الأسقف الأمريكي مصطفى مولاني
جاء إلى مصر بعد أن استقال من منصبه كأسقف في إحدى الولايات الأمريكية ليدرس الإسلام على يد شيوخ الأزهر وعلمائه.
كان يشعر بالشك في عقيدته بعد أن درس الفلسفة واللاهوت، وبعد أن كان يقوم بتدريس المواد الدينية في إحدى المدارس الثانوية الكاثوليكية، فقد كان شغوفًا بالبحث والدراسة حتى يستطيع أن يقوم بعمله خير قيام، ولكن دراساته وبحوثه لم تزده إلا شكًّا في عقيدته وطبيعة عمله.
وقبل أن يسرد قصة اتجاهه للإسلام واعتناقه، يتناول الحديث عن طبيعة نشأته ومراحل دراسته وتطورها التي أوصلته للعمل كأسقف بولاية “نيوجيرسي”.. فيقول:
” أنا شاب أيرلندي الأصل، نشأت في بيئة كاثوليكية متمسكة بعقيدتها، وكل الآباء هناك يتمنون أن يكون من أبنائهم قسيس يخدم الدين المسيحي؛ لأن هذا شرف كبير للعائلة؛ لذلك درست في مدرسة ثانوية دينية، ثم التحقت بكلية خاصة بالقسس بجامعة “سانت باتريك” لدراسة الفلسفة واللاهوت لمدة ست سنوات، وخلال فترة دراستي لم أسمع كلمة واحدة عن الإسلام.
وبعد تخرجي بشهرين فقط عام 1971م ذهبت إلى أمريكا للتبشير، حيث تخرِّج الكلية مائتي قسيس كل عام، ويأتي الأساقفة الأمريكيون فيأخذون أغلبهم إلى أمريكا للعمل بالتبشير في مناطق مختلفة، وعملت أسقفًا بولاية “نيوجيرسي”، وأصبحت مسئولاً عن إعداد برامج التوجيه الديني لكل المستويات وتدريب القائمين بهذا العمل، وإلى جانب ذلك عملت مدرسًا للمواد الدينية بالمدرسة الثانوية الكاثوليكية، وكنت مشغوفًا بالبحث والدراسة حتى أستطيع أن أؤدي واجبي تجاه إرشاد الناس.
وكنت كلما تعمقت في البحث والدراسة انتابني شعور غريب بالشك في عقيدتي، ولم أستطع أن أكتم شكوكي، فقررت مفاتحة رئيس الأساقفة وقلت له: لديَّ شك في عملي، بل وفي إيماني بالله حسب عقيدتنا. فنصحني بالتريث والتفكير، وأعطاني مهلة لمدة عام ريثما أفكر في الموضوع بهدوء.
ويتنهد ويزفر بزفرات حارة وهو يهز رأسه قائلاً:
“… وخلال هذا العام عكفت على البحث والدراسة وتوجت بحثي بالحصول على درجتين للماجستير، إحداهما في التربية الدينية والأخرى في اللاهوت والكتاب، ولكن هذه الدراسات والبحوث لم تزدني إلا شكًّا في عقيدتي وعملي… وعدتُ إلى رئيس الأساقفة ومعي استقالتي من عملي، فوافق”.
ثم يلتقط أنفاسه ليعود مستدركًا ما بدا له أنه قد فاته توضيحه، فيقول: “ولكن حتى هذه اللحظة لم أكن قد عرفت أي شيء عن الإسلام”.
ويبدو أن هناك أسبابًا وراء شكوكه في عقيدته كانت وراء استقالته من عمله دون أن يكون واقعًا تحت تأثير أي عقيدة أخرى، فيحدثنا عنها قائلاً:
“هناك أسباب كثيرة، فقد كان انتقالي من أيرلندا حيث المجتمع الريفي المتماسك، إلى أمريكا حيث المجتمع الصناعي المادي وما يتميز به من أمور غريبة، من ذلك مثلاً عدد المذاهب المسيحية الذي يربو على ثلاثمائة مذهب.. كل واحد منها يزعم أنه على الحق دون غيره؛ مما جعلني أشك في صدق هؤلاء.
كما أن هناك أشياء أخرى لم أكن مقتنعًا بها، مثل السلطة البابوية المطلقة على الناس، والتعسف في معالجة الأمور مثلما حدث من جدال طويل قد ثار حول موقف البابا من تنظيم النسل، فهم يرفضون التنظيم، مع أنه لا يوجد في الأناجيل ما يمنع ذلك.
كما أنني لم أكن مقتنعًا بفكرة الرهبنة، حيث كثير من رجال الدين في المسيحية ممنوعون من الزواج بأمر البابا، وهذا شيء ضد طبيعة الإنسان وفطرته.
هذه هي بعض الأسباب التي ضاعفت شكوكي، وجعلتني أعيش في حيرة.. كيف أعظ الناس وأنا غير مقتنع بما أقول؟!! لذلك قررت الاستقالة دون أن أعرف شيئًا عن الإسلام”.
وبعد أن استقال قرر أن يستأنف دراسته للحصول على الدكتوراه من جامعة هارفارد، وذلك بعد أن اشتغل في الكنيسة تسع سنوات. وفي فترة دراسته تلك كانت توافيه معلومات وبيانات عن الإسلام، فأراد أن يستزيد منها.. فماذا يفعل؟.. يجيب عن ذلك بقوله:
“أردت أن أعرف المزيد عن الإسلام فدرست تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، كما حرصت على حضور بعض المحاضرات لعدد من علماء المسلمين الذين يحاضرون في القرآن والحديث وأركان الإسلام وكل ما يتصل به، وذلك من باب حب الاستطلاع”.
ويصمت برهة ليسترجع ذكريات حبيسة في نفسه، فيقول:
“أذكر في ذلك الوقت أنني قد سمعت عن مصر والأزهر ودوره الإسلامي الكبير.. والغريب الذي أعجب منه كلما أسترجعه أن بداية معرفتي بالأزهر جاءت بعد رؤيتي لعرض تقدمه شيخان من الأزهر بزيهما الديني المميز اعترافًا وتقديرًا لدور الأزهر كأقدم جامعة في العالم، وذلك في أثناء الاحتفال بمرور ثلاثمائة عام على إنشاء جامعة هارفارد، حضره مندوبون عن جامعات العالم العريقة.. وهذه الصورة محفوظة في سجل الجامعة هناك؛ ولذلك قررت أن يكون موضوع رسالتي للدكتوراه عن علماء الدين الإسلامي: أهميتهم ودورهم في المجتمع المصري من أيام الشيخ عبد المجيد سليم وحتى الآن”.
وحتى ذلك الوقت لم يكن قد قرر اعتناق الإسلام، وإنما كان اهتمامه بالدراسة فقط، والتي كانت تستدعي منه مجيئه إلى مصر ليقوم بدراسة الإسلام من كليات الأزهر المتخصصة، مثل كليه أصول الدين، والتقائه بأساتذتها وعلماء الإسلام، فضلاً عن قراءاته المستفيضة لعدد كبير من الكتب الإسلامية.
وعندما حضر إلى مصر -وشاء قدر الله أن يكون ذلك في شهر رمضان- راعى انتباهه ظاهرة غريبة بالنسبة له كأجنبي.. عنها يقول:
“حين جئت إلى مصر في شهر رمضان شاهدت المجتمع المصري منتظمًا في أسلوب حياته القائم على أساس من الدين، فالناس يذهبون إلى المسجد عند سماع الأذان، ويتطهرون بماء الوضوء ثم يقفون في صفوف منتظمة، وعند الإفطار تخلو الشوارع من المارة”.
عندئذٍ يضحك ساخرًا من نفسه عندما فسر في البداية خلو الشوارع من المارة بوجود تعليمات بحظر التجوال في ذلك الوقت، فيعبر عن ذلك بقوله:
“ظننت في بداية الأمر أن هناك قانونًا يقضي بحظر التجوال بعد الغروب، ولكنني عرفت السبب بعد ذلك”.
ثم يعود ليكمل روايته عن تلك الظاهرة التي استرعت انتباهه في شهر رمضان، فيقول:
“ورأيت أيضًا المسلمين يصلون العشاء والتراويح، ويذهب بعضهم إلى أعمالهم ومتاجرهم حتى ساعة متأخرة يقال عنها: السحور، ثم يصلون الفجر وينامون”.
ثم يندفع في كلامه ليؤكد حكمًا استخلصه من مشاهداته في المجتمع المصري كمجتمع مسلم فيقول: “فالمجتمع -إذن- منظم على أساس من الدين، يكفي أنه قد شد انتباهي أن الأمن والأمان سائدان في شوارع القاهرة بشكل لم أرهما من قبل في أي مكان.. فأناس يسيرون في الشوارع ليلاً في أمن واطمئنان بدون أن يتعرضوا للاعتداء عليهم بالقتل أو غيره، في حين أن عندنا في نيويورك مثلاً يوجد كل يوم ثمانية قتلى في الشوارع، مع أن الأمريكيين لا يسيرون في الشوارع والطرقات ليلاً؛ خوفًا على حياتهم، ليس ذلك في نيويورك وحدها بل في باقي الولايات الأمريكية، فبرغم القوانين والعقوبات تنتشر الجرائم والانحرافات انتشارًا مخيفًا، ولكن الأمر يختلف في المجتمع المسلم كما هو الحال في مصر؛ فإيمان الناس بدينهم يجعلهم يطبقون تعاليمه بدون خوف من عقوبة أو قانون، بل احترامًا لمبادئهم وعقيدتهم، وهذا هو الفرق بين المجتمع هنا والمجتمع في الغرب حيث لا أمن ولا أمان”.
وبرغم اقتناعه بالإسلام كمنهج حياة ينظم للبشر أسلوب معيشتهم وسلوكياتهم كما رأى بعينه من انتظام الناس في العبادة في شهر رمضان، وبرغم قراءاته في الكتب الإسلامية المترجمة ولا سيما ترجمة معاني القرآن الكريم وغيرها من الكتب ككتاب “حياة محمد” للدكتور محمد حسين هيكل الذي استخدم فيه الأسلوب العلمي الدقيق في الرد على شبهات المستشرقين حول الرسول وزوجاته الطاهرات، وبرغم مقابلاته مع شيوخ وعلماء الأزهر، برغم ذلك كله لم يعلن إسلامه على الفور، ليس عن عناد فكر وغشاوة قلب، وإنما لسبب آخر.. عن ذلك يقول موضحًا:
“إنه برغم اقتناعي الكامل بالإسلام كدين خاتم يجب أن يؤمن به الناس جميعًا، فإنني ترددت أربعة أشهر قبل أن أعلن إسلامي؛ لأدرس القرار في تأنٍ من جميع جوانبه؛ لأنه من الصعب على الإنسان أن يغيِّر دينه.. بعدها شرح الله صدري للإسلام فدخلت في دين الله الحق، وسميت نفسي (مصطفى مولاني)؛ تيمنًا باسم الرسول محمد”.
وفي نبرة سعادة خفية كشفتها عيناه وهي تلمع كوميض الضوء وهو يصرخ قائلاً:
“في لحظة اعتناقي للإسلام شعرت أنني أدخل عالمًا نورانيًّا يسمو بالروح والنفس، وذلك حينما تسلمت شهادة إشهاري الإسلام.. قد شعرت بأنني حصلت على أعلى شهادة في الدنيا، وأحسست في الوقت ذاته أنني ألقيت عن كاهلي عبئًا ثقيلاً من الهموم والقلق والشكوك والشقاء.. نعم، شعرت بسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل”.
وعن الرسول محمد الذي هاجمه عندما كان قسيسًا قال: “لقد اقتنعتُ تمامًا بأن محمدًا هو خاتم الأنبياء والمرسلين، واقتنعت بسنته وتشريعاته التي اتخذها الغرب مدخلاً للطعن في رسالته، مثل تعدد الزوجات التي اقتنعت تمامًا بحكمتها”.
ثم أضاف قائلاً:
“لقد قمت بعمل عمرة وزرت البيت الحرام والروضة الشريفة، وفاضت عيناي بالدموع أمام قبر المصطفى، وقلت لنفسي حينئذ: من أنا حتى أقف أمام قبر أعظم إنسان عرفته البشرية! وشكرت الله تعالى أن هداني للإسلام”.
إن قصة اعتناق الأسقف الأمريكي للإسلام تبيِّن إلى أي مدى ينتشر دين الله في قلعة الكفر التي لا تعترف بالإسلام ولا برسوله وتناصبهما العداء، ولكن عندما تشاء إرادة الله في هداية أحد من عباده فلا رادَّ لمشيئته.
المصدر: كتاب (عادوا إلى الفطرة) إعداد أحمد بن علي
قصة الإسلام