الإعجاز العلمي في القرآن

الإشارات الكونية في القرآن الكريم


موقف المفسرين من الإشارات الكونية في القرآن الكريم


إن فهم الإشارات الكونية في كتاب الله‏ على ضوء ما تجمَّع للبشرية اليوم من معارف‏,‏ وتقديمها للعالم كواحد من الأدلة العديدة على أن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله بعلمه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ والذي حُفظ بحفظ الله‏‏ بنفس اللغة التي أوحي بها‏ بدقائق حروفه وكلماته وآياته وسوره‏‏ يعتبر فتحاً جديداً للاسلام‏,‏ وإنقاذاً للبشرية من الهاوية التي تتردى فيها اليوم بسبب تقدمها العلمي والتقني المذهل، وتضاؤل روح الإيمان بالله‏,‏ وانعدام الخشية من عذابه في نفوس القطاع الأكبر من الناس خاصة في أكثر المجتمعات البشرية المعاصرة أخذاً بأسباب التقدم العلمي والتقني‏,‏ فأغلب المجتمعات البشرية في الدول غير المسلمة تعاني اليوم من انفراط عقد الأسرة‏,‏ والتقنين للممارسات الجنسية بدون أدنى رباط‏,‏ فكثر حمل المراهقات‏,‏ وأبناء الزنا‏,‏ والأسر ذات العائل الواحد‏,‏ وتفشت الأمراض والأوباء والعلل مما لم يكن معروفاً من قبل‏,‏ وقننت الحكومات والتشريعات للعلاقات الشاذة‏,‏ وصرحت بتبني الأطفال، وتنشئتهم في وسط الشواذ‏,‏ وهي عملية مدمرة للفطرة الانسانية، فكثرت الأزمات النفسية وأمراضها‏,‏ وتضاعفت معدلات كلٍ من الإدمان والجريمة والانتحار‏,‏ ومُلئت أكثر المجتمعات البشرية ثراءاً وتطوراً مادياً بأخطر مشاكل المجتمعات الانسانية على الإطلاق ‏. ومن هؤلاء الذين لايعرفون لهم أبا‏ًً,‏ والذين خرجوا إلى الحياة بطرق غير مشروعة‏,‏ ونشئوا في بيئات فاسدة، وبين سلوكيات منحطة وضيعة من يمكن أن يصل إلى مقام السلطة في دول تملك من تقنيات ووسائل الغلبة المادية‏,‏ من مختلف أسلحة الدمار الشامل ما يعينه على البطش بالخلق‏ ,‏ وإفشاء الظلم‏ ,‏ وتدمير الحياة على سطح الأرض ‏,‏ وإفساد بيئاتها والقضاء على مختلف صور الحياة فيها ‏,‏ ولا يجد من دين أو خلق أو منطق أي رادع يمكن أن يرده عن ذلك ‏.


وأغلب وسائل الإعلام في العالم قد وقعت اليوم في أيدي اليهود‏,‏ في مؤامرة خسيسة على الانسانية ـ واليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا بصفة خاصة، وللانسان غير اليهودي بصفة عامة ـ فوظفوا كافة تلك الوسائل الاعلامية في تدمير البقية الباقية من عقائد، وأخلاقيات، وسلوكيات المجتمعات الانسانية‏,‏ وفي تشويه صورة الإسلام في أذهان الناس‏؛ وذلك لأن مما يسوءهم أن يروا الاسلام ينتشر في مجتمعاتهم المريضة في الوقت الذي يتصورون فيه أنهم قد أحاطوا بالإسلام والمسلمين إحاطة كاملة ‏.‏


ويقبل على الاسلام في الغرب والشرق قمم الفكر والعلم والرأي؛ لأنهم يرون فيه المخرج الوحيد من الوحل النتن الذي غاصت فيه مجتمعاتهم، والذي يعيشون فيه إلى أذقانهم في غالبيتهم الساحقة‏,‏ ووسيلتنا في تحسين صورة الإسلام في العالم هي حسن الدعوة إليه بالكلمة الطيبة‏,‏ والحجة الواضحة‏ ,‏ والمنطق السوي‏ ،‏ وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الاعجاز العلمي للقرآن الكريم‏؛ لأننا نعيش في زمن أدار غالبية الناس ظهورهم فيه للدين‏,‏ ولم تعد قضايا الغيب المطلق من بعث بعد الموت‏ ,‏ وعرض أكبر أمام الله الخالق‏,‏ وخلود في حياة قادمة ‏ـ إما في الجنة أبداً‏ ,‏ أو في النار أبداً ـ وغيرها من قضايا الدين لم تعد تحرك فيهم ساكنا‏ًً ,‏ ولكنهم في نفس الوقت قد فُتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة ‏,‏ فإذا أشرنا إلى سبق للقرآن الكريم في الاشارة إلى عدد من حقائق الكون قبل أن يصل الانسان إلى شيء منها بعشرات المئات من السنين ‏,‏ وهو الكتاب الذي أُنزل على نبي أمي ‏ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين‏,‏ فإن ذلك سوف يحرك عقولهم وقلوبهم ‏,‏ وسوف يحضهم على الاطلاع في كتاب الله الذي ما أطلع عليه عاقل إلا ويشهد له أنه لا يمكن أن يكون كلام أحد غير الله الخالق ‏ـ سبحانه وتعالى‏  . وفي ذلك تحييد لحجم الكراهية الشديدة التي غرستها وسائل الإعلام الدولية للإسلام والمسلمين في قلوب الملايين‏,‏ ودعوة مستنيرة إلى دين الله، وما أحوجنا للدعوة لهذا الدين الخاتم في زمن التحدي بالعولمة الذي نعيشه ‏,‏ والذي يتهدد كافة شعوب الأرض بالذوبان في بوتقة الحضارة المادية الجارفة.


ولا يمكن أن يصدنا عن ذلك دعوى أن عدداً من المفسرين السابقين الذين تعرضوا لتأويل بعض الآيات الكونية في كتاب قد تكلفوا في تحميل تلك الآيات من المعاني ما لا تحتمله، وذلك بسبب نقص في وفرة المعلومات العلمية أو جهل بها‏ ,‏ وذلك لما سبق وأن أوضحناه بأن التفسير لآي القرآن الكريم هو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة تلك الآيات إن أصاب فيها المرء فله أجران‏ ,‏ وإن أخطأ فله أجر واحد‏ ,‏ والمعوّل في ذلك النية‏ ,‏ وإن الخطأ في التفسير لا ينال من جلال القرآن الكريم ‏,‏ ولكنه ينعكس على المفسر ‏,‏ خاصة وأن الذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا، والذين فسروا بالتاريخ أصابوا وأخطأوا ، ولم ينل ذلك من قدسية القرآن الكريم ومكانته في قلوب وعقول المؤمنين شيئاً، أما اليوم وقد توافر للإنسان من المعرفة بحقائق الكون وسننه ما لم يتوافر لجيل من البشر من قبل‏ ,‏ فإن توظيف ذلك الكم من المعلومات من أجل حسن فهم دلالة الآية القرآنية ‏,‏ وإثبات سبقها التاريخي لكافة البشر، يعتبر ضرورة إسلامية لتثبيت إيمان المؤمنين‏ ,‏ ولدعوة الضالين من الكفار والمشركين، والذي سوف يسألنا ربنا ‏ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ‏ عن تبليغهم بهذا الدين ‏,‏ ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ‏.‏


والأخطاء التي وقع فيها عدد من المفسرين الذين تعرضوا للآيات الكونية في كتاب الله‏ ,‏ أو تكلفهم في تحميل الآيات من المعاني ما لا تحمله‏ ,‏ في تعسف واضح‏ ,‏ وتكلف جلي‏ ,‏ يحملونه هم‏ ,‏ ولا تتحمله آيات الكتاب المبين ‏؛‏ لأن التأويل يبقى جهداً بشرياً منسوباً لمؤوِّله ‏,‏ بكل ما للبشر من نقص وبعد عن الكمال ‏,‏ وإذا كان عدد منهم قد جاوز الصواب في تأويله‏,‏ فإن أعداداً أوفر قد وفِّقت في ذلك أيما توفيق ‏.‏ ولم تكن أخطاء المفسرين محصورة في محاولات تأويل الإشارات الكونية فقط‏,‏ فهنالك عدد من كتب التفسير التي تمتليء بالاسرائيليات الموضوعة‏ ,‏ والعصبيات المذهبية الضيقة ‏,‏ وغير ذلك مما لا يقبله العقل القويم ‏,‏ والصحيح المنقول عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن أصحابه المكرمين والتابعين ‏,‏ ولا يرتضيه المنطق اللغوي السليم‏ ،‏ فالمعتزلة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قد حاولوا في تفاسيرهم إخضاع الآيات لمبادئهم في العدل والتوحيد ، وحرية الارادة ، والوعد والوعيد، وإنكار الرؤية وغيرها ‏,‏ وتعسفوا في ذلك أيما تعسف‏ .‏والشيعة ـ على اختلاف فرقهم ـ قد دفعتهم المغالاة في حب آل البيت إلى التطرف في تأويل الآيات القرآنية تأويلاً لا يحتمله ظاهر الآيات‏ ،‏ ولا السياق القرآني،‏ ولا القرائن المنطقية المختلفة ‏.‏ وكذلك المتصوفة والإشاريون ـ فهم على الرغم من تسليمهم بالمأثور من التفسير‏,‏ وقبولهم للمعنى الذي يدل عليه اللفظ العربي ـ يسمحون لأنفسهم باستنباط معان للآيات تخطر في أذهانهم عند التلاوة، وان لم تدل عليها الآيات القرآنية الكريمة بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي للغة وطرائق التعبير فيها‏ .‏

أما المنحرفون من أتباع الفرق الباطنية وإفرازاتها القديمة والحديثة‏ ـ ‏كالقرامطة والبابية‏,‏ والبهائية‏,‏ والعلوية النصيرية‏,‏ والقاديانية الأحمدية‏,‏ والاسماعيلية‏,‏ والدرزية وغيرها‏ ـ‏ فتمتليء تفاسيرهم بالانحرافات التي تنطق بالتعسف والافتعال‏,‏ ومحاولات تطويع القرآن لمبادئهم المضللة في تكلف ملحوظ ‏.‏


فهل معنى ذلك أن يتوقف علم التفسير عند حدود جهود السابقين من المفسرين ؟

ويتوقف فهم الناس لكتاب الله الذي أنزل إليهم ليتدبروا آياته‏,‏ ويعيشوا في معانيه ‏,‏ ويتخذوا منها دستوراً كاملاً لحياتهم عند جهود قدامي المفسرين على فضلهم‏,‏ وفضل ما قدموه لخدمة فهم القرآن الكريم في حدود المعرفة المتاحة في أزمنتهم ؟ . بالقطع لا‏ ,‏ على الرغم من التسليم بأن هذه الانحرافات وأمثالها كانت من وراء الدعوة إلى الوقوف بالتفسير عند حدود المأثور‏,‏ فكتب التفسير على تباينها تحوي تراثاً فكرياً وتاريخياً لهذه الأمة لايمكن التضحية به‏,‏ حتى ولو كانت به بعض الأخطاء أو التجاوزات‏,‏ إلا إذا كان القصد الواضح هو التحريف ‏,‏ وهو أمر لايصعب على عاقل إدراكه ‏.‏
من كل ما سبق يتضح لنا أن حجج المضيقين في رفض تفسير الإشارات الكونية في كتاب الله على ضوء ما تجمع اليوم لدى الانسان من معارف بالكون وعلومه هي كلها حجج مردودة ‏,‏ فالكون صنعة الله‏ ,‏ والقرآن هو كلام خالق الكون وواضع نواميسه‏,‏ ولا يمكن أن يتعارض كلام الله الخالق مع الحقائق التي قد أودعها في خلقه‏ ,‏ إذا اتبع الناظر في كليهما المنهج السليم‏ ,‏ والمسلك الموضوعي الأمين‏,‏ فمن صفات الآيات الكونية في كتاب الله أنها صيغت صياغة معجزة، يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني في كل أية من تلك الآيات الدالة على شيء من أشياء الكون، أو ظواهره، أو نشأته، أو إفنائه وإعادة خلقه‏ ,‏ وتظل تلك المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لايعرف التضاد‏ ,‏ وهذا عندي من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله‏ .‏ ومن هنا كانت ضرورة استمرارية النظر في تفسير تلك الآيات الكونية‏,‏ وضرورة مراجعة تراجمها إلى اللغات الأخري بطريقة دورية‏ .‏ أما آيات العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات فقد صيغت صياغة محكمة يفهم دلالتها كل مستمع إليها مهما قلت ثقافته أو زادت؛‏ لأن تلك الآيات تمثل ركائز الدين الذي هو صلب رسالة القرآن الكريم‏ .‏ وكذلك الآيات المتعلقة بصفات الله‏ ,‏ وبالآخرة وبالملائكة والجن وغير ذلك من الأمور الغيبية غيبة مطلقة، فلا يملك المسلم إلا الإيمان بها ‏,‏ والتسليم في فهمها لنص القرآن الكريم أو للمأثور من تفسير المصطفى‏ ـ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ـ‏ لأن الإنسان لايمكن له أن يصل إلى عالم الغيب المطلق إلا ببيان من الله الخالق‏ ؛ وذلك لأن قدرات عقل الإنسان المحدودة‏ ,‏ وحواسه المحدودة لايمكن لهما اجتياز حدود عوالم الغيوب المطلقة مهما أوتي الإنسان من أسباب الذكاء والفطنة‏ .‏ ومن هنا كان امتداح القرآن الكريم للذين يؤمنون بالغيب ‏.

موقف الموسعين ‏‏من التفسير العلمي :



ويرى أصحاب هذا الموقف أن الإشارات الكونية في القرآن الكريم قد قُصدت لذاتها ـ أي لدلالاتها العلمية المحددة‏ ـ‏ مع التسليم بوجوب استخلاص الحكمة والعبرة منها‏ ,‏ والوصول إلى الهداية عن طريقها . وانطلاقاً من ذلك فقد قام أصحاب هذا الموقف بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله‏ ,‏ وتصنيفها حسب مختلف التصانيف المعروفة في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية‏ ,‏ ثم اندفعوا في حماسهم لهذا الاتجاه إلى المناداة بأن القرآن الكريم يشتمل على جميع العلوم والمعارف ‏.‏
ولابد لحسن فهم تلك الإشارات الكونية في كتاب الله من تفسيرها على ضوء اصطلاحات تلك العلوم والمعارف ‏,‏ ثم زاد البعض بمحاولة إثبات أن جميع حقائق العلوم البحتة والتطبيقية التي استخلصها الانسان بالنظر في جنبات هذا الكون هي موجودة في القرآن الكريم استناداً إلى قوله تعالى‏ :
“مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ “ ‏(‏الأنعام‏:‏ آية‏38)‏ . وقوله‏ : ” ….وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ “ (‏النحل‏:‏ آية‏89)‏ .
وهذا في رأينا موقف مبالغ فيه؛ لأن السياق القرآني في الايتين السابقتين لايتمشى مع ما وصلوا إليه من استنتاج ‏؛‏ لأنهما يركزان على رسالة القرآن الأساسية، وهي الدين بركائزه الأربع الأساسية ‏:‏ العقيدة ‏,‏ والعبادة ‏,‏ والأخلاق والمعاملات‏,‏ وهي القضايا التي لا يمكن للإنسان أن يضع فيها لنفسه ضوابط صحيحة ‏، وهي التي استوفاها القرآن استيفاءاً لايقبل إضافة‏,‏ أما قصص الأمم السابقة والإشارات إلى الكون ومكوناته فقد جاء القرآن الكريم بنماذج منها تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة على الخلق وإفنائه وإعادته من جديد ‏.‏
وربما كان هذا الموقف وأمثاله من الإسباب الرئيسية التي أدت إلى تحفظ المتحفظين من الخوض في تفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله على أساس من معطيات العلوم البحتة والتطبيقية‏ ,‏ أو التعرض لإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها ‏.‏

موقف المعتدلين من التفسير العلمي :


ويرى أصحاب هذا الموقف أنه مع التسليم بأن القرآن الكريم هو في الأصل كتاب هداية ربانية‏,‏ أساسها الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، والأمر بالعبادات المفروضة، والحث على الالتزام بمكارم الأخلاق، وعلى التعامل بالعدل‏,‏ أي أنه دستور كامل للحياة في طاعة خالق الكون والحياة ‏.‏
ومع التسليم كذلك بأن الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله قد جاءت في معرض التذكير بقدرته المطلقة‏ ,‏ وبديع صنعه في خلقه ‏,‏ وشمول علمه ‏,‏ وكمال صفاته وأفعاله‏ ,‏ الا أنها تبقى بياناً من الله‏,‏ خالق الكون ومبدع الوجود ‏,‏ ومن أعلم بالكون من خالقه ‏؟ .
من هنا كانت تلك الإشارات الكونية كلها حق‏ ,‏ وكانت كلها منسجمة مع قوانين الله وسننه في الكون‏ ,‏ وثابتة في دلالاتها ـ مهما اتسعت دائرة المعرفة الإنسانية ـ فلا تعارضَ ولا تناقضَ ولا اضطرابَ .
وصدق الله العظيم القائل ‏:‏
” وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً “
(‏ النساء‏:82) .‏
ومن هنا أيضاً كان واجب علماء المسلمين في مدارسة تلك الآيات الكونية، مستفيدين بكل أنواع المعارف المتاحة في تفسيرها، وإظهار جوانب الإعجاز بها‏‏ في حجة واضحة ومنطق سوي؛ وذلك تأكيداً لإيمان المؤمنين‏,‏ ودحضاً لافتراءات المفترين‏,‏ وتثبيتاً للحقيقة الراسخة أن القرآن كلام الله العزيز الرحمن الرحيم‏ .‏


ومن هنا كذلك كان التسليم بأن تلك الإشارات الكونية لم ترد في القرآن الكريم بهدف التبليغ بالحقيقة العلمية‏؛‏ لأن الحكمة الإلهية قد تركت مجالاً مفتوحاً لاجتهاد المجتهدين‏,‏ يتنافس فيه المتنافسون‏,‏ ويتبارى المتبارون‏,‏ أمة بعد أمة‏,‏ وجيلاً بعد جيل‏,‏ إلى أن يرث الله ـ تعالى ـ الأرض ومن عليها‏,‏ فلولا أن الإرادة الالهية قد ارتضت بسط الكون بكل حقائقه كاملة أمام الإنسان‏,‏ لانتفت الغاية من الحياة الدنيا‏,‏ وهي دار ابتلاء واختبار‏,‏ ولاختفى ذلك الغيب الذي يشد الانسان إليه‏,‏ ويشحذ جميع حواسه وكل قواه العقلية والفكرية‏,‏ ولتبلدت تلك الحواس والقدرات، ولمضت حياة الانسان على الأرض رتيبة كئيبة بائسة‏ جيلاً بعد جيل‏,‏ وعصراً بعد عصر‏,‏ بغير تجديد أو تنويع أو إبداع‏,‏ وسط عالم يتميز بالتغير في كل أمر من أموره‏,‏ وفي كل لحظة من لحظات وجوده‏,‏ هذا فضلاً عن أن العقل البشري عاجز عن تقبل الحقائق الكونية الكلية دفعة واحدة‏,‏ وأنه يحتاج في فهمها إلى شئ من التدرج في الكشف‏,‏ وفي استخراج الأدلة‏,‏ وفي إثباتها وتكامل معطياتها على مدى أجيال متعاقبة ‏.‏


ويستدل أصحاب هذا الموقف بالحشد الهائل من الإشارات الكونية في كتاب الله‏,‏ وبمطالبة القرآن الكريم للانسان دوماً بتحصيل المعرفة النافعة على إطلاقها‏,‏ وهذه أولى آيات القرآن العظيم تأمر بذلك وتحدد وسائله‏,‏ وتحض على التأمل في الخلق‏,‏ بل وتشير إلى حقيقة علمية لم تكتشف إلا بعد ذلك بقرون طويلة، ألا وهي خلق الانسان من علق‏ ، وهي حقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا بعد اكتشاف حقيقة المجاهر المكبرة ‏,‏ وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ‏ :
” اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم “ (العلق‏:1‏ـ‏5)‏ .


ويستدل أصحاب هذا الموقف المعتدل على ذلك بما يقرره القرآن من مسئولية الإنسان عن حواسه وعقله‏ ,‏ وما يفرضه من حسن استخداماتها في التعرف على الكون‏,‏ واكتساب المعارف النافعة منه‏,‏ وتخديمها في حسن فهم كتاب الله‏,‏ حيث يقرر الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ‏ ذلك بقوله في محكم كتابه ‏:‏ ” إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً “ (الإسراء‏:36) .‏ كما يستدلون برفض القرآن للتقليد والجمود على الآراء الموروثة الخاطئة‏,‏ والحكم بالظن والهوى ‏,‏ ومطالبته الإنسان دوماً بتأسيس الأحكام على الدليل العقلي الذي لا يقبل النقض‏,‏ وهذه كلها من أخص خصائص المنهج التجريبي في دراسة الكون وما فيه‏,‏ كذلك يستشهدون بتكريم القرآن الكريم للعلم والعلماء ـ بمن فيهم من علماء الكونيات ـ في العديد من آي الذكر الحكيم، نختار منها قول الحق ‏ـ‏ تبارك وتعالى ـ :” هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ “(الزمر‏:9)‏ وقوله ـ‏ عز من قائل ‏ـ :” يَرْفَعِ الّله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ “ (‏المجادلة‏:11)وقوله ‏ـ سبحانه وتعالى ـ :” شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ “ (آل عمران‏:18) وقوله ‏:‏ ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ “ (فاطر‏:28) .‏


والآية الأخيرة قد وردت بعد استعراض لكثير من المشاهد الكونية‏,‏ مما يؤكد أن الآية تشمل علماء الكونيات‏,‏ إن لم يكونوا هم المقصودين بها مباشرة‏,‏ فالآية تنطق ‏:‏
” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ “ (‏فاطر‏:28,27)
كذلك يستشهد أصحاب هذا الموقف المعتدل بمطالبة القرآن الكريم للانسان ـ في تشديد واضح ـ بالنظر في كل ما خلق الله‏,‏ وهذه أوامره صريحة جلية نختار منها قول الحق‏ ـ ‏تبارك وتعالى‏ ـ : ‏ ” قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ”
(‏يونس‏:101)‏.


” أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ” (الأعراف‏185)‏.
” قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ “ (‏العنكبوت‏:20).
” وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ “ (‏الذاريات‏:21,20)‏.
” أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . ‏وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ “ (الغاشية‏17‏ـ‏20) .


وينتصر أصحاب هذا الموقف المعتدل لموقفهم بما ينعاه القرآن على الغافلين في التفكير في آيات السماوات والأرض في كثير من آياته التي منها قول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ :‏
” وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ “ (‏يوسف‏:105).
ووصفه لهؤلاء الغافلين بأنهم كالأنعام بل هم أضل ‏,‏ وتقديره بأن جزاءهم جهنم عقاباً لهم على إهمالهم نعم الله التي أنعم بها عليهم‏,‏ وذلك في مثل قول الله‏ ـ‏ تعالى ‏ـ :
” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ” (الأعراف‏:179) .               
ويستشهدون على ضرورة توظيف المعارف العلمية المتاحة لفهم دلالة الآيات الكونية في كتاب الله بربط القرآن دوماً بين الايمان بالله والنظر فيما خلق الله‏,‏ مثل قوله ‏ـ تعالى‏ ـ :
” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ “ (‏ البقرة‏:164)‏ .
وقوله‏ ـ‏ عز من قائل‏ ـ :‏
” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ .‏‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ “ (‏آل عمران‏:191,190) .
وقوله‏ ـ سبحانه وتعالى ـ :‏ ” وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ “ (الأنعام‏:75) .‏
وقوله‏ :
” لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ “ (غافر‏:57)‏ .
ويستشهد المنادون بضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية في كتاب الله بالإشارة إلى أن القرآن الكريم في استعراضه لإمور الكون يتناول كليات الأشياء‏,‏ تاركاً التفاصيل لاجتهاد الإنسان‏,‏ ولكنه في نفس الوقت ينبه باستمرار إلى جوانب مهمة في أشياء، مثل الكم والكيف وهما من أسس العلوم التجريبية‏,‏ الكم الذي يتعلق بالحجم والكتلة وبالزمان والمكان‏,‏ وبدرجات النمو والاندثار وغيرها، يتمثل في كثير من الآيات القرآنية التي نختار منها قول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ :‏” وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ “
(الرعد‏:8)‏.
وقوله ـ‏ سبحانه ـ :
” قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ” (‏الطلاق‏:3)‏.
وقوله ‏ـ عز من قائل‏ ـ :
” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ “ (‏القمر‏:49)‏.
وقوله‏ ـ ‏تعالى‏ ـ :‏
” وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً “ (‏الفرقان‏:2)‏.
وقوله‏ ـ‏ سبحانه وتعالى‏ ـ :‏
” وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ “ (‏المؤمنون‏:18) .‏
وبخصوص الكيف بمعنى هيئة الأشياء وتركيبها ومسبباتها‏,‏ ومجرى الظواهر الكونية وحدوثها والسنن الالهية وجريانها‏,‏ فإن القرآن يشدد التنبيه عليها في مواضع كثيرة منها قول الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ :” فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا “ (الروم‏:50)‏.
وقوله‏ ـ سبحانه‏ ـ :
” أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً . ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً “ (‏الفرقان‏:46,45) .‏
وقوله ـ عز من قائل ـ ‏:‏
” أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ “ (‏ق‏:6)‏.
وقوله‏ ـ‏ تعالى ‏ـ :‏
” أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . ‏وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ “ (الغاشية‏:17‏ ـ‏20)‏.
ويستشهد أصحاب هذا الموقف المعتدل كذلك على ضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية بتأكيد القرآن الكريم على أن لكل شيء في هذا الكون فطرته السوية التي فطره الله عليها‏,‏ والتي تخصه وتميزه‏ ,‏ وهي قاعدة أساسية من قواعد المنهج العلمي التجريبي في الكشف عن حقائق هذا الكون ومكوناته وسنن الله فيه ‏,‏ ونقرأ في ذلك قول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ :‏
” قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى “ (طه‏:50)‏ .
وقوله ـ‏ سبحانه‏ ـ‏ :
” الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى “ (‏الأعلى‏:3,2)‏.
وأن هذه الفطرة ثابتة ‏,‏ لا تتغير ولا تتبدل لقول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ :‏
” لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ “ (الروم ‏30)‏.
وأنها خاضعة لقوانين مطردة ‏,‏ لا تتخلف ولا تتوقف إلا بإذن الله‏ ,‏ وأنه لولا ثبات تلك الفطرة واطراد القوانين التي تحكمها ماتمكن الإنسان من اكتشاف أي من أمور هذا الكون‏ ,‏ وأن القرآن يصر على تسمية تلك القوانين بالحق‏,‏ وعلى أن الكون ومافيه خلق بالحق ‏,‏ ويطالب الإنسان بالتعرف على ذلك الحق والتزامه‏,‏ فالتنزيل ينطق بقول الله‏ ـ تعالى ‏ـ :‏
” أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ “ (الروم‏:8)‏.
وقوله‏ ـ عز من قائل‏ ـ :
” خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ “ (الزمر‏:‏5)‏ .
قوله‏ ـ ‏تعالى ‏ـ :‏
” هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ “ (يونس‏:‏5)‏ .
وقوله ‏ـ‏ سبحانه‏ ـ :
” وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ . مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ “ (الدخان‏: ‏39,38)           
كذلك فإن الذين يرون ضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله‏ ,‏ وفي الاستشهاد على الإعجاز العلمي لتلك الآيات ينتصرون لذلك بأن أكثر من أربعين سورة من سور القرأن الكريم البالغ عددها ‏114‏ سورة تحمل أسماء لبعض أشياء الكون وظواهره‏ ,‏ ويستشهدون بعرض القرأن للعديد من القضايا التي هي صميم العلوم التجريبية ، مثل خلق السماوات والأرض‏ ,‏ واختلاف الليل والنهار ‏,‏ وإتساع الكون‏ ,‏ ورتق السماوات والأرض وفتقهما ‏,‏ وبدء السماء بدخان‏,‏ وخلق الحياة من الماء وفي الماء ، واستعراض مراحل الجنين في الإنسان، وغير ذلك كثير مما لا يوفيه في هذا المقام حصر، ولكن تكفي الإشارة إلى آيات قليلة منها ، مثل قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ‏ :‏
” أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ “ (‏الأنبياء‏:30)‏.وقوله‏ ـ عز من قائل‏ ـ :” ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ” (فصلت‏:11)‏.
وآيات الكتاب الحكيم في كل ماعرضت له من أمور الكون تتميز بمنتهى الدقة في التعبير‏ ,‏ والشمول في المعنى والدلالة‏ ,‏ وبالسبق الاخباري بحقائق لم يتيسر للإنسان إلمام بها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين ‏.‏ وهذا بالقطع يشكل صورة من صور الإعجاز لم تتوافر لجيل من الأجيال من قبل‏ .‏ وسأفصل الحديث في الإعجاز العلمي للإشارات الكونية في كتاب الله في المقالات القادمة إن شاء الله‏ ـ تعالى‏  .‏

 

وخلاصة القول أن القرآن الكريم يزخر بالعديد من الآيات التي تشير إلى الكون وما به من كائنات‏ ـ أحياء وجمادات ـ‏ وإلى صور من نشأتها ومراحل تكوينها ‏,‏ وإلى العديد من الظواهر الكونية التي تصاحبها‏ ,‏ وقد أحصى الدارسون مثل هذه الآيات فوجدوها حوالي الألف آية صريحة‏ ,‏ بالإضافة إلى آيات آخرى عديدة تقرب دلالاتها من الصراحة‏ ، مما يبلغ بالآيات الكونية إلى سدس آيات القرأن الكريم تقريباًً ‏.ً
‏ ويقف المفسرون من هذه الآيات الكونية مواقف متعددة‏ ,‏ فمنهم المضيقون، والموسعون، والمعتدلون ‏.‏ فالمضيقون يرون أن تلك الاشارات لم ترد في القرأن لذاتها ‏,‏ وإنما وردت من قبيل الاستدلال على قدرة الله تعالى ‏,‏ وإبداعه في خلقه ‏,‏ وقدرته على إفناء الخلق وإعادته من جديد‏ ,‏ ومن ثم فلا يجوز تفسيرها في ضوء معطيات العلوم الحديثة، وذلك بدعوى انطلاق الكتابات العلمية من منطلقات مادية ‏,‏ منكرة لكل ماهو فوق المدرك المحسوس‏ .‏
أما الموسعون فيرون أن القرأن الكريم يشتمل على جميع العلوم والمعارف‏ ,‏ ولابد لحسن فهم ذلك من تفسيره على ضوء ما تجمع لدى الإنسان من رصيد علمي، خاصة في مجال العلوم البحتة والتطبيقية ‏,‏ ومن ثم فقد قاموا بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله وتصنيفها حسب التصانيف المعروفة في مختلف مجالات تلك ‏ العلوم‏ ,‏ وقد تميز ذلك بشيء من التكلف الذي أدى إلى رفض المنهج والوقوف في وجهه ‏.‏


أما المعتدلون فيرون أنه مع التسليم بأن الإشارات الكونية في القرآن الكريم قد وردت في معرض التذكير بقدرة الله‏ ,‏ وبديع صنعه‏,‏ فإنها تبقى بياناً من الله ‏,‏ خالق الكون ومبدع الوجود ‏,‏ ومن ثم فهي كلها حق مطلق ،‏ ولا غرابة إذن من إنسجامها مع قوانين الله وسننه في الكون‏ ,‏ ومع معطيات العلوم الحديثة عن حقائق هذا الكون‏,‏ كذلك فإنهم يرون أنه مع التسليم بأن تلك الإشارات لم ترد في القرأن الكريم بهدف التبليغ بالحقيقة العلمية‏ ؛‏ لأن الحكمة الإلهية قد اقتضت ترك ذلك لاجتهاد الإنسان على مر الزمن ‏,‏ إلا أنها تتميز بالدقة المتناهية في التعبير‏,‏ والثبات في الدلالة‏ ,‏ والشمول في المعنى بحيث يدرك فيه كل جيل ما يتناسب ومستوياتهم الفكرية ‏,‏ وما وصلوا إليه من علوم عن الكون وما فيه ‏,‏ ثم إن تلك الدلالات تتميز كلها بالسبق إلى الحقيقة الكونية قبل أن تدرك الكشوف العلمية شيئاً منها بقرون طويلة‏ ,‏ وهذا في حد ذاته يمثل الإعجاز العلمي للقرأن الكريم الذي هو أحد أوجه الإعجاز العديدة في كتاب الله‏ ,‏ ولكنه يبقى من أنسبها لعصر التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه لتثبيت إيمان المؤمنين ‏,‏ ودعوة الجاحدين من مختلف صور المشركين والكافرين والضالين ‏,‏ في زمن تحول فيه العالم إلى قرية كبيرة‏ ,‏ ما يحدث في أحد أركانها يتردد صداه في بقية أرجائها‏ ,‏ ولا يأمن أهل الحق أن يصيبهم ماأصاب الأمم الضالة من عقاب‏ ,‏ أو أن يجرفهم تيار الحضارة المادية فيذيبهم في بوتقتها، فيخسرون بذلك الدنيا والآخرة‏ ,‏ وطوق النجاة في الحالتين الاعتزاز بالإسلام العظيم‏,‏ والتمسك بالقرأن الكريم، الذي يتجلي إعجازه العلمي في عصر العلم الذي نعيشه ‏.



 

المراجع

بقلم : د زغلول النجار – التاريخ : 2001-04-03

المصدر

www.elnaggarzr.com


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى