الإعجاز العلمي في القرآن

الإعجاز التشريعي

 

تحدَّث كثير من الكاتبين عن الإعجاز التشريعي في القرآن، بطريقة لا تكشف حقيقة عن جانب جديد من الإعجاز القرآني، ينبع من أحكامه التشريعية. وقُصَارَى ما ينتهي إليه ذهن القارئ أو المتتبع لهذه الطريقة، أن في القرآن تشريعًا أصيلاً وأحكامًا مهمة وضرورية لمصالح الناس، وأن علماء الشرائع والقانون لا غنى لهم ـ على مرّ العصور ـ عن الإفادة منها والرجوع إليها. أما أنها تشكِّل مظهرًا من مظاهر الإعجاز في القرآن، فذلك شيء آخر قد يَخفَى على من يدرس الإعجاز التشريعي في القرآن بتلك الطريقة.

 

على أن الإعجاز التشريعي في القرآن حقيقة بارزة لا تقبل رَيْبًا ولا يكتنفها غموض، ولكن الأمر يحتاج إلى فهم حيثية الإعجاز التشريعي فيه، وهو ما فات التنبُّه له أو التنبيه إليه لدى كثير من الباحثين.

 

ولا شك أن التنبيه إلى هذه الحيثية التي هي مكمن الإعجاز التشريعي في القرآن يحتاج إلى مقدمة، نوجزها فيما يلي:

 

من المعلوم فيما أجمع عليه علماء القانون والاجتماع، أن آخر ما يُتَوَّج به تقدُّمُ أي جماعة أو أمة في نهضتها المدنية والحضارية، هو تكامل البنية القانونية والتشريعية في حياتها. أي أن ظهور صياغة قانونية متكاملة في الأمة يُعَدُّ الثمرة العليا لتقدمها الحضاري.

 

ولا يمكن أن نعكس هذه الظاهرة بحال من الأحوال، فلم نصادف أن نجد جماعة من الناس بدأت سيرها في طريق الرقى والحضارة بإرساء بناء قانوني متكامل لحياتها، بحيث جعلت منه منطلقها إلى الثقافة والرقى الاجتماعي والاقتصادي والعلمي؛ ذلك لأن الأمة التي لم تتقدم حضاريًّا بعد، والتي لا تزال تعيش في عهد البداوة وفى ظل الأعراف القَبَليَّة، ليس في حياتها الاجتماعية من التعقيد ما يُشعرها بالحاجة إلى سَنِّ قانون ووضع تشريع. غير أنها تزداد شعورًا بذلك تدريجيًّا كلما تقدمت حضاريًّا وازداد تركيبها تعقيدًا.

 

غير أن الذي ظهر في الجزيرة العربية، قبل أربعة عشر قرنًا، عَكْسُ هذا الذي أجمع عليه علماء القانون والاجتماع وعرفه الناس من تجارب الأمم ووقائع التاريخ.. فلقد ظهر فجأة بين تلك الجماعات الأميَّة من أهل الجزيرة العربية، قانون متكامل يتناول الحقوق المدنية، والأحوال الشخصية، ويرسم العلاقات الدولية، ويضع نظام السلم والحرب ويضبط آثارهما.. كل ذلك ولَمَّا تتعلم تلك الجماعات بعد شيئًا عن معنى المجتمع الذي يحتاج إلى قانون، ولَمَّا تأخذ بنصيب من العلم أو الحضارة والثقافة مما يُعَدُّ خطواتٍ أساسيةً لابدّ من اجتيازها في طريق الوصول إلى المستوى الذي يُوجِد الشعور بالحاجة إلى وضع تشريع وقانون.

 

فكِّرْ ما طاب لك التفكير، هل تجد من حلٍّ لهذا اللغز العجيب، إلا في اليقين بأن الكتاب الذي حوى هذا التشريع. إنما أنزل وحيًا من عند الله ولم يُؤلَّف من قِبَلِ أيِّ بشر على وجه الأرض؟

 

و إلاَّ، فأين المفرُّ من أعجوبة لا يقبلها عقل أي مفكر: أن تؤلِّف قبائل تُظِلُّها حياة البداوة البدائية البسيطة: قانون توثيق العقود، ونظام توزيع التركات والمواريث، وضوابط السلم والحرب، ثم تمر الأجيال وتتطور الظروف والأحوال دون أن يشعر أي باحث منصِف بأي مُوجِبٍ حقيقي لتغيير شيء من هذه النظم والأحكام؟ بل تُعقَد لدراسته المؤتمرات العالمية بعد مرور أربعة عشر قرنًا من وجوده وتطبيق المسلمين له، ويُجْمِع أساطين الفقه والقانون في ختام هذه المؤتمرات ـ على اختلاف مِلَلهم ومذاهبهم ـ على الأهمية البالغة لهذا التشريع، وعلى ضرورة دراسته والإفادة منه في الدراسات المختلفة.. أفيكون هذا التشريع الذي اتَّسم بهذا الخلود من وضع جماعات من العرب والأعراب الأميين الذي يحكمهم نظام البادية وأعراف القبيلة؟.. أيُّ مجنون هذا الذي يصدِّق مثل هذا الخلْط والهراء؟

 

من أجل هذا اللغز الذي لا يُحَلُّ إلا باليقين بأن هذا القرآن كلام الله، ذهب الباحثون المستشرقون ومن لفَّ لفَّهم يمينًا ويسارًا في البحث عن تحليل مقبول لقصة هذا التشريع الذي ظهر فجأة في الجزيرة العربية، فمرَّة فرضوا أنه مقتبس عن القانون الروماني، ولَمَّا رأوا أنه لا توجد أي جسور واصلة ما بين هذه الفرضية وواقع الجزيرة العربية آنذاك، تحوَّلوا عن هذا القول إلى فرض أنه مقتبس عن الشرائع اليهودية.. ولَمَّا أعوزهم الدليل على هذا الزعم العجيب قالوا: فلعلَّه مقتبس عن شريعة حمورابي!!

 

كل هذا، فرارًا من لغز عجيب يُلزمُهم ـ إن هم لم يقبلوا وجهًا من هذه الوجوه ـ بالقول بأن هذا التشريع ظهر هكذا في جو الجزيرة العربية دون أن ينبع من أرضها؛ لأنه غير معقول أن ينزل من سمائها، لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ونحن نقول: أمَّا أنه لا يمكن أن يكون قد نبع من أرضها، فهو صحيح، إن فاقد الشيء لا يعطيه بل لا يستشعر الحاجة إليه. وأمَّا أنه لا يمكن أن يكون قد نزل من سمائها فهذا ما نخالف فيه إن أردنا أن نحلَّ اللغز حلاًّ يقبله المنطق والعقل. بل نقول إنه لا يمكن إلا أن يكون شرعًا منزلاً من السماء، أي: من لدن ربِّ العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المبلغين له بلسان عربي مبين.

 

فإن لم نَحُلَّ اللغز عن طريق اليقين بهذه الحقيقة، فلنعلم أن اللغز سيظل قائمًا، وسيظل كل عاقل في حيرة من أمر هذا التشريع ومصدره، ولن يَحُلَّ شيئًا من الإشكال تلك الافتراضاتُ العشوائية التي لا تعتمد على أيِّ بيِّنة أو برهان أو حتى إشارة يُسْتَأنَس بها.

 

فهذه هي خلاصة القول عن الإعجاز التشريعي في القرآن. أما القول عن دقة هذا التشريع ومقوِّمات خلوده وصلاحيته، فحدِّث عن ذلك ولا حرج، والكلام في ذلك متشعب وطويل، إلا أن الحديث في ذلك خارج في جملته عن حقيقة الإعجاز الذي نتكلم عنه. وإنما مكمن الإعجاز التشريعي هو ما قد أوضحناه بشكل موجز1.

 

*****************************

 

(1) من روائع القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 153 ـ 156.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى