يؤكد ” جيفري لانغ ” باستمرار وإلحاح على أن للقرآن سيطرة وهيمنة على القلوب والعقول ، منوهاً بأن هذا الأمر يلاحظه حتى غير المسلمين ، وفي إحدى المرات استدل على ذلك بما ذكره المستشرق البريطاني المعروف آرثر . آربيري في مفتتح ترجمته للقرآن الكريم حين ذكر أنه وجد في القرآن عوناً له في بعض الأوقات الصعبة التي مر بها في حياته قائلاً :
” إنه حينما يستمع إلى القرآن يُتلى بالعربية فكأنما يستمع إلى نبضات قلبه “ حتى الملائكة تسأل ص 206
أهم سؤال على الإطلاق !
ولا يزال البروفسور ” جيفري” يحكي للقراء قصة إسلامه ورحلته مع القرآن التي استمرت لأسابيع يدرس فيها ويحلل ويبحث بمنهجية منظمة عن أسئلة الوجود التي أقلقته ، ولقد كان سؤال :
ما غاية الإنسان في الحياة ؟ أوهل للحياة معنى ؟ هو جوهر صراعه طوال حياته قبل أن يطمئن قلبه إلى الدخول في الإسلام ، بل قال مرة أنه كتب كتبه لغرض أن ينتفع أولاده بها : ( آملاً أن يعينهم صراعي في البحث عن معنى الحياة ) حتى الملائكة تسأل ص 19 .
وقال : ( إن السؤال عن غاية الحياة هو أمر جوهري… إن الطبيعة الإنسانية تشتمل على روحانية لايمكن تجاهلها ، بل هي حاجة غريزية تدفعنا كي يرى كل منا حياته على أنها ذات معنى ، ويردد ” فيكتور فرانكل “ مقولة مفادها أنه إذا ما استطاع أحد ما أن يمد الإنسان بإجابة قاطعة بـ ” لماذا” نحيا ؟ فإننا لا محالة سوف نجد ” كيف” نحيا ؟ ، ولكنها لا يمكن أن تكون أية ” لماذا ” ، بل لابد أن تكون ملزمة عقلياً وفكرياً وروحياً ) حتى الملائكة تسأل ص 22 – 23
إيجابية الابتلاء وديناميكيته !
ويحاول البروفسور أن يجد الجواب ، ولندعه يتحدث عن تجربته في ذلك ، يقول :
إن القاسم المشترك بين المؤمن والملحد هو ردود أفعالهما حيال المعاناة الإنسانية ، فالأول قد يعد ذلك أمراً مستحقاً أو سراً لا سبيل إلى فهمه ، في حين ينظر إليه الثاني على أنه أمر غير ضروري ولا يمكن تسويغه ، ولكن القرآن لا يؤيد أياً من وجهتي النظر هاتين . فالبلاء والمحنة يُعتقد أنهما حتميان وضروريان للتطور الإنساني ، ولا بد للمؤمن والملحد أن يمرا بهذه التجربة ، إن الإنسان لا يترقى من خلال معاناة الصبر فقط ، ولكن أيضاً من خلال المجاهدة والكفاح ضد مشاق الحياة وابتلاءاتها ، وهذا يشرح سبب كون الجهاد أحد المفاهيم الرئيسة في القرآن – لأنه عنصر تغيير ومقاومة – ، إن موقف القرآن حيال المعاناة والابتلاء ليس سلبياً بل إيجابياً وديناميكياً فعالاً ، لم تكن الحياة يوماً سهلة ، ولم يُقصد منها أن تكون سهلة ، ويشير القرآن إلى أن الحياة الناجحة هي أشبه باقتحام ” العقبة ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة ) البلد: 11 – 12 ، وهو اقتحام يحاول معظم الناس تحاشيه ؛ لأنهم يحبون السهولة والكسل .
هذا ما أدهشني في القرآن !
لقد دهشت من إصرار القرآن الشديد على النشاط الاجتماعي من خلال التأكيد المستمر على الجهاد في سبيل الله وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مما يؤكد أن القرآن يحث المؤمنين على الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية ، وقد كنت أعتقد أن الدين شأن خاص وشخصي ، لكن القرآن يقول لنا بشكل صريح : إن الإيمان يجب أن يتضمن عملاً قوياً لخير المجتمع وإصلاحه .
إن القرآن يقول وبلا شك : إن للحياة سببها ، وإن ذلك السبب يتعلق بتعزيز علاقة معينة بين الله والإنسان الذي عليه أن يقترب من الله من خلال الممارسة العملية وليس بمجرد التصورات والأفكار فقط ، بل لا بد أن يقوم بممارسة بعض الصفات الفاضلة ، التي هي في الحقيقة من أسماء الله الحسنى أيضاً ولله المثل الأعلى ، فالله رحيم يحب الرحماء ، كريم يحب الكرماء ، حكيم يحب الحكماء ، عدل يحب العادلين ، وهكذا .
أين مفتاح الفوز في الحياة ؟
إن مفتاح الفوز في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة قد بينه القرآن بياناً قاطعاً وفي أماكن متعددة بحيث لا يخفى ذلك على أي قارئ جاد ، فالقرآن يؤكد على أن الوحيدين الذين سوف يستفيدون من حياتهم في الدنيا هم ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فهذه العبارة القرآنية تتكرر في القرآن بكثرة ، وهي تؤكد على العلاقة المتبادلة والحتمية للإيمان الصحيح مع الأعمال الصالحة ، والفعل “عمل” يعني “أنجز” و “فعل” و “أحدث” و “صنع” ، وجميع ذلك يتضمن بذل الجهد والطاقة والفعل والنشاط والعمل العام ، وتشير عبارة ” وعملوا الصالحات ” إلى أولئك الذين يواظبون بكد على إصلاح الأمور ، وعلى إعادة الأمن والاستقرار .
هذه غاية الحياة !
وهكذا تتبدى لنا غاية الحياة : علينا أن نوطن أنفسنا على الفضيلة والحكمة والعدالة والرحمة والعفو والصلاح ، وأن نهتم بالناس ، وأن نحبهم ، وعلينا أن ندرب أنفسنا على الرحمة والصبر والكرم ، وذلك من خلال كفاحنا وجهادنا في سبيل العيش ، وفي القرآن نجد أن هذه الخصال هي خصال الإيمان الصحيح ، يجب علينا أن نتشرب من هذه الخصال وننميها في النفس إن استطعنا ، ليس فقط لنجعل من الدنيا مكاناً أفضل للعيش ، بل لأنها حالات سامية من الواقع الذي خلقه الواحد الأحد سبحانه ، وإذا ما نشأنا على هذه الخصال فإننا نكبر في الوقت نفسه بقدرتنا على أن نتلقى ونشعر برحمة الله وعفوه وحنانه وعدله ومحبته ، وبهذه الطريقة نزداد قرباً من الله .
ولكن كيف نتصور مفهوم القرب من الله ؟
لنأخذ المحبة كمثال فكلما تذوقنا محبة الناس لنا ازدادت خبرتنا بمحبة الله ، وإني أدرك أن خبرة ابني بمحبتي له أكبر من خبرة ” قطتي “ التي هي بدورها أكبر من خبرة ” أسماكي “ ؛ لأن طفلي يعرف الحب بمستوى يفوق ” القطة “ أو ” السمكة “ . وأظن أن محبتي لوالديّ اليوم هي أكبر من محبتي لهما عندما كنت طفلاً ، ذلك أني منذ أصبحت أباً بدأت أعرف وأشعر بشكل أفضل بقوة هذا الحب لأنني عانيت منذ رزقت بأطفال ، وبالمعاناة يتعمق الفهم ويزداد .
بلا عطاء و مشاركة لن يكون للحياة معنى !
ومن خلال الوصايا العديدة الواردة في القرآن ووصفها لأفعال وأنماط الأفراد الذين يحبهم الله ، أجد من اليسير إنشاء قائمة جزئية بالصالحات من الأعمال ، فعلى المرء وفق القرآن أن يكون محسناً ورحيماً وغفوراً مسامحاً للآخرين وعادلاً وأن يحمي الضعيف وأن يدافع عن المظلوم وأن يطلب المعرفة والحكمة وأن يكون كريماً صادقا متواضعاً محباً للآخرين ويجب علينا أن نعلّم الآخرين ونشجعهم على ممارسة هذه الفضائل ، ونحن تبعاً لذلك نتعلم ونترقى في هذه الفضائل أيضاً .
إن الحياة هي في الحقيقة ليست مسألة أخذ فحسب بل مسألة عطاء ومشاركة ، وهذا ما يعطي الحياة معناها وغايتها . فالعقيدة والأخلاق العملية والروحانية تتداخل كثيراً في القرآن بعضها مع بعض لدرجة التمازج .
إن الإيمان والعمل الصالح ضروريان إذا ما أردنا أن نعرف الله ونتقرب إليه ، فعندما نكون رحماء تجاه مخلوق آخر ، فإن ذلك الكائن يكون متلقياً لرحمة الله من خلالنا ، وبمعنى آخر إن الفضائل التي يعيش الإنسان تجربتها إنما هي مظهر من مظاهر أسماء الله الحسنى .
لا معنى للحياة بلا محبة الله !
إن غاية وجودنا الأساسية هي أن نحب الله وأن يحبنا الله ، ولا يمكن أن نقيم علاقة محبة مع من ننكر وجوده ، إن حب الله بالتأكيد سيُمنح لأولئك الذين يُشاركونه هذا الحب ويحبونه ، وهذا ما يرفضه الكثيرون .
إن القرآن يبين لنا أن أعمالنا لا تنفع الله ، بل الإنسان هو الذي ينتفع بها أو يخسر ، ومع ذلك يبين القرآن أن الله يريد من خلال التجربة الأرضية التي يخوضها الإنسان أن يرفع الأشخاص الذين يحبونه ، إن حياة التقوى والعلاقة مع الله تمنحنا السعادة والنمو الذاتي وسلاما داخلياً ، وتجعلنا أقدر على الاتصال به سبحانه ، ولكننا لن نستطيع أن نحصل على كل ذلك إلا بالكفاح والمعاناة على الأرض .
هل سيفتح الله على قلبي ؟
وبعد أن انتهت قراءتي للقرآن التي استغرقت عدة أسابيع وكأنها سنوات ، وجدت أن القرآن قد أيقظ فيّ روحانية كنت أنكر وجودها في نفسي وسيطر عليها ، ولكن رحلتي مع القرآن انتهت الآن .
تساءلت بعد ذلك :
هل سيفتح الله على قلبي فأرى ؟
هل يمكن أن يكون هناك إله حقاً ؟
لماذا كنتُ أنكر وجود الله ؟
وما الهدف من الاستمرار في الإنكار ؟
كم من آيات القرآن ومناقشاته التي وصلت إلى قلبي وألهمتني ؟
لِمَ لا أعترف بأن هذا الذي كنتُ أتوق له توقاً موجعاً ، وأن هذا الذي كنت أفتقده وأسعى إليه ، ليس سوى الله ؟
لماذا لم أتخلَ عنه ولم يتخلَ عني ؟
إن الله لا يتخلى عن أولئك الذين يبحثون عنه ، عندما قرأت السورة الثالثة والتسعين (سورة الضحى) وهي من أواخر سور القرآن التي تعرفتُ عليها في آخر رحلتي معه .
تأثرت كثيراً لوعدها بمحبة الله المغذية للروح ، إلى درجة أني بكيتُ لما يزيد عن نصف ساعة على ما أعتقد ، شعرت كطفل ضائع أنقذته أمه بعد طول عذاب ؛ ذلك أن هذه السورة تخبرنا أن الله لن يتخلى عنا في أحلك الظروف إذا ما توجهنا إليه . ( ماودعك ربك وما قلى .. ووجدك ضآلا فهدى ) الضحى: 3 – 7
ووقعت المفاجأة !
في الثامن من نوفمبر من عام 1982م نحو الساعة الثالثة ظهرا ذهبت إلى المسجد في سان فرانسيسكو ، قلت لنفسي : سأذهب لأطرح بعض الأسئلة ؛ لأن اعتناقي للإسلام كان مستحيلاً ، وبعد نصف ساعة خرجت من المسجد مسلماً !
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله سنكمل هذه الرحلة الجميلة ، فلم تزل في جعبة بروفسور الرياضيات المسلم مكاشفات مشوقة للغاية .
· ملحوظة : النقل من كتاب صراع من أجل الإيمان مواضع عدة منها ( ص 98 – 102) ، وكتاب حتى الملائكة تسأل