الإعجاز العلمي في قصة موسى وفرعون
﴿…إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾
(القصص:8)
هذا النص القرآني الكريم جاء في بداية العَشر الثاني من سورة “القصص” وهى سورة مكية، وآياتها ثمان وثمانون (88) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستعراضها قصة فرعون مصر مع كل من نبي الله موسى وأخيه نبي الله هارون، وما اتصل بذلك من خبر مستغل في الأرض مثل قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم. ويدور المحور الرئيسي لسورة “القصص” حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية من مثل التوحيد الخالص لله -تعالى- والإيمان بحقيقة الوحي وحتمية البعث والحساب والجزاء، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
وتبدأ سورة “القصص” بالأحرف الهجائية الثلاثة (طسم)، وقد سبق لنا استعراض قضية هذه الأحرف النورانية، ولا أرى حاجة للعودة إلى ذلك هنا. ثم تؤكد هذه السورة الكريمة على أن آيات القرآن الكريم واضحة جلية، وهو كتاب معجز في كل أمر من أموره، وقطعي الدلالة فيما يدعو إليه من عقيدة صحيحة، وعبادة مشروعه، ودستور أخلاقي كريم، وفقه عادل للمعاملات، وعدالة مطلقه في الأحكام. ثم تنطلق الآيات مستنكرة استعلاء فرعون مصر –على عهد نبي الله موسى –عليه السلام- في الأرض، وتجبره على الخلق حتى جعل من أهل البلد فرقا متعادية متعارضة حتى يبقى الجميع في رهبة منه، خاضعين لإذلاله وقهره، حتى لا يجرؤ أحد على منازعته سلطانه، وفي ذلك تقول الآيات في مطلع هذه السورة الكريمة:
﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ (القصص:1-6).
واستمرت الآيات (7-43) من سورة “القصص” في استعراض قصة نبي الله موسى –عليه السلام- من لحظة ميلاده إلى لحظة نجاته، بدءاً باضطهاد ومطاردة فرعون وجنوده له ولقومه حتى نجاة موسى عليه السلام ومن معه وإغراق فرعون وجنده في اليم أجمعين, وقد لعنهم الله -تعالى- في الدنيا، وجعلهم في الآخرة من المقبوحين. وامتدحت الآيات توراة موسى التي جعلها الله –تعالى- ﴿ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
وفى التأكيد على أن قصص الأولين في القرآن الكريم مما يشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية انتقلت الآيات بالخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين-صلى الله عليه وسلم- وذلك بقول ربنا -تبارك وتعالى- له ولأمته وللإنسانية جمعاء:
﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ (القصص:44-51).
وبعد ذلك تنتقل الآيات (52-55) من هذه السورة المباركة بالحديث عن أهل التوحيد من بقايا أصحاب الرسالات السابقة على بعثة الرسول الخاتم –صلى لله عليه وسلم- وقد سبق لهم أن أُخبروا باسمه، وصفاته، وبالأرض التي يخرج منها قبل بعثته الشريفة بقرون طويلة، فآمنوا به وبالقرآن الكريم الذي أُنزل عليه، وفى ذلك تقول هذه الآيات:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ﴾ (القصص:52-55).
وفى مواساة رقيقة لخاتم الأنبياء والمرسلين-صلى الله عليه وسلم- تخفف عنه كفر الكافرين، وشرك المشركين، وتنكر المتنكرين لبعثته الشريفة يقول له ربنا-تبارك وتعالى- : ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: 56).
ثم تنعي الآيات (57-59) من هذه السورة الكريمة على كفار ومشركى قريش ادعاءهم الباطل أنهم لو تَرَكُوا ما كان عليه آباؤهم من عبادة، واتبعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم يخشون اجتماع العرب عليهم لقتالهم وتَخَطُّفِهِم. وترد عليهم الآيات بأن الله -تعالى- قد جعل لهم الحرم آمناً رغم كفرهم وشركهم وابتداعهم في الدين، ورغم خروجهم على ملة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وعن التوحيد الخالص لله -تعالى- إلى عبادة، الأصنام والأوثان، أو َيُعْقَلُ أن يتركهم يُتَخَطُّفُونَ من بعد عودتهم إلى دين الله واستقامتهم على شريعته؟! .. وفى ذلك تقول:
﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾(القصص57:59).
وفى التأكيد على تفاهة الدنيا الفانية إذا قورنت بالآخرة الباقة تقول الآيتان (60،61) من سورة “القصص”: ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ ﴾ (القصص: 60،61).
وتستعرض الآيات (62-67) من هذه السورة المباركة شيئاً من الحوار الذي سوف يدور بين الذين اتَّبعوا والذين اتُّبعوا من المشركين في يوم الحساب، وتعقب بأن مَن تاب في الدنيا من شركه, وآمن بالتوحيد الخالص لله -تعالى- وعمل صالحاً فلعل الله –سبحان وتعالى- أن يقبل توبته، ويغفر زلته، ويقبله في زمرة المفلحين.
وتعاود الآيات توجيه الخطاب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فتقول له:
﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (القصص:68-70).
وتنتقل الآيات (71-73) من سورة “القصص” إلى التأكيد على نعمة تبادل كلٍّ من الليل والنهار، فلولاها ما استقامت الحياة على الأرض، وفى ذلك يقول ربنا -تبارك وتعالى- موجِّهًا الخطاب مرة أخرى إلى خاتم أنبيائه ورسله-صلى الله عليه وسلم- ليسأل كفار ومشركى قريش إن جعل الله عليهم أيًّا من الليل أو النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة هل يستطيعون العيش؟ فتقول :
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (القصص:71-73).
ثم تقرر الآيتان (74،75) من هذه السورة الكريمة حقيقة النداء على المشركين في يوم القيامة، حين يناديهم الله -تعالى- على رؤوس الأشهاد نداء التوبيخ والتقريع : ﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ في الدنيا؟، ثم يُخرج الله -تعالى- من كل أمة شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم –وهو نبيهم- وفى ذلك تقول هاتان الآيتان الكريمتان:
﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾(القصص:75،74).
وتنتقل الآيات (76-84) من سورة “القصص” إلى استعراض قصة (قارون) وذلك من أجل محاربة البطر، وللتحذير من الغرور بالدنيا، والطغيان بالمال، والإفساد في الأرض، ومن أجل التأكيد على أن الله -تعالى- هو الذي يبسط الرزق لم يشاء من عباده ويقدر، وأن الآخرة (الأبدية الخالدة ذات النعيم السرمدي) خير من الدنيا (المرحلية الفانية التي خاتمتها الموت) وفي ذلك تقول الآيات:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (القصص:76-84).
وتختتم سورة “القصص” بخطاب موجه من –الله تعالى- إلى خاتم أنبيائه ورسله –صلى الله عليه وسلم- والخطاب إليه هو خطاب إلى أمته خاصة – وإلى الناس-عامة-، وفى الخطاب وعد من الله -تعالى- بفتح مكة، وفى ذلك تقول الآيات :
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ * وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (القصص:85-88).
من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة ‹‹القصص››:
1. الإيمان بالله -تعالى- ربَّا واحداً أحداً ، فرداً صمداً، بغير شبيه، ولا شريك، ولا منازع، ولا صاحبة ولا ولد؛ وتنزيهه –سبحانه وتعالى- عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله. والإيمان بأن الله -تعالى- هو الغفور الرحيم، الذي يهدى من يشاء إلى صراطه المستقيم. ويربط على قلوب المؤمنين من عباده؛ وأن وعده حق، وأنه يخلق ما يشاء ويختار، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن كل شئ هالك إلا وجهه الكريم -أي ذاته العلية- فهو الحي القيوم الدائم الباقي، يحد خلقه بحدود كل من المادة، والطاقة، والمكان، والزمان، وهو -تعالى- فوق ذلك كله، لأن جميع المخلوقات من بديع صنعه، والمخلوق لا يحد خالقه أبداً. ولذلك فالله -تعالى- منزه على حدود المكان والزمان، والمادة والطاقة وعن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، وأنه –سبحانه وتعالى- له القضاء النافذ في جميع خلقه الذين حدد لكلٍّ منهم أجله، ورزقه, ثم إليه مرجعهم جميعاً ﴿ … وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (القصص:70).
2. التصديق بملائكة الله، وكتبه ورسله واليوم الآخر.
3. اليقين في صدق الوحي، وبأن القرآن الكريم هو آخر ما حمل الوحي لهداية الخلق أجمعين، ولذلك تعهد الله -تعالى- بحفظة تعهدا مطلقا، ولم يتعهد بذلك لما نزل قبله من صور الوحي.
4. الإيمان بوحدة رسالة السماء، وبالأخوة بين الأنبياء، وبين الناس جميعا، والتسليم بأن الشيطان هو للإنسان عدو مضلٌّ مبين, فلابد من معارضته وقهره.
5. اليقين بأن الشرك بالله-تعالى- كفر به، وأنه من أخطر مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان.
من الإشارات العلمية والتاريخية في سورة ‹‹القصص››:
1. الإشارة إلى أن القرآن الكريم كتاب مبين، ودراسته تؤكد ذلك.
2. ذكر تفاصيل كل من قصة نبي الله موسى مع فرعون وهامان وجنودهما، وقصة قارن مع قومه، وكلاهما من الإعجاز التاريخي في هذه السورة المباركة.
3. وصف هلاك الأمم السابقة على أنه كان ردا على ظلم الكفار والمشركين من بينهم، والممارسات البشرية والأحداث المعاصرة تدعم هذه الحقيقة، وتبقى شاهدة عليها.
4. الإشارة إلى أن الله -تعالى- يخلق ما يشاء ويختار، وأنه –سبحانه وتعالى- خالق كل شئ بعلمه وحكمته وقدرته التي لا تحدها حدود، ولا يقف أمامها عائق.
5. التأكيد على أن الله -تعالى- لا يخفى على علمه شيء ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.
6. الجزم بأن الله –تعالى- له الحكم في كل شيء، وأن إليه يرجع كل شئ، وموت كل شيء من خلقه شاهد على ذلك، وإقرار علم الفلك بضرورة وجو مرجعية للكون في خارجه تغايره مغايرة كاملة تؤكد على حقيقة وجود الله -تعالى- وعلى تنزهه –سبحانه وتعالى- عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
7. الإشارة بتبادل الليل والنهار إلى كروية الأرض، وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وإلى ضرورة ذلك التبادل لاستقامة الحياة على الأرض.
كل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها ولذلك سوف أعرض في المقال القادم إن شاء الله إلى الإعجاز التاريخي في استعراض قصة نبي الله موسى –عليه السلام- مع فرعون وهامان وجنودهما وقد كانوا من الخاطئين.
تابع الجزء الثانى من المقال فى المقطع رقم 2
هذا النص القرآني الكريم جاء في بدايات سورة “القصص” وهى سورة مكية، وآياتها ثمان وثمانون (88) بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لاستعراضها قصة فرعون مصر مع كل من نبي الله موسى وأخيه نبي الله هارون، وما اتصل بذلك من خبر مستغلٍ في الأرض من مثل قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.
ويدور المحور الرئيسي لسورة “القصص” حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة “القصص”، و ما جاء فيها من ركائز العقيدة، والإشارات العلمية والتاريخية، ونركز هنا على ومضة الإعجاز التاريخي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من الإعجاز التاريخي في قول ربنا -تبارك وتعالى-:
﴿…إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾
من الدقة المطلقة في القرآن الكريم وصف حاكم مصر في زمن نبي الله يوسف –عليه السلام- بوصف الملك، ونعته في زمن نبي الله موسى–عليه السلام- بلقب الفرعون.
كذلك من الدقة المطلقة في كتاب الله ذكر مهندس البناء في زمن فرعون موسى باسم “هامان”.
وقد دأب عدد من غلاة المستشرقين على استخدام هذه الإشارات ضد القرآن الكريم بدلا من استخدامها للتأكيد على الدقة المطلقة فيه، ولمناقشة ذلك أورد ما يلي:
أولا: الإعجاز التاريخي في نعت حاكم مصر في زمن نبي الله يوسف –عليه السلام- بلقب الملك، ونعته في زمن موسى –عليه السلام- بلقب الفرعون:
يعجب قارئ القرآن الكريم من وصف حاكم مصر في زمن نبي الله يوسف-عليه السلام- بلقب الملك الذي جاء في خمسة مواضع من سورة “يوسف”, بينما جاء وصفه في زمن موسي -عليه السلام- بلقب فرعون مصر أو الفرعون, وقد أورد القرآن الكريم لقب فرعون أربعة وسبعين(74) مرة في عرض قصة نبي الله موسي-عليه السلام-, والسبب في ذلك أن نبي الله يوسف -عليه السلام- عاش في مصر أيام حكم الهكسوس( أي: الملوك الرعاة), وذلك في الفترة من(1730 ق.م) إلي(1580 ق.م), وكان حكام الهكسوس يلقبون بالملوك وليس بالفراعنة, بينما عاش نبي الله موسي-عليه السلام- في زمن رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة، وكان معروفا باسم “فرعون الاضطهاد”, أو “فرعون التسخير”, و حكم مصر في الفترة من(1301 ق.م) إلي(1234 ق.م), ومات ونبي الله موسي في مدين، وخلفه من بعده على عرش مصر ولده الثالث عشر منفتاح (أو منفتا) المعروف باسم “فرعون الخروج”,
و الذي حكم مصر في الفترة من(1234 ق.م) إلي(1224 ق.م), ومات غارقا في أثناء مطاردته لنبي الله موسي -عليه السلام- كما أخبر بذلك القرآن الكريم. وفي هذه الفترة كان يطلق علي حكام مصر لقب الفراعنة, ومن هنا جاء ذكر حاكم مصر في زمن نبي الله موسى
-عليه السلام- بهذا اللقب في الآية الكريمة التي نحن بصددها وفى كل الآيات الأربع والسبعين التي ذكر فيها القرآن الكريم حاكم مصر في زمن نبي الله موسى –عليه السلام- .
أما نبي الله يوسف- عليه السلام-, فقد عاش في حدود الفترة من(1730 ق.م) إلي
(1580 ق.م), وكان حاكم مصر ملكا من العمالقة يعرف باسم الريان بن الوليد, كما ذكره مؤرخو العرب, ووجد اسمه منقوشا علي بعض الآثار المصرية القديمة( انظر مؤتمر تفسير سورة يوسف للشيخ عبد الله العلمي), وكان ذلك في الأسرة الخامسة عشرة, أو السادسة عشرة لدولة الهكسوس الرعاة في مصر, وكانت السلالة السابقة عليها في حكم مصر, وهي الأسرة الرابعة عشرة من الفراعنة المصريين, الذين حكموا في وادي النيل سنة(2000 ق.م), بينما كانت السلالة الرعوية المعروفة باسم “شاسو” أو “الهكسوس”, (أي: البدو الرعاة), يتنقلون في شرقي مصر علي حدود البادية فيما يعرف اليوم باسم محافظة الشرقية( أرض جاسان في الكتب القديمة),وكانوا يتكلمون لغة سامية متفرعة عن اللغة العربية, وكانت قريبة جدا منها, وكان الهكسوس يترقبون ضعف الفراعنة ليغزوهم, وكان الفراعنة حريصين علي مسالمتهم والاستعانة بهم في حروبهم لشجاعتهم, وشدتهم, وجلدهم, وقوة أبدانهم, شأن البدو في كل العصور. وظل الصراع بين ملوك الرعاة وفراعنة مصر حتى سنحت الفرصة لهؤلاء الرعاة بالانتصار عليهم, فاستولوا علي دلتا مصر وحكموها باسم ملوك الهكسوس في أثناء فترة الاضطرابات والفتن في أواخر عهد الأسرة الرابعة عشرة, واستعمروا الوجه البحري كله وبعض أجزاء من صعيد مصر, واستولوا علي مدينة( منف أو منفيس)، وولوا علي الأراضي التي احتلوها ملكا من بينهم, وانحسر حكم الفراعنة إلي جنوب مصر, الذي كانت عاصمته مدينة طيبة (الأقصر), وحكم الهكسوس أغلب شمال مصر, ودامت سيطرتهم عليه لنحو خمسة قرون, حتى قام الفراعنة بإسقاط ملكهم في أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد, وعاد الفراعنة لحكم كل من شمال وجنوب مصر من جديد, موحدين أرض مصر تحت حكمهم مرة ثانية.
وفي فترة دخول نبي الله يوسف -عليه السلام- إلي مصر كانت مملكة الهكسوس في دور انحسارها الذي تقلصت مساحتها فيه إلي مثلث تألفت رءوسه من كل من مدن منيا القمح، وبوبسطة (القريبة من مدينة الزقازيق), وبلدة صان الحجر.
ولم يجد نبي الله يوسف -عليه السلام- صعوبة في التحدث مع الهكسوس الذين كانوا يتكلمون لغة سامية قريبة من لغته, أما نبي الله موسي –عليه السلام- فقد عاش في حدود الفترة الزمنية (1264ق.م، 1184ق.م) وهى الفترة التي انتصر فيها الفراعنة على الهكسوس وطردوهم إلى خارج البلاد. ومن هنا تأتي ومضة الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة التي نحن بصددها في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: ﴿…إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾، وفى وصف حاكم مصر في زمن نبي الله موسى -عليه السلام- في أربعة وسبعين آية قرآنية كريمة، بوصف فرعون، بينما نعتته آيات القرآن الكريم في زمن نبي الله يوسف –عليه السلام- بنعت الملك في خمسة مواضع مختلفة من سورة “يوسف”، وذلك لأن يوسف-عليه السلام- لم يعمل لدي أحد من فراعنة مصر, الذين كان ملكهم في زمن وجوده بمصر قد انحسر إلي جنوب البلاد, وكانت عاصمتهم طيبة (الأقصر), وكانت لغتهم “الهيروغليفية” أي المصرية القديمة التي لم يكن يوسف -عليه السلام- يعرفها. وهذه اللمحة المعجزة -علي بساطتها- هي من جملة البراهين علي أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) على مدى يزيد على أربعة عشر قرنا, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا ليبقي القرآن الكريم ، شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين, وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
وهذا الوصف الدقيق لحاكم مصر في زمن نبي الله يوسف -عليه السلام- بوصف (الملك) هو من الأدلة الناطقة علي الدقة المطلقة لكل حرف, وكلمة, وآية أوردها القرآن الكريم, ولكل قاعدة عقدية, أو أمر تعبدي, أو دستور أخلاقي, أو تشريع سلوكي, أو خبر تاريخي, أو إشارة علمية, أو خطاب إلي النفس الإنسانية أو غير ذلك من القضايا المحكمة التي جاءت في ثنايا الآيات المتعلقة بركائز الدين الأساسية من العقيدة, والعبادة, والأخلاق, والمعاملات في هذا الكتاب العزيز.
ومن الثابت أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم- بعث خاتما للأنبياء والمرسلين في سنة(610 م), أي بعد أكثر من(2200 سنة) من وفاة أخيه يوسف بن يعقوب
– عليهما السلام-, وبعد أكثر من 1700سنة من وفاة أخيه موسى بن عمران-عليه السلام-، فمن غير الله الخالق – سبحانه وتعالي- يمكن أن يكون قد أخبره بتفاصيل قصة كل من نبي الله يوسف ونبي الله موسى –عليهما السلام- بهذه الدقة والشمول, والإيجاز المعجز دون ترك شيء من التفاصيل ـ؟ وإن قيل إنه كان لليهود بعض الجيوب في الجزيرة العربية علي عهده- صلي الله عليه وسلم- فإن التاريخ يثبت أن غالبية هؤلاء اليهود كانوا من البدو الذين لم يكونوا علي قدر كاف من الثقافة الدينية أو الدنيوية, وكانت صحفهم قد تعرضت للكثير من التغيير, وأن الإشارة إلى حاكم مصر في زمن كل من يوسف وموسى –عليهما السلام- في العهد القديم جاءت كلها بوصف الفرعون، مما يوضح الفارق الكبير بين كلام الله-تعالى- وكلام البشر.
ثانيا الإعجاز العلمي والتاريخي في ذكر اسم “هامان”:
لم يرد في العهد القديم ذكر لهذا الاسم “هامان” كأحد المستشارين في أمور البناء لفرعون مصر في زمن نبي الله موسى –عليه السلام-، وانطلاقا من ذلك أخذ عدد من غلاة المستشرقين في التهجم على القرآن الكريم –مع اعترافهم بأن العهد القديم صناعة بشرية كاملة ترجع بدايتها إلى أكثر من 3500سنة مضت وأنه منقول عن مخطوطات فقدت أصولها بالكامل، والمرجع الوحيد الموجود بين أيدي الكنيسة اليوم عبارة عن نصين موجزين باللغة اليونانية القديمة أحدهما ينسب إلى شبه جزيرة سيناء (النص السينوى) والآخر ينسب إلى الفاتيكان (النص الفاتيكاني) وكلاهما يرجع إلى سنة 350م، وهناك نصوص متفرقة جاءت بعد ذلك لا تعرف هوية كاتبيها. ولا يعرف نص كامل باللغة العبرية للعهد القديم إلا ذلك الذي تمت صياغتها في القرن العاشر الميلادي، أي بعد وفاة موسى –عليه السلام- بأكثر من ألفى سنة.
وقد ادعى المهاجمون للقرآن الكريم بأن الاسم (هامان) لم يذكره أي من مؤرخي الحضارة اليونانية القديمة، ولم يرد في أي نص تاريخي قديم عن مصرنا الحبيبة، وإن ذكروا وروده في أحد أسفار العهد القديم يعرف باسم “سفر استير” (Esther)، وجاء في هذا السفر أن ملك بابل [ أَحَشْوِيروش أو Xerxes)) ] استوزر رجلا باسم (هامان)، وأن هذا الوزير كان يبغض اليهود الذين سبق وأن أسرهم (نبوخذ نصر) ملك بابل السابق، لكن إحدى محظيات الملك كانت يهودية باسم (أستير) استخدمت فتنة الملك بها في الإيقاع بهذا الوزير حتى تم إعدامه شنقا. وانطلاقا من هذه الأسطورة اندفع عدد من غلاة المستشرقين إلى الادعاء الباطل بأن (هامان) لم يكن في مصر على عهد فرعون موسى، ولكنه كان في بابل على عهد الملك
[ أَحَشْوِيروش أو Xerxes))] بعد حوالي ألفى سنة من وفاة نبي الله موسى-عليه السلام-، علما بأنه لا يوجد ما يمنع من تكرار أسماء الأشخاص في عهود مختلفة، مع تسليمنا بأن قصة أستير هي قصة مختلقة في التراث اليهودي الذي أراد أن يعظم من دور بنات الهوى الساقطات عندهم، انطلاقا من عقيدة تميز العرق اليهودي، ولا يوجد أي سند تاريخي لها على الإطلاق.
ثم جاء الطبيب الفرنسي (موريس بوكاى) ليوضح الأمر لبنى جلدته في كتابه المعنون (موسى وفرعون) وفيه ما ترجمته: ‹‹لقد قمت بكتابة الاسم (هامان) باللغة الهيروغليفية وعرضته على أحد المختصين في تاريخ مصر القديمة. ولكي لا أدعه تحت أي تأثير لم أذكر له أنها وردت في القرآن، بل قلت له أنها وردت في وثيقة عربية قديمة يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي››. فقال لي المختص: “يستحيل أن ترد هذه الكلمة في أي وثيقة عربية في القرن السابع، لأن رموز الكتابة باللغة الهيروغليفية لم تكن قد حلّت آنذاك”. ويضيف الدكتور بوكاى قوله ‹‹ولكي أتحقق من هذا الأمر أوصاني بمراجعة قاموس يحمل العنوان التالي: “قاموس أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة” لمؤلفه (أللامند رانك). نظرتُ إلى القاموس فوجدت أن هذا الاسم موجود فعلا ومكتوب باللغتين الهيروغليفية والألمانية. كذلك كانت هناك ترجمة لصاحب هذا الاسم بأنه “رئيس عمال مقالع الحجر”. وكان هذا الاسم أو اللقب يطلق آنذاك على الرئيس الذى يتولى إدارة المشاريع الإنشائية الكبيرة. استنسخت هذه الصفحة من ذلك القاموس وذهبت إلى المختص الذى أوصاني بقراءته، ثم فتحتُ ترجمة القرآن بالألمانية وأريته اسم هامان فيه فاندهش ولم يستطع أن يقول شيئا”. ويضيف الدكتور موريس بوكاى قوله:
‹‹لو جاء ذكر اسم (هامان فرعون) في أي كتاب قبل القرآن، أو لو جاء ذكره في العهد القديم لكان المعترضون على حق، ولكن لما لم يرد هذا الاسم حتى نزول القرآن في أي نص آخر، وإن كان قد اكتشف بعد ذلك بقرون عديدة على الأحجار الأثرية لمصر القديمة وبالخط الهيروغليفي. فإن ورود هذا الاسم في القرآن بهذا الشكل المذهل لا يمكن تفسيره إلا بأنه معجزة، وليس ثمة أي تعليل آخر. أجل، إن القرآن هو أعظم معجزة ››. ويضيف هذا العالم الفرنسي الجليل (بوكاى) قوله:
‹‹وكما سبق القول بإنه ما من مؤرخ أو كاتب أشار إلى شخص اسمه (هامان) كان مقربا من فرعون مصر في عهد موسى –عليه السلام-، ولم يكن أحد من الناس يعلم شيئا من تاريخ مصر القديم، لأن العلماء كانوا عاجزين عن قراءة الكتابات المصرية القديمة المكتوبة بالهيروغليفية، وكانت هذه اللغة قد اندثرت تدريجيا في مصر حتى انمحت تماما. وكان آخر نص مكتوب بهذه اللغة قد سجل في عام 394م، ولم يعد أحد يتكلم باللغة الهيروغليفية أو يعرف قراءتها. واستمر هذا الوضع حتى عام 1822م عندما استطاع العالم الفرنسي “فراجيان فرانسوا شامبليون” فكّ رموز تلك اللغة باكتشاف نص مكتوب بها على حجر رشيد
(The Rosetta stone) مع ترجمة له إلى كل من اللغتين اليونانية القديمة والديموطيقية.
وقد تم اكتشاف هذا الحجر من قبل ضابط فرنسي عام 1799م في أثناء الحملة الفرنسية على مصر في قرية رشيد بمحافظة البحيرة. ووجد عليه نص يمجد فرعون مصر ويدون انتصاره وكان هذا النص مكتوبا بثلاث لغات هي: اللغة الهيروغليفية واللغة الديموطيقية (وهى اللغة العامية المصرية القديمة) واللغة الإغريقية. وكان تاريخ الكتابة يعود إلى عام 196ق.م. وقد ساعد وجود هذه اللغات الثلاث على فك رموز اللغة الهيروغليفية، فقد قام شامبليون بمضاهاة هذا النص بالنص الإغريقي وبنصوص هيروغليفية أخرى حتى نجح في فك رموز اللغة الهيروغليفية، وذلك لأن النص اليوناني كان عبارة عن أربعة وخمسين سطرا، وكان سهل القراءة. وهذا يدل على أن هذه اللغات الثلاثة كانت سائدة إبان حكم البطالسة الإغريق لمصر.
وبعد حل رموز الكتابة الهيروغليفية علمنا من الكتابات الموجودة على عدد من الأحجار الأثرية العائدة للتاريخ المصري القديم وجود شخص مقرب من فرعون مصر في عهد موسى –عليه السلام- كان مسئولا عن البناء اسمه “هامان”. وهناك حجر من هذه الأحجار المصرية القديمة ورد فيه هذا الاسم موجود في متحف “هوف” في “فينا” عاصمة النمسا ››. هذه شهادة عالم غربي محايد يشهد بأن القرآن الكريم هو أعظم معجزة في تاريخ البشرية كلها، انطلاقا من كلمة حق واحدة اتضحت له وهى اسم (هامان) مهندس بناء فرعون في عهد نبي الله موسى –عليه السلام- فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم : د زغلول النجار
المصدر:www.elnaggarzr.com