مقالات

الإسلام والعصبية

لم يعرف الإسلام حرب الأجناس، ولا ينبغى أن تنسب هذه الحروب الداعرة لدين ما. فإن الله لم يفضل لونا على لون، ولم يؤثر بكرامته جنسا دون جنس. وما يزعمه الأقوياء لأنفسهم من ميزات هو ادعاء يسنده الناب والظفر، لا الحق والبرهان. وقد استطاع العرب ـ برحمة الله وتأييده ـ أن يهيمنوا على العالم كله، وأن يكونوا الدولة الأولى فيه. وربما جاء من أعقابهم من افتخر بدمه أو اعتز بعنصره ـ وهو فى ذلك دعى مغرور ـ ولكن الإسلام نفسه ورجاله الأولين كانوا أبعد أهل الأرض عن اقتراف هذا المنكر. بل قد رأينا كسرى “يزدجرد” يقول لوفد العرب: إنى لا أعلم أمة فى الأرض كانت أشقى، ولا أقل عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم.. فما يجيبه أحد منهم بكلمة ينوه فيها بالدم العربى، ويرد اتهامات العاهل الفارسى. وانما كان كلام ” قيس بن زرارة ” له: أما ما ذكرت من سوء الحال، فكما وصفت أو أشد. ثم إن الإسلام هو الذى رفع شأن العرب وأعز جانبهم..

لذلك أخذتنا دهشة بالغة عندما تحدث الكاتب الصليبى (جاك تاجز)  فى ص 26 عن التفوق العنصرى عند العرب. وقد نقل تحت هذا العنوان جملة مفتريات يجزم السذج بافتعالها. قال: ” إن الإقامة فى شبه جزيرة العرب والتفوه باللغة العربية لم يكونا كافيين لاعتبار القاطنين فيها عربا إذا كانوا من المهاجرين، حتى لو كانت هجرتهم ترجع إلى عدة قرون… إن كلمة ” عربى ” لم يكن يراد بها المعنى الوطنى كما هو منصوص عليه الآن، ذلك لأن العرب كانوا يجهلون ما هو التجنس وما هو فقدان الجنسية… “. هذا الكلام من أبطل الباطل، وقد نسبه الكاتب إلى مستشرق يدعى “بولياك” ولابد أن هذا المستشرق كان مخمورا وهو يقول هذا الكلام. لأن النبى الذى بعثه الله من صميم العرب كان من ولد إسماعيل. وإسماعيل عبرانى نزح من بلاده مهاجرا إلى الجزيرة حيث اكتسب فيها جنسيته العربية الجديدة. ومعروف أن الاستعراب أصل فى تكوين العرب، وأن من تعلم لغة العرب وامتزج بهم صار منهم. فالعربية لسان لا دم.

ولا يفوق هذا الكلام فى بطلانه إلا إيغال الكاتب فى بهتانه عندما قال فى ص 27:
“.. بقى عرب شبه الجزيرة متمسكين بهذا المبدأ ” كذا ” حتى قبض العباسيون على زمام الحكم، ويلاحظ، الأب جانو ” أن معتنقى الإسلام من الموالى والمسيحيين واليهود والسامريين الذين لم ينحدروا من أصل عربى كانوا لا يدخلون فى المجتمع العربى الإسلامى دخولا كليا بمجرد إسلامهم ” كذا ” بل كان عليهم أن يتلمسوا انتسابهم لإحدى القبائل العربية، وكانوا يدفعون ثمن الانتساب غالبا، ومع ذلك لا يعتبروا إلا مسلمين من الدرجة الثانية… “.
هذا ما يلاحظه الأب الكذوب.
ئم يمضى الكاتب الصليبى موغلا فى الافتراء فيقول: …
يستنتج من ذلك أن الشعوب المغلوبة التى اعتنقت الإسلام فى السنوات الأولى من الدعوة الإسلامية لم يستقبلهم العرب بعاطفة من الفرح والأخوة.
بل وضعوهم فى مركز أدبى وضيع بالنسبة لهم.. “.
ياغوثاه! هل يبلغ الحقد بذويه حتى يتدلوا إلى هذا الدرك السحيق من الإسفاف؟ من قال من مؤرخى الأولين والآخرين: إن صحابة رسول الله كانوا ينظرون إلى الأمم التى دخلت فى الإسلام نظرة تنقص؟ أو أنهم كانوا يحلونهم فى مراتب وضيعة؟ إن الأجناس التى دخلت فى الإسلام لم تلق فى وجهها أحدا يزعم أنه أولى منهم بالله أو أحق برسوله.
كانت الأجيال المتفاوتة تدخل فيه كما تدخل الجماهير المرحة إلى حديقة عامة ، لا حظر عليها ولا بواب، ولا يفخر فيها أحد على أحد بأى ادعاء.
ولقد قال الله للرعيل الأول من أصحاب محمد ـ محددا لهم مسلكهم من المشركين المقاتلين ـ: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون).
ولم يجعل للقائمين بأمر الدعوة إلى الله منزلة معينة يستحقون بها تسمية خاصة، بل زجهم فى الغمار العام الذى يسوى بينهم وبين غيرهم تحت عنوان واحد: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).
لا سيادة ولا تبعية، ولا مراكز أولية وأخرى ثانوية، إنه من المسلمين فحسب.
وقد جرت نصوص القرآن متراكضة تؤكد هذا المبدأ.
فهدد الله العرب فى إبان نزول الوحى أنهم إن لم يستقيموا على سواء الصراط، وينهضوا بأعباء الرسالة التى وكلهم بها، فسوف يحرمهم من أفضالها ويلقى إلى غيرهم بمقاليدها.
فإن الكل فى ساحته سواء، لا يمتاز عنصر على عنصر إلا بمدى بلائه ووفائه لهذا الدين العام.
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
(ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
ومن أولئك القوم؟.
روى الترمذى أنهم الفرس، لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فضرب على عائق سلمان الفارسى وقال: ” هذا وذووه “.
وصح كذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة الجمعة، فلما بلغ قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) بعد قوله : (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم).
قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يحلقوا بنا، يعنى لم يعاصرونا.
فوضع يده على ” سلمان الفارسى ” وقال: ” والذى نفسى بيده، لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء “.
يشير إلى أنهم أهل ” فارس “.
ويرى بعضهم أن الحديث من باب الاقتصار والتمثيل، ولذلك قال ” ابن جبير ” هم الروم والعجم..
وقد جرت فى موقعة ” اليرموك ” محاورة طريفة بين ” خالد بن الوليد “، وهو عربى مسلم، وبين ” جورج بن تيودور “، وهو نصرانى رومى.
وهذه المحاورة تشهد لعواطف الاستبشار والغبطة التى لقى بها العرب الأوائل أى داخل فى دين الله .
ولا حرج من أن ننقل المحاورة كلها لما تضمنته من دلالات شتى: ” نادى جورج: ليخرج إلى خالد، فخرج خالد حتى التقى به بين الصفين.
فلما أمن كلاهما صاحبه، قال جورج: يا خالد، أصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحر لا يكذب ولا تخادعنى فإن الكريم لا يخادع المسترسل.
بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فيم سميت سيف الله؟.
قال: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه، فدعانا، فنفرنا عنه، ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه! فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله.
ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه.
فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لى بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
قال: صدقتنى.
ثم أعاد إليه جورج: يا خالد أخبرنى..
إلام تدعونى؟.
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله.
قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية، ونمنعهم ـ أى نحميهم ـ من أعدائهم.
قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.
قال: فما منزلة الذى يدخل فيكم، ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا: شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.
ثم أعاد عليه جورج: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل.
! قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه! قال: إنا دخلنا فى هذا الأمر، وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع.
وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل فى هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا..
قال جورج: بالله لقد صدقتنى؟ ولم تخادعنى؟ ولم تتألفنى؟ قال: بالله لقد صدقتك، وما بى إليك ولا إلى أحد منكم وحشة، وإن الله تولي ما سألت عنه! فقال: صدقتنى، وقلب الترس ومال مع خالد وقال علمنى الإسلام.
فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء.
ثم صلى ركعتين..
إلخ “.

من ذلك الحوار تحكم: أكان المسلمون العرب يحتقرون الداخل فى الدين من الأجناس الأخرى ـ كما يقول الكاتب الصليبى ـ أم كانوا يرحبون به ويقدمونه على أنفسهم؟ وماذا يقول المبطلون إذا عرفوا أن الرسول جعل قائد جيشه إلى الروم ! أسامة بن زيد ـ وهو من الموالى ـ وكان أبو بكر وعمر جنودا فى هذا الجيش؟ وماذا يقولون إذا رأوا رجلا من صميم العرب كأبى ذر يلصق بالتراب خده، ويبيح لعبده الأسود أن يقتص منه؟ إن المسلمين الأوائل كانوا أنأى الناس عن النزعات العنصرية السفيهة، وليس لها فى تاريخ الفتوح أثر قط. وفرحة المسلمين بالداخل فى دينهم تتوارثها العصور إلى يوم الناس هذا. والمسلم الذى يوفق إلى هداية امرىء حيران، ويستطيع شرح صدره بالإيمان، يحس بأنه ادخرلنفسه من المثوبة عند الله ما يقر عينه ويشيع الغبطة فى حياته كلها. وكيف لا؟ وهو يستمع إلى قول النبى صلى الله عليه وسلم ” لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها “. لا جرم أن السلف الصالح خفوا إلى استقبال الأفواج الداخلية فى دين الله. وعواطف الترحيب تهز جوانحهم. حتى إذا مضت الأيام على استقرارهم فى الديانة التى آثروها، أضحى السابق واللاحق شركاء متساوين فى حمل مغارمها ومغانمها. فإن يكن موضع الملاحظة من القبيل الذى أشار إليه الكاتب الصليبى آنفا فإن المؤرخ المنصف لن يفوته أبدأ تسجيل المزايا التى حصلت عليها الشعوب الداخلة فى الإسلام على حساب العرب أنفسهم. ذلك أن خلو الدين من تفضيل جنس على جنس، وتسويته المطلقة بين من اعتنقوه كافة، سمح للفرس والروم والترك وسائر الموالى أن يزاحموا العرب بالمناكب فى ميادين النشاط العلمى والأدبى والفنى، وأن ينتزعوا القياد منهم فى هذه الآفاق الحرة. فلم تمض خمسون سنة على ظهور الإسلام حتى كانت الكثرة الساحقة من فقهاء الأمصار الكبرى رجالا من الأعاجم وغيرهم، وصلوا إلى أماكن الصدارة دون أن يجدوا أمامهم عائقا.. وإننا لنلقى نظرة على تاريخ الإسلام الطويل فنجد أن علوم الشريعة من تفسير وسنة وتشريع، بل علوم اللغة العربية نفسها، قد بلغت تمامها واعتلت قمتها على أيدى رجال لا ينتمون للعروبة إلا بصلة التجنس.
ولولا الإسلام وما بثه فى النفوس والجماعات من سماحة مشكورة ما حدث هذا قط. ولما وقع أول فساد فى الحكم بتحوله من خلافة راشدة إلى ملك عضوض حاولت أسرة ” أمية ” ـ بعد أن احتكرت الملك فى بيتها ـ أن تحيى ما أمات الإسلام من نزعات عنصرية، وأن تجعل من الحكم العربي دعامة لعصبية جنسية طائشة. غير أن هذه المحاولات ذهبت سدى، فتغلبت طبيعة الإسلام، واستجاب لها جمهور الأمة، وأخذ الموالى حظوظهم كاملة فى الحياة العامة. قال الخضرى فى كتابه ” تاريخ التشريع “: ” إنهم ـ أى الموالى ـ وجدوا فى جميع الأمصار، وشاركوا الصحابة وكبار التابعين من العرب فى العلم والتعليم. فقلما يذكر عبد الله بن عباس إلا ومعه راويته ومولاه “عكرمة “. وقلما يذكر عبد الله بن عمر إلا ومعه مولاه ” نافع “. وقلما يذكر أنس بن ملك إلا ومعه مولاه ” محمد بن سيرين “. وكثيرا ما يذكر أبو هريرة ومعه مولاه ” عبد الرحمن بن هرمز الأعرج “. وهؤلاء الأربعة أكثر الصحابة حديثا وفتوى، ولمواليهم الأربعة فضل كبير. ومن الخطأ أن يحسب أن حظ العرب من الفقه ورواية الحديث كان أحسن، وإنما كانت المشاركة، فلم يوجد مصر إلا وفيه من الفريقين عدد وافر. إلا أن بعض الأمصار كان الامتياز فيه للموالى كالبصرة، وعلى رأسهم الحسن بن أبى الحسن البصرى. وفى بعضها كان الامتياز لفقهاء العرب كالكوفة. هل نفهم من ذلك أن نشاط الموالى انحصر فى نطاق العلم والبحث فقط؟ كلا.. فقد زاد شأنهم رفعة، وزاد سلطانهم سعة حتى بدأ الحكم العربى ينكمش أمام نفوذهم الممتد. ثم كان قيام الدولة العباسية أثرا لنشاط الموالى من أهل خراسان والعراق. وبذلك استطاعت الأجناس الداخلة فى الإسلام أن تجمع بين السيادتين العلمية والسياسية.

إنه منذ كون الإنجليز “إمبراطوريتهم ” ما تحول الحكم عن جنس معين ولا انتقل من عاصمة معينة. أما الدولة التى أقامها الإسلام، فما أكثر الأجناس التى امتلكتها! وما أكثر العواصم التى تنقلت فيها بين الشرق والغرب!. ذلك أن الإسلام ـ كالعلم ـ لا وطن له، وليس له مستقر يأرز إليه إلا القلب الإنساني الكريم. بل نستطيع القول بأن عدالة الإسلام المطلقة فى المساواة بين الأجناس ومحق الفوارق الخاصة، قد استغلت ضده استغلالا قبيحا.
فقد تطلعت إلى حكم المسلمين جميعا عناصر من الأتراك والأعجام واهية الصلة بالعروبة، مع أن الرسوخ فى لغة العرب ضرورة لابد منها لفهم الدين قبل الحكم به. ومن ثم قامت دول إسلامية قوية من الأتراك، لم تحسن سياسة رعاياها، ولا سياسة الأجانب عنها، فألحقت بالدين وأهله أضرارا فادحة. أفترى أن العرب يتحولون إلى رعية فى ميدان العلم، ثم إلى رعية فى ميدان الحكم، لو أن أسلوبهم فى أيام الفتوح كان قائما على إهانة الأمم المغلوبة ووضع أبنائها فى مراكز دنيئة ؟ إن العرب الأوائل أدوا رسالتهم على نحو لم يعرف التاريخ ـ ولن يعرف ـ مثيلا له فى نزاهته وترفعه. وإذا ذكر الصحابة الأمجاد الذين حرروا الأمم من إسار ” كسرى ” و ” قيصر “، فلنذكر رجالا آثروا الموت على الحياة، وآثروا ما عند الله على متاع الدنيا. إنها فطر من طراز لا تعرفه دنيانا الغاصة بالمطامع والأهواء، ولا يستطيع أن يفقه سموها كتاب ملوثون وباحثون مغرضون.

الشيخ محمد الغزالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى