الخلق والإفناء والبعث
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ﴾ ( البقرة:258)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في العشر الأخير من سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة, ونركز هنا علي عدد من أوجه الإعجاز التاريخي والعلمي في الإشارة إلي حوار نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع ملك كافر متجبر في زمانه ادعي الربوبية كذبا وافتراء علي الله..
من أوجه الإعجاز العلمي والتاريخي في الآية الكريمة:
تتحدث هذه الآية القرآنية الكريمة عن حوار قصير دار بين نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأحد الملوك الطغاة المتجبرين الكافرين في زمانه, وقد حاج إبراهيم في ربه حين دعاه إلي الإيمان به, وذلك انطلاقا من اغتراره بالملك, واستعلائه علي الخلق, وتعنته في التعامل مع رعيته, ونسيانه أن الله ـ تعالي ـ الذي خلقه هو الذي آتاه الملك, وجعل في يده السلطان, وبدلا من شكر الله علي نعمائه, واستشعار جسامة المسئولية الملقاة علي عاتقه تجاه شعبه, أطغاه الملك وأبطره, وسول له الشيطان أنه هو الآمر الناهي علي العباد, ولا سلطان لأحد عليه, فطغي وبغي, وتجبر علي خلق الله من رعيته, ناسيا أو متناسيا فضل الله ـ تعالي ـ عليه بتمكينه من هذا الملك ليحكم بين الناس بالمساواة والعدل والإحسان, والرحمة بالرعية التي استرعاه الله إياها, ولكن شيطانه صور له غير ذلك.
ويعرض القرآن الكريم في الآية رقم(258) من سورة البقرة قصة هذا الطاغية في عجالة علي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ كما يعرضها علي كل قارئ لهذا الكتاب العزيز في تعجب من أمر هذا الحاكم الظالم, ومن أمر كل طاغية متجبر يشبهه في سلوكه في كل زمان ومكان فتقول الآية الكريمة: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ( البقرة:258).
واستهلال الآية ينطق باستهجان هذا الادعاء من عبد من عباد الله لنفسه وهو يدعي القدرة علي الإحياء والإماتة, وهي من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله. وقد اختار نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ قضيتي الإحياء والإماتة في محاجة هذا الملك الكافر لأنهما من الأمور الواضحة البينة, والواقعة أمام أنظار الناس في كل لحظة نري فيها مولودا قادما أو ميتا مفارقا. ولا يقوي علي ذلك أي من المخلوقين, لأن الله ـ تعالي ـ هو الذي قدر الخلق والآجال والأرزاق منذ الأزل, ولا يملك أيا منها أحد غيره, لذلك, فإن نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ عرف ربه بصفة من صفات الكمال المطلق التي لا يشاركه فيها أحد من خلقه, وهي صفة القدرة علي الخلق والإفناء والبعث, ولكن هذا الملك الكافر الذي أطغاه سلطان الملك, وغره جبروت الحكم, وأضله تحكمه في شعبه, وظنه أنه قادر علي إنفاذ حكمه في أي فرد بالموت وتنفيذ الحكم أو إعفائه منه, واعتبر ذلك ـ تجاوزا ـ قدرة علي الإحياء والموت, وهنا ألجمه نبي الله إبراهيم الحجة قائلا:… فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.
وواضح الأمر أن نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يشأ أن يسترسل في جدل غير منطقي مع هذا الملك الطاغية المتجبر علي شعبه, والذي اعتبر أن الحكم علي فرد من هذا الشعب بالموت وتنفيذه أو العفو عنه يشبه خلق الله ـ تعالي ـ الحياة من العدم ثم إفناءها وإعادة بعثها, فالمقارنة بين الحالين لا وجه لها علي الإطلاق, ولذلك انتقل أبو الأنبياء إلي سنة كونية أخري مؤداها أن أهل الأرض يرون الشمس طالعة عليهم من جهة الشرق, وغائبة عنهم في جهة الغرب, فطالب إبراهيم ـ عليه السلام ـ هذا الملك المدعي الربوبية أن يغير هذه السنة إن كان هو حقا كذلك, ولما لم يستطع ذلك هذا الكافر اللعين بهت, أي: أخرس وانقطعت حجته, وظهر عجزه وقهره, وبدت حيرته وغلبته, لأن( البهت) هو الانقطاع والحيرة. ولظلمه بادعائه الربوبية كذبا وافتراء علي الله فلم يلهمه الله حجة يرد بها, ولا برهانا يقدمه, ولذلك ختم الله ـ تعالي ـ الآية بقوله العزيز: والله لا يهدي القوم الظالمين لأن الظالمين حجتهم داحضة عند ربهم, وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وعملية الإحياء بمعني الخلق( بأبعاده الثلاثة: خلق الكون, وخلق الحياة, وخلق الإنسان أي إيجادها من العدم علي غير مثال سابق) لا يقدر عليها أحد إلا الله ـ سبحانه وتعالي ـ فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع, دقيق البناء, منضبط الأبعاد والكتل والأحجام والحركات, محكم في كل صفة من صفاته, وفي كل أمر من أموره.
والكون قائم علي أساس من وحدة تنتظمه في زوجية كاملة, تشهد لخالقه بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه.
وهذا النظام الواحد تفسره قوانين ثابتة, وتحكمه سنن مطردة تؤكد بما لا يرقي إليه شك أن كل موجودات الكون قد خلقت بقدر معلوم, ودقة متناهية, وحكمة بالغة.
وتكفي في ذلك الإشارة إلي أن أصل مادة هذا الكون هو غاز الأيدروجين الذي هو أبسط العناصر المعروفة, وأقلها كتلة, إذ يتكون من نواة بها بروتون واحد يحمل شحنة كهربية موجبة, ويدور في فلكه إليكترون واحد يحمل شحنة كهربية سالبة. وباتحاد نوي ذرات غاز الإيدروجين في درجات حرارة عالية وتحت ضغوط كبيرة في داخل النجوم بعملية تسمي باسم عملية الاندماج النووي تخلقت ـولا تزال تتخلق العناصر المعروفة لنا في الجدول الدوري للعناصر إلي ما قبل الحديد الذي لا يتخلق إلا في درجات حرارة عالية جدا لا تتوافر إلا في انفجارات النجوم العملاقة المعروفة باسم المستعرات العظمي, وعندما يتحول قلب النجم المستعر إلي حديد فإنه يستهلك طاقة النجم فينفجر, وتتناثر أشلاء ذرات الحديد في الفضاء الكوني, حيث تتمكن بعض تلك الذرات من اصطياد أعداد من اللبنات الأولية للمادة فتتخلق بقية العناصر المعروفة لنا في صفحة السماء.
وينزل الله ـ تعالي ـ العناصر المتخلقة في كل من داخل النجوم وفسحة السماء إلي كل من الأرض وباقي الأجرام بما يناسب كلا منها وبالقدر المعلوم.
كذلك فإن وحدة بناء الحياة هي الخلية الحية, وتقدر الدراسات أنواع الحياة النباتية المعروفة بأكثر من مليون نوع, والحياة الحيوانية المعروفة بأكثر من مليون ونصف المليون نوع, وبإضافة الأنواع المنقرضة, وبحساب معدلات الكشوف السنوية يرتفع ذلك التقدير إلي أكثر من خمسة ملايين نوع يمثل كل منها ببلايين الأفراد. والخلية الحية في جسم الإنسان لا يتعدي قطرها(0.03) من الملليمتر في المتوسط, ولا تتعدي كتلتها جزءا من مليار جزء من الجرام, وهي تفوق في دقة بنائها, وكفاءة أدائها أكبر المصانع التي أقامها الإنسان, بل التي فكر في إقامتها ولم يتمكن من تحقيق ذلك بعد.
فالخلية الحية في جسم الإنسان لها جدار حي يحافظ علي كيانها كوحدة مستقلة دون عزلها عزلا كاملا عن محيطها, بل يمكنها من تبادل كل من السوائل, والغازات, والعناصر, والمركبات التي تحتاجها الخلية أو التي تريد التخلص منها مع الوسط المحيط بها. ويوجد بداخل جدار الخلية سائل خاص معقد التركيب يعرف باسم الجبلة أو الهيولي(CytoplasmorProtoplasm) . وتعوم في هذا السائل نواة تمثل مركز التحكم في الخلية. ويغلف نواة الخلية غشاء خاص يسمح بتبادل البروتينات والمعلومات مع السائل الهيولي المحيط بها بدقة وإحكام بالغين.
ونواة الخلية الحية تمثل عقلها الذي يحمل صفاتها الوراثية وينظم كافة أنشطتها من مثل حمل الصفات الوراثية, والنمو والانقسام, والأمر بصناعة البروتينات المحددة وغير ذلك, فإذا ما ماتت النواة ماتت الخلية الحية.
ويوجد في هذا السائل الهيولي للخلية الحية عدد من جسيمات حية متناهية الضآلة في الحجم تعرف باسم عضيات الخلية(CellOrganelles) منها مولدات للطاقة تعرف باسم المتقدرات(Mitochondria), ومنها مراكز لتصنيع البروتينات تعرف باسم الريباسات(Ribosomes) وغيرها.
وفي داخل نواة الخلية توجد الشيفرة الوراثية المكونة من عدد محدد من الصبغيات المتشابكة مع بعضها البعض. وعدد الصبغيات محدد للنوع, فالإنسان ـ علي سبيل المثال ـ خصه الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ بستة وأربعين صبغيا في ثلاثة وعشرين زوجا, وإذا زاد عدد الصبغيات أو نقص عن هذا الرقم المحدد للإنسان فإما أن يشوه صاحب هذه الشيفرة أو لا يكون. والصبغيات تحمل الصفات الوراثية للفرد الواحد, كما تحمل مراكز توجيه صنع البروتينات المختلفة التي يحتاجها جسده.
وجسد الإنسان يتكون من مائة مليون مليون( مائة تريليون) خلية في المتوسط من الخلايا المتخصصة التي تتنوع وظائفها, وتنتظم في أنسجة متخصصة, ثم في أعضاء ونظم متخصصة تتعاون كلها في خدمة هذا الجسد البشري المبهر في تعقد بنائه, وفي دقة أدائه.
وتتكون الخلية الواحدة من خلايا جسم الإنسان من مليون جزيء علي الأقل من الجزيئات البروتينية والأحماض النووية التي تشكل اللبنات الأساسية في بناء الخلية الحية, بالإضافة إلي العديد من الدهون, والشحوم, والكربوهيدرات والفيتامينات, والكهارب, وغير ذلك من المركبات الكيميائية التي توجد بنسب محددة, وتتفاعل مع بعضها البعض بدقة فائقة.
وتؤكد دراسات كل من الخلية الحية والكيمياء العضوية استحالة أن يتكون بمحض المصادفة جزيء واحد من جزيئات الأحماض الأمينية العشرين التي تتكون منها جزيئات البروتين. وتنبني الخلية الحية الواحدة من خلايا جسم الإنسان من مليون جزيء من تلك الجزيئات, وينبني جسم الإنسان من مائة تريليون خلية في المتوسط. وهذا يشهد أن الخلق لا يمكن أن يكون قد جاء بعشوائية أو صدفة, بل لابد له من خالق عظيم له من صفات الربوبية والألوهية ما يظهر في إحكام خلقه.
ومن هنا كان استشهاد نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعملية الإحياء والإماتة( أو الخلق والإماتة والبعث) التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين, فلما حاول هذا الملك المدعي الربوبية الكاذبة التحايل علي هذا الأمر بخدعة كاذبة, انتقل نبي الله ابراهيم ـ عليه السلام ـ إلي الاستشهاد بسنة كونية مشاهدة ومتكررة وهي الحركة الظاهرية للشمس بالنسبة لأهل الأرض وهي تطلع عليهم من الشرق, وتغيب عنهم في الغرب, وتساءل: هل يستطيع مدعي الربوبية تغييرها؟( فبهت الذي كفر).
وكعادة القرآن الكريم في استعراضه بعض قصص السابقين وعرضها علي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وعلي أمته من بعده, لاستخلاص الدروس والعبر منها, ركزت هذه الآية الكريمة علي العبر المستقاة من حوار نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع هذا الملك الذي كان يدعي الربوبية لنفسه, دون ذكر اسمه. ولكن حاول بعض المؤرخين باستعراض الوضع في منطقة ما بين النهرين في الفترة التي عاشها نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ والمقدرة بأوائل الألفية الثانية قبل الميلاد في حدود(1861 ـ1686 ق.م) فوجدوا أن هذه التواريخ تتوافق مع الحضارة البابلية( التي امتدت في حدود1900 ق.م ـ1300 ق.م), ومع ملك كان يدعي نمرود بن كنعان, وقد كان يمثل رأس الطواغيت في زمانه, لأنه كان أول من ادعي الربوبية, ويقال إنه من أحفاد حام بن نوح ـ عليه السلام ـ وكان قائدا عسكريا ذا بطش وطغيان, فاتسع ملكه ليشمل مدن أكاد, وبابل, وأوروك, كما أنشأ في شمال العراق كلا من مدينة نينوي, التي تقع إلي الغرب من مدينة الموصل, ومدينة نمرود( كلخ) التي تقع إلي الجنوب الشرقي منها, ولكن لا يستطيع أحد الجزم بذلك.
هذه الواقعة من سيرة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم ترد في أي من كتب الأقدمين, ووجودها في القرآن الكريم هو وجه من أوجه الإعجاز التاريخي الذي يدحض دعوي المدعين بأن القصص القرآني مستمد من بعض المصادر القديمة, علما بأنه إذا وجد شيء من التشابه فهو حجة للقرآن الكريم وليست عليه, لأن مصدر الوحي السماوي واحد هو الله ـ سبحانه وتعالي ـ وذكر هذه المحاجة, بالإضافة إلي أنها من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله, هي أيضا من أوجه الإعجاز العلمي لاستدلالها بعمليتي الإحياء والإماتة( الخلق والإفناء والبعث) وبسنة من سنن الكون وهي: الحركة الظاهرية للشمس الناتجة عن دوران الأرض حول محورها وعن جريها في مدارها حول هذا النجم, وكلاهما من صميم القضايا العلمية, ومن الشواهد المدركة بواسطة الناس جميعا برغم طبيعتهما العلمية الدقيقة, ومن هنا كان الاستشهاد بهما ومضة من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله ـ تعالي ـ تشهد له بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية), و تعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا, فبقي القرآن محفوظا بحفظ الله ـ تعالي ـ علي مدي فاق الأربعة عشر قرنا, وسيظل محفوظا إلي أن يشاء الله ليبقي شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين.. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم : د زغلول النجار
المصدر : http://www.elnaggarzr.com/