو أن العرب هم أبناء إسماعيل في حين أن الإسرائيليين هم أبناء إسحاق، وإسماعيل وإسحاق هما إبنا إبراهيم عليه السلام.

في الأصحاح الثالث من سفر الأعمال يقول القديس بطرس لجمع من الناس إن المسيح قد رفع وإنه في السماء. ثم يقول إنه سيبقى في السماء ولن يعود حتى تتم كل الأشياء التي وعد الله بها. فما هي الأشياء التي ننتظرها؟ هل أخبر بطرس ذلك الجمع؟ إنه يقتبس قول موسى هكذا:

فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلمكم به.” أعمال 3-22

والمقصود واضح جدا، فالنصارى يودون اعتبار أن هذا النبي هو المسيح نفسه. ولكن عندما تقرأ سفر الأعمال، الأصحاح الثالث، بعناية فإن ما يقوله هو أن المسيح لن يعود حتى تتحقق نبوءته، والنبوءة هي أن ذلك النبي الآخر سيأتي. وحسب “الكتاب المقدس” فالمسيح قال ذلك بنفسه وبقيت تلك الكلمات بكل هذا الوضوح. لقد قال المسيح إن الله سيرسل “بارقليطا” آخر.

البارقليط

إن هناك الكثير من الجدل حول كلمة “بارقليط” (Paraclete). لكننا الآن لن نتحدث عن ذلك الجدل. ماهو الـ “بارقليط”؟ لا يهم.. إن أول رسالة من يوحنا تقول إن المسيح “بارقليطا”.. إذن فالمسيح “بارقليط” وقد وعد بأن “بارقليطا” آخر سيرسل!

إننا نفقد الكثير باستخدام الكلمة الإنجليزية “آخر” (another) لأنها غامضة. لنوضح المقصود بالمثال التالي: لو كسر قلم أحدنا من نوع “باركر” ثم قلت لصاحب القلم: “سأذهب وأحضر لك قلما (آخر)”، فإن معنى قولي ذلك قد يكون: “سأحضر لك قلم باركر آخر لأن قلمك الباركر قد انكسر”، وقد يكون قصدي: “دع عنك قلم الباركر، فهو قلم رديء، سأذهب وأحضر لك قلم شيفر”.. لذا فإن كلمة “آخر” تعتبر كلمة غامضة.

لكن الإغريق لم يكن لديهم هذا الغموض في استخدام كلمة “آخر”.. إنهم يستخدمون كلمة (aloes) عندما يتحدثون عن شيء “آخر” من نفس النوع، وكلمة (heteroes) عندما يتحدثون عن شيء آخر من نوع مختلف. والمهم هنا هو أن المسيح، الذي كان هو نفسه بارقليطا، قال أن “الله سيرسل لكم بارقليطا آخر”، واستخدمت هنا كلمة (aloes) الإغريقية وليس كلمة (heteroes).

والنصارى بالطبع يريدون أن يقولوا أن هذا “البارقليط” الآخر الذي أرسل كان مختلفا عن المسيح. أي أنه لم يكن رجلا، بل كان روحا.. في حين أن المسيح قال إن “الله سيرسل لكم واحدا آخر مثلي، رجلا آخر“. والمسلمون يرون أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو تحقيق هذه النبوءة من المسيح. والقرآن يقول أن محمدا صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة والإنجيل.

أتباع المسيح

لنفترض أن أحدا رأى المسيح عليه السلام قبل ألفي عام، ثم غادر هذا الكوكب! ولنفترض جدلا أنه نام خلال الألفي عام ثم عاد اليوم ليبحث عن أتباع المسيح، فمن سيجد؟ ومن الذين ستعرف عليهم ويعتبرهم أتباع المسيح؟ هل هم النصارى؟

قبل أن نستنتج دعونا نرى ماذا يقول “الكتاب المقدس” عن المسيح. لقد قال بوضوح إنه كان يصوم، فهل النصارى اليوم يصومون؟ بالطبع لا، وإنما المسملون هم الذين يصومون، والصوم مفروض عليهم شهرا في السنة.

ثم إن “الكتاب المقدس” ذكر أيضا أن المسيح كان عندما يصلي فإنه يضع جبهته على الأرض، فهل النصارى يصلون هكذا؟ كلا، وإنما المسلمون هم الذين يفعلون ذلك، وهذه سمة من سمات صلاتهم، ولا أحد من أهل الأرض يجهل هذه الحقيقة.

كذلك فإن المسيح أوصى حوارييه عندما يلقون التحية بعضهم على بعض أن يقولو “السلام عليكم”، فهل يفعل ذلك النصارى اليوم؟ نادرا. أما المسلمون فهذه تحيتهم دوما سواء كانوا يتحدثون العربية أم لا.

أضف إلى ذلك أن كتاب يعقوب (James) في “الكتاب المقدس” ينص على التوجيه عند الحديث عن أفعال المستقبل أن يقول المتحدث “إن شاء الله”. فهل هذا من فعل النصارى أم المسلمين؟ إن تعبير “إن شاء الله” من أكثر التعبيرات استخداما عند المسلمين سواء كانوا عربا أو عجما، فهم لا يتحدثون عن أمر مستقبلي عادة إلا بعد ربطه بالمشيئة.

سيجد هذا الباحث عن أتباع المسيح أنهم هم المسلمون!

ترجمة: رشود التميمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى