حقيقة الإسلام

مدلول الإسلام


الشيخ محمد الغزالي

إن الإيمان المجرد ينبت شعورا بالخضوع لله.
خضوعا تمتزج فيه الرغبة والرهبة.
وليس فى هذا عجب.
فإن الذى يعرف عظيما من البشر يحس نحوه بالإعزاز والانقياد.
فكيف بمن عرف الله وفقه صفاته العظمى وأسماءه الحسنى؟ إن الخضوع المطلق يفعم فؤاده، ويجعل مبدأ السمع والطاعة أساس صلته به.
وأيا ما كان الأمر فإن الدين ليس معرفة التمرد وشق عصا الطاعة، هو التسليم التام لله، والإنفاذ الكامل لما حكم به.
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
وكلمة الإسلام فى مدلولها اللغوى، وفى مصطلحها الشرعى تعنى هذا ، إنها لا تعنى الخضوع الجزئى، أو الخضوع المشروط، أو الخضوع الكاره ، إنها خضوع لله، ينقل الإيمان المستكن فى القلب إلى عمل تصطبغ به الجوارح ، ويترجم اليقين الخفى إلى طاعة بارزة فى الحياة الخاصة والعامة.
وهذا الذى نقول يظهر فى أركان الإسلام التى ذكرها الحديث المشهور، كمأ يظهر فى سائر شرائعه المبينة فى الكتاب والسنة.

معنى الشهادتين:

وأول شرائع الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وهذه الكلمة العظيمة تعنى شيئا فوق الإخبار المعتاد، إنك حين تذهب إلى ساحة القضاء فتذكر ما تعرف فى قضية معروضة لا تقصد مجرد الإخبار.
إنك بما تقول تحق حقا كاد الباطل يغلبه، وتخذل باطلا كاد يروج وينتصر، إن الإخبار المجرد قد يكون قصصا مسليا، وقد يكون حكما جادا.
وشهادة التوحيد حين ترسلها فى ساحة الحياة فأنت بهذه الشهادة لا تطلق خبرا هو بعض ما يتداوله الناس من كلام أو يتناقلونه من حديث.
إنها شهادة تعنى إحقاق حق وإبطال باطل.
إنها شهادة تعنى أنك قررت المضى فى الحياة وفق خطة تنابذ الشركاء العداء وتقر لله بالوحدة.
إنك بهذه الكلمة أبديت وجهة نظرك فى قضايا كثيرة تشغل الناس ليلا ونهارا.
إن الناس فى الواقع يخضعون لآلهة شتى. ويطوفون حول كعبة تحفها أصنام المال والجاه والسلطة. وكم فى الدنيا من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم. وذلك عدا من ساء فهمهم فى الألوهية ، ومن أنكروها بتة…
فى هذه الظروف العصيبة يكون معنى أشهد أن لا إله إلا الله أنك فى ساحة الحياة تدفع بعملك باطلهم وتجابه بحقك ضلالهم ، وتعلن أنك مستمسك بعرى هذا الحق، وأنك لا تخفيه فى سريرتك بل تشهد به ليظهر بين الملأ ويعرف ويتقرر.
إن الشهادة ليست فقط دلالة إيمان. بل هى معالنة برأى ، وبداية لسلوك إنها شهادة تنتقل من ساحة القضاء إلى ساحة الحياة لتكون شارة مذهب معين ، وصبغة نفس عرفت الله وقررت أن تسير باسمه فى كل درب!
والشهادة بأن محمدا رسول الله لم تذكر فى الحديث اكتفاء بالشطر الأول. فإن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بأنبيائه واحدا واحدا. فمن آمن برجل منهم وكفر بالآخر فهو بهم جميعا كافر، وهو بالله كذلك كافر، لا فرق بين موسى وعيسى ومحمد وسائر المرسلين. فالله عز وجل أبر بأنبيائه من أن يدعهم لعبث العابثين وتفريط المفرطين، سيما وهم لم يعيشوا على ظهر الأرض لأنفسهم، بل عاشوا لربهم يذكرون به، ويدفعون الجماهير إليه، فكيف يبعدهم الله عنه بعد ذلك؟ لقد قال: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا)
والشهادة بأن محمدا رسول الله شهادة لجميع المرسلين على اختلاف العصور بأنهم حق، وأن اتباعهم واجب. ذلك، لأن محمدا جاء مصدقا لجميع من سبقوه من النبيين، ومجددا لتعاليمهم، ومنصفا لهم من الأتباع الغالين والجائرين، ورافعا لذكرهم فى الآخرين كما ارتفع فى الأولين.
ومعنى أشهد أن محمدا رسول الله: أتعهد بأن أتخذ من حياته الأسوة الحسنة وأن أستمسك بالسنة التى رسمها، وأستظل باللواء الذى نصبه.
ولك أن تسأل: من أين هذا التعهد؟ والجواب: أن سر العظمة فى حياة محمد يرجع إلى أنه إنسان كامل، بلغ ذروة الارتقاء البشرى عن طريق العبودية الصحيحة لله.
فهو لم يزعم يوما أن الله حل فيه، أو أن بينه وبين الله نسبا يخلع عنه وصفا من أوصاف البشرية المعتادة، كلا، إنه واحد من الناس تخيرته العناية العليا ليبلغ عن الله، وليكون رائدا يتقدم صفوف التائبين إلى ربهم.
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)
(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)
كان رجلا سوي المشاعر قوي العضلات لم تضن بدنه عاهة أو علة ، تصله هذه العافية بأقطار الحياة الصحيحة دون عقد نفسية. وكان زوجا وأبا وتاجرا وفارسا، وكان يتعرض للغنى والفقر، والنصر والهزيمة، والحزن والسرور، والرضا والغضب.
ومع هذه البشرية التى يشركه فيها سائر الخلق فقد انتظم سره وعلنه فى خشوع وجهاد وتفان فى ذات الله، جعله يتحدث عن نفسه صادقا مصدوقا فيقول: ” أنا أتقاكم وأعلمكم بالله “ من هنا تجىء الأسوة. من بشر مثلنا أحرز الكمال الإنسانى على عنت الظروف وقوة البيئة يتعلم الناس ويتعظون، وفى هذا يقول الكتاب العزيز: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا).
أجل، لأن سكان الأرض بشر تعمل فى كيانهم غرائز البدن ورغائب النفس، ويتعرضون فى حياتهم لمشاعر الضيق والفرج، والشدة والرخاء، والكدح والراحة، والتجمع والشتات.. إلخ، ناسب أن يجيئهم نبى منهم يتعرض لمثل ما يتعرضون، ويواجه ما يعرض له بأحسن تصرف وأشرف سلوك.
من هنا تكون الأسوة، من خطوات هذا الرسول الإنساني فى مرضاة الله والوقوف فى ساحته وابتغاء وجهه تكون السنة التى يجب أن تتبع ” فمن رغب عن سنتى فليس منى”.
وكلمة التوحيد تقتعد مكان القيادة فى حياة الرجل المسلم والمجتمع المسلم، وعليها المدار فى فنون الطاعات التى حفل بها الإسلام. ولما كان الإسلام هو الخضوع التام لله فربما يظن لأول وهلة أن المسلم لا ينبغى أن يرتكب مخالفة، ولا أن يقع فى معصية ، إذا العصيان ينافى الخضوع.

الخطيئة فى حياة البشر:

وهذا المعنى يحتاج إلى إيضاح ينفي التناقض بين منطق الخضوع الواجب لله، وما تنزلق إليه طباع الأناسي من أخطاء وخطايا… هناك أغلاط تقع دون أن تتجه إليها الإرادة اتجاها بينا، بل تكاد تقع دون إرادة.
خذ مثلا عمل الطباع فى جمع الحروف والكلمات، إن الكتاب لا يتم طبعه إلا بعد أن تمر كل صفحة بعدة تجارب، ترى الأخطاء فى التجربة الأولى كثيرة، ثم تقل أو تنعدم فيما بعدها من تجارب.
إن العامل يود من أول مرة أن يكون جهده سليما من كل عيب، وهو بإرادته وبصره وأصابعه يجمع الحروف والكلمات على أساس تحري الصواب، ومع ذلك يقع فى الخطأ برغمه، لأن قصور قواه يغلبه.
خذ مثلا عمل الخياط ، إنك تذهب إليه بالقماش ليصنع لك بدلة ملائمة، وهو يجتهد أن يفصل أجزاء الثوب على بدنك بحيث يصنع منه حلة وسيمة، ومع ذلك فقد يقع من الطول والقصر والسعة والضيق ما يجعله يعيد التجربة على بدنك مرة حتى يصل إلى ما يبغى.
إن هذه الأخطاء أثر العجز البشرى فى بلوغ الكمال من أول سعي والخطأ هنا يتولد من تلقاء نفسه تقريبا، لا أثر فيه لرغبة أو تعمد.
والواقع أن المسلم لا يطيق عصيان الله، ولا يرضى به، ولا يبقى عليه إن وقع فيه؟ بل إن ما يعقب المعصية فى نفسه من غضاضة وندامة يجعل عروضها له شبه مصيبة، فهى تجىء غالبا، غفلة عقل، أو كلال عزم أو مباغتة شهوة وهو فى توقيره لله، وحرصه على طاعته يرى ما حدث منه منكرا يجب استئصاله. إنه كالفلاح الذى يزرع الأرض فيرى ” الدنيبة ” ظهرت فيه، فهو يجتهد فى تنقية حقله قدر الاستطاعة من هذا الدخل الكريه.
ولو بقى المسلم طول حياته ينقى عمله من هذه الأخطاء التى تهاجمه، أو من هذه الخطايا الذى يقع فيها، ما خلعه ذلك من ربقة الإسلام، ولا حرمه من غفران الله.
ولعل ذلك هو المقصود من الحديث القدسى. “يا ابن آدم إنك ما دعوتنى، ورجوتنى، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك، ولا أبالى. يا ابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة “.
وبعض السفهاء يأتى لهذا الحديث وأشباهه فيظنه إذنا عاما بالعصيان. وهذا الظن من انطماس البصائر، وأهله أبعد الناس عن المغفرة.
إن المعصية شىء خطير، واتجاه الإرادة إليها زلزال يصيب الإيمان، أو ضباب يغطي معرفة المسلم لربه ، يصحب هذا العمى انفلات من قيد الخضوع ومن مبدأ السمع والطاعة ، من أجل ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ” .
وهذا الانتقاء المؤقت للإيمان، أو لأثره ـ وهو طاعة الله وتقواه له عواقبه المخوفة، ترى أيعود كاملا أو يعود مثلوما؟  فإذا استمرأ العاصى المرعى فهل لهذا الإيمان المنفى من عودة؟ مع أنه مطارد باستدامة العصيان!.
ونحن ـ بطول التأمل واستقراء التجارب ـ لا نستطيع فك المعصية عن الحالات النفسية المصاحبة لها، وعن الظروف الخارجية الواقعة فيها.
فى هذه الأحوال والظروف فيصل التفرقة بين ألوان الخروج على الدين، فهناك اللمم المرتجى له العفو، وهناك الإهمال الذى يستحق اللوم، وهناك التفريط أو الانحلال اللذان يستوجبان العقوبة ، وهناك أخيرا المروق الذى يحكم على صاحبه بالارتداد، والتفصى عن ربقة الإسلام.
فشرب الخمر مثلا جريمة، ولها حد تواضع المسلمون على إقامته ، وربما رأيت بعض واهنى العزيمة من المدمنين الذين ألفوا الخمر فى جاهليتهم لا يحسنون اجتنابها فيقعون فيها على خزي! وكان الحد قديما يقام على أحدهم فيتحمله راضيا!! مثل هذا المجرم لا نستطيع عده مرتدا عن الإسلام إنه مسلم مخطئ وحسب!.
ولكن هناك من يفتتح معصرة لتقطير الخمور، أو حانة لبيعها، وهو يعلن عن بضائعه؟ ويغري بتناولها؟ ويجتهد فى ترويجها هنا وهناك؟ ويقيم حياته على مكاسبه من هذا الاتجار الخبيث. هذا الصنف لا يمكننا بأية حال عده مسلما؟ لقد كفر بلا ريب؟ وأنبتّ رباطه بالإسلام! لماذا؟ لأن السكير الأول رجل وهت إرادته فى الخير؟ أما السكير الثانى فهو رجل قويت إرادته فى الشر ، فالبون بينهما بعيد؟ بعد الخضوع المضطرب عن التمرد العاتى.
ونية الخضوع لا تخرج صاحبها عن معنى الإسلام، أما نية التمرد؟ والإصرار على رفض الطاعة فلا يمكن بتة أن تسمى إسلاما، بل إن ذلك عادة يصحبه استباحة الحرام وجحد الواجب وهما كفر باتفاق المسلمين.
وفى أمثال هؤلاء المصرين المتمردين تساق آيات التخليد فى العذاب التى تهددت بعض العصاة: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا).
وهناك مثلا آخر: إن القاضى قد يميل عن الحق لشفاعة بعض ذوي الجاه وقد يميل عن الحق لهوى غلب عليه وجعله يحابى أحد الخصوم.
هذه معصية بلا ريب تستحق الويل والثبور؟ وهى حكم بغير ما أنزل الله يعرض صاحبه لأشد العذاب؟ ولكن هل ذلك كفر بالله وارتداد عن الملة؟ أو بتعبير آخر هل يسوى هذا الآثم بصنف آخر من الناس يرى الحكم بما أنزل الله بقية من مخلفات الماضى التى لا تستحق البقاء، ويستبدل بها قانونا آخر يبيح ما حرم الله ويقترح عقوبات أفضل فى نظره مما شرعت السماء من حدود وقصاص؟!
ويدرس ذلك ويدعو إليه ويوسع دائرته جهد الطاقة!!
إن العاصي الأول شخص طاش به نفع عاجل، أو غلبته شهوة جارفة فحادت به عن طريق الواجب الذى يعرفه ويعترف به ، أما الآخر فهو يدع أمر الله رغبة عنه واتهاما له، ويرى أن يتقدم بين يدى الله ورسوله بأحسن مما أوحى الله وبلغ الرسول، هذا إن كان فى نفسه إقرار بأن النبوة حق؟ وأن الله قائم بين عباده بالقسط. إن الفارق بعيد جدا بين معصية تتم فى الظلام؟ ومعصية تقع فى وضح النهار ، بين معصية يكون العقل فيها غافيا، ومعصية تتم مع يقظة الفكر وإعمال الرأى. بين معصية تمشى فى الأرض على استحياء ومعصية تتبجح كأنها فضيلة.
إن عزيمة تتعثر فى طريق الخير غير عزيمة استحكمت فى طريق الشر. ويستحيل أن ينسب إلى الإسلام فرد أو مجتمع من ذلك النوع الفاجر بعصيانه، السافر باعتداء على حدود الله، وإطراح فرائضه، واستبقاء محارمه.
إن الدين ـ كما أوضحنا ـ إيمان بأن الله حق، وإقرار بأن شرائعه واجبة النفاذ، والسجود لها بالقلب والجوارح. فمن استعلن بمسلك مضاد لما أمر الله به ونهى عنه، واجتهد كى يرسى قواعد الشر مشاقا لله ورسوله فهو فاسق كفور، ومن البلاهة وصفه بالإيمان.
(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون).
والضابط الذى يطرد حكمه فى كل شىء، والذى لا نقلق فى السير معه هو أنه حيث يرى أثر الخضوع لله، والانقياد لأمره فالإسلام موجود ، وإلا فلا إسلام. أجل لا إسلام حيث تجحد الفرائض، وتموت الشرائع، ويسود الهوى ويضيع هدى السماء.

دائرة الخضوع لله:

وقد شرع الله جملة فرائض تعد ـ مع شهادة التوحيد ـ أركان الإسلام. والحكمة من إقامة هذه الأركان تدريب الناس على طاعة الله وإحسان الخضوع له والبعد عن الرذائل التى زجر عنها.
ولهذه الأركان آثار نفسية واجتماعية بعيدة المدى لا مجال هنا لشرحها ، وإنما الذى نسارع بتوضيحه أن من أداها ولم يستفد منها الخضوع الواجب لله فى كل شىء، فكأنه ما أدى شيئا، مهما استكثر من هذا الأداء.
ما قيمة صلاة أو صيام لا يعلمان الإنسان نظافة الضمير والجوارح؟ عن ثوبان ـ خادم رسول الله ـ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: “لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال ـ أمثال جبال تهامة ـ بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا ، قال ثوبان يا رسول الله، صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم ، قال: أما هم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ” .
هؤلاء ـ كما ترى ـ يؤدون الأركان الظاهرة، غير أنهم لا يستفيدون منها الخشوع المطلوب، ولا تخلق فيهم الضمير الصاحى المراقب لله فى السر والعلن، ولا تكون فى نفوسهم روح الخضوع المطلق تجاه كل ما نهى الله عنه، وما أمر به ، لهذا لم تحسب لهم مع أنها تبلغ الجبال!.
وما نحب أن نرسل كلاما يغض ظاهره من شأن العبادات المفروضة من صلاة وصيام، فإن هذه العبادات حركة حقيقية فى صقل الإنسان وترويضه على الخضوع لله فى سلوكه كله، ولكننا نلفت الأنظار إلى الفروق الطبيعية بين الحركات الحقيقية والحركات التمثيلية!
إذا قلت: إنك بنيت دارا فى فضاء ما من الأرض، فلكي تكون صادقا يجب أن يرى الراءون هذه الدار رأي العين، وإذا قلت إنك غسلت هذا الثوب من أوساخه فيجب لتكون صادقا أن ينشر هذا الثوب على الملأ، فلا يبين به أثر قذر.
وأركان الإسلام عمل حقيقى لبناء النفوس على الخير، وصياغتها على نحو مترفع يتنزه عن الدنايا ويبتعد عن الرذائل.
وقول الله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر).
خبر حق.
فإذا رأيت مصليا لا ينتهى عنها، فالسبب لا يعود إلى ريبة فى الخبر الإلهى، بل السبب أن الرجل يمثل حركات صلاة وليس مصليا حقيقيا.
وقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ” خبر حق.
ومعناه أن الصيام يعفى على آثار الماضى السيئ، ويمسح أكداره عن مرآة القلب فتعود مجلوة نقية ثم يستأنف الصائم بعد خلاصه من أدران ماضيه حياة تكاد تلحقه بالملأ الأعلى…
فإذا رأيت صائما معتكر النفس غائم الصفحة، فاعلم أنه ممثل فحسب يتشبه بالصوام فى ترك الأكل حينا، ليغرق فيه بعد.
إن العبادات التى تكون أركان الإسلام، أو التى تصور جمهرة شرائعه رياضة جليلة الآثار فى تربية الأخلاق وتقويم الطباع.
وهذا بعض ما ينشأ عنها.
أما الأساس الأول لشرعها فهو أداء حق الله، والقيام بوظيفة العبودية واعتراف البشر بأن الله الذى خلقهم ورزقهم يجب أن يعبد ويشكر.
إن أغلب الناس فى هذا العصر المادى يحسبون الحياة لا تعدو الخمسين أو الستين سنة التى يقضونها على ظهر هذه الأرض يقضونها وهم فى عماية من أمرهم لا يدرون من أين جاءوا ولا إلى أين يصيرون، يقضونها وهم يصطرخون فى طلب القوت ورفع مستوى المعيشة، ظانين أن رسالة البشرية محبوسة داخل هذه الحدود وحسب.
والذين يعرفون الله لا ينظرون إلى الحياة هذه النظرة الصغيرة.
إنهم يرونها قنطرة لحياة أخرى عنده ويبنون سلوكهم فى هذه الحياة الأولى على تحرى رضاه، وإقامة هداه.
وهم لذلك يعدون ” العبادة ” شيئا يقصد لذاته، ويوثقون صلتهم بالله لأن الله أول من ينبغى توثيق الصلة به، إجلالا لألوهيته، وإقرارا بفضله، وابتغاءً لثوابه، واتقاء لعقابه…
إن شهادة التوحيد وهى الركن الأول فى الإسلام إسهام من البشر فى إعلان تنزيه الله، هذا الإعلان الذى تتجاوب به مواد الكون علوا وسفلا (و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم).
واسم الله أحق اسم بالهتاف والتقديس والدعاء والتمجيد.
فماذا زمت الشفاه دون النطق بهذه الشهادة الواجبة، وإذا صرف الناس عن الاعتراف بهذه العظمة السائدة، فأين يذهبون؟ وكيف يعيشون؟ (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا و كرها و إليه يرجعون).
إننا نطلب من الناس أن يهتموا بهذه الوظيفة التى خلقوا لها، وظيفة عبادة الله واستشعار نعمائه والاستعداد للقائه، والفزع إلى طوله، ومد اليد إلى عطائه.
ولن يبارك للعالم فى يومه وغده إلا إذا استقام على هذا المنهج..
والله جل وعز لن يمنع الناس فضله ما بقيت أكفهم ممدودة إليه، فإن أبو إلا النسيان فيسصرعهم القلق والعنت ولن يضروه شيئا، إنهم أحوج ما يكونون إليه وهو غنى عنهم أبدا.
عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال: يقول الله عز وجل: “يا بنى آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفرونى أغفر لكم.
وكلكم فقير إلا من أغنيت فاسألونى أعطكم.
وكلكم ضال إلا من هديت فاسألونى الهدى أهدكم.
ومن استغفرنى ـ وهو يعلم أنى ذو قدرة على أن أغفر له ـ غفرت له ولا أبالى.
ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطانى مثل جناح بعوضة.
ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا فى سلطانى مثل جناح بعوضة.
ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألونى حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألونى ما نقص ذلك مما عندى كمغرز أبرة لو غمسها أحدكم فى البحر.
وذلك أنى جواد واجد ماجد، عطائى كلام وعذابى كلام.
إنما أمرى لشىء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون ” .

***

وأركان الإسلام لم تشرع لشخص واحد يقيمها إذا شاء ويهملها إذا شاء.
بل شرعت لأمة من الناس تحيا عليها، وتتواصى بنصرتها، وتستبطن الولاء لها، وتغرس فى أرجاء الجماعة شاراتها وشعائرها، ويتوارث الأخلاف ذلك كله عن الأسلاف.
خذ مثلا الصلاة ـ وهى فى لبابها مناجاة عبد لربه ـ إن الإسلام لم يشرعها عملا فرديا، بل نظاما جماعيا تتراص الصفوف له وتشرف الدولة عليه!!
نعم فالتعبير المختار فى الكتاب والسنة لأداء الصلاة هو إقامة الصلاة.
ولم يقل: صلوا، أو إئتوا الصلاة، أو افعلوا الصلاة، بل أقيموا الصلاة!
وفى تفسير قوله تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)
قال العلماء: يؤدونها فى جماعة!
لماذا؟ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة “.
والواقع أن التجمع للصلاة جزء من إقامتها، والإقامة الكاملة تكون بتنظيم الإقبال عليها، وإشعار البيئة كلها بالمبادرة إليها، والمحافظة على أوقاتها، واحترام ركوعها وسجودها وقراءاتها وتسابيحها واستحياء معانيها بعد انقضائها.
(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا).
إن الدين ينشد أن يكون الخضوع لله ظاهرة اجتماعية عامة لا مسلكا فرديا خاصا.
وإقامة الصلاة من أبرز الأعمال لدعم هذه الغاية ودوام تحققها، وفى سبيل ذلك أعدت المساجد لاستقبال النساء والأولاد والرجال كى ينتظموا صفوفا وراء إمام يتلو القرآن ويكبر الرحمن.
وقبل كل صلاة يشق صوت المؤذن حجاب الصمت السائد، أو يعلو صخب الحياة المعتادة مهيبا بالناس أن يدعوا ما يباشرون من أعمال ويستعدوا للمثول بين يدى الله.
إن هذا الأذان العالى المتكرر المتصل مع اختلاف الليل والنهار، شعار أى شعار لكل مجتمع مسلم.
وعند اندلاع فتنة الردة أيام الخليفة الأول، كانت الوصاة للمجاهدين أن يتسمعوا الأذان فى أوقات الصلاة، فإذا حملت إليهم الريح أصداء التكبير عرفوا أنهم بإزاء جماعة مؤمنة، وإذا استمر الصمت، ولم يرتفع النداء بذكر الله، عرفوا أنهم أمام قوم مرتدين، فاستعدوا للقتال…
وإنى لأعجب أشد العجب لأقوام يضيقون اليوم بإذاعة أذان الفجر من مكبرات الصوت.
لقد جاءنى ـ وأنا مدير للمساجد ـ من يعلنون تأذيهم لذلك، محتجين بإزعاج المرضى أو التعكير على الهاجعين، لا أغمض اللهم لهم جفنا.
وترددت شكايات هؤلاء على ألسنة صحافيين ما يعرف أحدهم الفرق بين طهارة وجنابة، وصدرت الأوامر ألا يذاع من مكبرات الصوت أذان الفجر كى تبقى القاهرة نائمة لا يعكر صفوها ذكر الله!!
إن هذا بلا ريب أثر الجاهلية التى حملها الغرب إلينا، ولقن ألوفا مولفة من الناس تعاليمها…
والإسلام شىء غير هذا، إنه يضفى على أرجاء أمته روح الخضوع لله ويجعل من رسالتها الإنسانية الكبرى ـ إذا مكنت فى الأرض ـ أن تشرب الجماهير عاطفة الحب للمسجد وإلف النداء المنبعث منه.
(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور).
أى إن من عمل الحكومة الإسلامية أن تحافظ على الأمن مثلا برجال الشرطة، وأن تحافظ على الإيمان بإقامة الصلاة، وأن ترفع المستوى الاقتصادى بشتى المشروعات والجهود، وأن ترفع المستوى الروحى مع ذلك، وقبله، وبعده، بمختلف وسائل الإعلام التى تملكها.
ولا يحسبن غافل أن الإسلام يتوسل بالحكم لإكراه مخالفيه على الدخول فيه وإقامة شعائره، كلا، فليس فى ديننا إكراه.
لقد قال العلماء: إن الزوج المسلم يرسل زوجته إلى الكنيسة يوم الأحد إذا كانت نصرانية، فلها دينها وله دينه!!
إنما المراد أن تقوم الدولة فى الإسلام بواجبها فى رعاية حقوق الله، كما فصلها الكتاب والسنة بوصفها ممثلة لجمهور المسلمين، وحارسة على مثلهم الأعلى.
إن شرائع الإسلام كثيرة، والأركان الخمسة المذكورة هنا هى بعض الإسلام لا كله.
والمهم أن الإسلام خضوع تام لكل صغيرة وكبيرة جاء بها الوحى.
ولن يتم إسلام المرء إلا إذا قال من أعماق قلبه بإزاء كل ما أوصى الله به (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى