الدين الحق يخلو من التعارض والتناقض
مع تقدم معرفة البشر وفهمهم، فإنهم لا يزالون يرتكبون الأخطاء، ولا تزال جميع الدساتير والتشريعات والأنظمة التي يضعها البشر في جميع الأزمنة والعصور تحتاج بشكل مستمر إلى التصحيح والتنقيح والتغيير كلما ظهر للناس عيوبها وأخطاؤها وتبعاتها السلبية. ويقول القاضي الفاضل أستاذ العلماء البلغاء عبدالرحيم بن علي البيسانيّ وهو يعتذر إلى العماد الأصفهاني عن كلام استدركه عليه: “إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتابًا في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لو غُيَّر هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل.. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”.
وبما أن الدين الحق هو دين الخالق المعبود، المتّصف بصفات الكمال كلها، والذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، فلابد لهذا الدين أن يكون خاليًا من التعارض والتناقض. وأي دين يحوي متناقضات ومتعارضات وغير مطابق للواقع، فليس هو الدين الحق المنزّل من عند عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، وإنما هو دين بشري من كلام البشر، أو دين سماوي دخلته أيدي البشر فأخرجته عن إطاره الرباني، فالبشر أخبارهم قد توافق الواقع وقد تخالفه.
وأيّ دين يحوي مطابقة بعض أخباره المستقبلية للواقع دون بعض فهو من كلام البشر، فالبشر قد يتنبأون بالشيء فيحدث وقد لايحدث، وأيّ دين يحوي موافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض فهو دين بشري من كلام البشر؛ لأن كلام البشر قد يتوافق مع المعقول وقد يختلف، وأيّ دين يناقض بعضه بعضًا فهو من كلام البشر، فدين الله الحق منزّه عن التناقضات. وإجمالًا، فإن كل دين ليس من عند الله عزّ وجلّ لا يخلو عن تناقض واختلاف. وصدق اللَّه القائل في القرآن: أَفَلَا يَتَدَبَّرُوْنَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلَافًا كَثِيْرًا (82) النساء. ولو كان القرآن الكريم ليس من عند الله، فستكون هناك حتمًا اختلافات وتناقضات وأوجه قصور عبر العصور.
بينما نجد أن الأديان البشرية أو الشركية أو المحرّفة، وفي مقدمتها اليهودية والنصرانية، جميعها مليئة بالتناقضات والتعقيدات، نجد أن الإسلام رسالة عالمية واضحة لا تعارض فيها ولا تناقض، ولا غموض فيها ولا أسرار، رسالة عالمية يسيرة مُيسِّرة، صالحة لكل زمان ومكان. وجميع الشبهات التي أثارها الملحدون أو أصحاب الديانات الأخرى، بأن هناك تناقضات في القرآن الكريم، تنم عن جهلهم به أو بلغته، وقد قيّض الله للإسلام علماء راسخين يبيّنون زيف شبهاتهم. ولو كان في القرآن شيء من التناقض لأثاره أعداء الدين الإسلامي قديمًا، فقد نزل القرآن على أمّة برع أهلها في علم الكلام إنشاءً ونقدًا وبلاغة، ولم يستطيعوا أن يجدوا في القرآن مطعنًا، رغم رفضهم لرسالة الإسلام ومحاولاتهم المختلفة أن يظهروا للناس معايب تلك الرسالة ويصدون الناس عنها. لقد قالوا عن النبي مُحمَّد –صلى الله عليه وسلّم- إنه ساحر أو مسحور أو شاعر أو مجنون، ولكنهم لم يطعنوا في القرآن من حيث أسلوبه وإحكام سبكه؛ بل مُنْصفهم يقرُّ أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، وهذا مدوّن في كتب السير والتاريخ وغيرها، فكيف يأتي الآن من لا يفهم العربية أصلًا، ولا يتكلمها على وجه صحيح فصيح، ثم ينتقد هذا الكتاب العظيم، فيما لم يمكن لأولئك أن ينتقدوه فيه؟!! أظن أن أيّ عاقل منصف لا يقبل ذلك. فمشركو العرب المتقدمون أكثر احترامًا لعقولهم وعقول من يخاطبونهم من هؤلاء المتأخرين.
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يخلو من أي قصور أو خطأ أو تناقض، بل جميع ما فيه هو الحكمة والخير والعدالة والإعجاز، وعلى خلاف ذلك كتب الأديان الأخرى، فالتوراة التي بين أيدي اليهود الآن، مليئة بالأخطاء والتناقضات والتحريفات البيّنة الواضحة التي يصعب حصرها. ويقول المسيحيون القدماء، بأن اليهود قد حرّفوا التوراة لتصبح الترجمة اليونانية غير معتبرة، ولعناد المسيحية. وباعتراف اليهود أنفسهم، فإن ما بأيدي اليهودية الآن ليست بالتوراة التي جاء بها موسى -عليه السلام-، لأن التوراة نزلت باللغة الهيروغليفية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بينما حدث أوّل تدوين لأسفارها في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، الأمر الذي يعني أن التراث اليهودي قد ظل تراثًا شفهيًا ومتقطّع السند لمدة ثمانية قرون، أصاب التوراة خلال هذه القرون ما أصابها من التغيير والتبديل، والتحريف والتلويث، من قِبَل الأيدي الخفيَّة ذات المصالح والمطامع، والانقياد تبعًا للأهواء والشهوات.
أما كتاب النصارى المقدّس، فهو يحوي مئات الأخطاء والتناقضات، وذلك باعتراف النصارى أنفسهم. ومع فساد العقيدة النصرانية في الإله الخالق، فإنه لا يوجد في كافة الأناجيل المطروحة مع اختلافها تصريح واحد، أو عبارة واحدة يدّعي فيها المسيح –عليه السلام- أنه الله، أو يقول فيها (اعبدوني)، مما يؤكّد أن الكتاب المقدّس ليس إلا صناعة بشرية من أعداء الله تعالى، وأعداء دينه وأعداء أنبياءه ورسله.
ومن المُناقض للعقل الرشيد، أيضًا أن المسيح –عليه السلام- كان يصلّي، و كان مُتعبِّدًا، وإذا كان ذلك الابن إلهًا كما تزعم النصرانية، فمن كان يعبد؟! فلا يتعبّد إلا من كان مخلوقًا، وليس إلهًا خالقًا، لذلك، فإنه يتبيّن لنا تناقض عقيدة النصرانية بشهادة كتابها مع صريح العقل السويّ. ومن تناقضات النصرانية، أنك تجد في كتابها المقدّس أن المسيح –عليه السلام- نفسه يعلّمهم كيف يُصلّون للَّه، ويعلمهم كيفية الدعاء، حيث قال لهم: “صلوا كذلك، صلوا للَّه وقولوا: واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا” (انجيل متى 6: 14). وإذا ما علّمهم المسيح –عليه السلام- ذلك من أجل أن يغفر اللَّه خطاياهم، ويكفّر عنهم ذنوبهم، فكيف يكون مات تكفيرًا لخطاياهم؟!
ونجد في أناجيل النصارى أن إلهَهُم المزعوم كان يشرب الخمر، وقد جَرَّبه الشيطان وضلّله أربعين يومًا، وكان يبكي ويحزن ويكتئب، وأنه كان ضعيفًا، وكان يخاف ويهرب متخفيًّا، وأنه كان قد تمّ القبض عليه، وأسْرُه وتقييده، بل إنه (الإله الابن المزعوم) قد بُصق في وجهه، ولُطِم أيضًا على وجهه، ولم يستطع فعل أي شيء، كما يتبيّن ذلك من كتب النصرانية في إنجيل لوقا، وإنجيل متى، وإنجيل يوحنا. ولم تكتف النصرانية في توهّماتها وادّعاءاتها على ذلك فحسب، بل إنها تقول بأن ذلك الابن الذي قد نُسبت إليه الألوهية، قد مات على الصليب بعدما أُهين وعُذِّب، وبصق في وجهه، ولُطِم عليه، وتجعل من ذلك عقيدة لها. ولا شك، أن ذلك الذي تزعمه النصرانية، لا يمكن أن تقبله فطرة سويّة أو عقل رشيد، منسوبًا إلى الإله الخالق جلّ وعلا. تعالى الله عز وجل عن كل تلك الادّعاءات الكاذبة والافتراءات الباطلة، علوًا كبيرًا.
ومن التناقضات الصريحة التي تقع فيها النصرانية، أنها تنسب إلى الله تعالى الولد افتراءً عليه، وتقول بأن المسيح هو ابن الله المولود، وليس المخلوق. والتساؤل: كيف يكون مولودًا وليس مخلوقًا؟! وهل يولد الإله (حيث تزعم النصرانية ألوهية المسيح)؟! وأي عقل راجح رشيد يقبل مثل ذلك؟! فكون المسيح مولودًا، فإن ذلك يعني أنه (المسيح) في احتياج لمن خلقه وأوجده. ويعني أيضًا، أن المسيح كان قبل ولادته عدمًا، أي لم يكن شيئًا، ومن ثم فإنه لا يملك شيئًا. ومن ثم يتضح لنا: أن المسيح لم يكن إلا مخلوقًا مُكرمًا من الله تعالى، خلقه المولى سبحانه وتعالى من غير أب، كما خلق آدم عليه السلام من غير أب، بل ومن غير أم أيضًا.
إن النصرانية قد غالت في المسيح إلى درجة تأليهه ومن ثم عبادته، في الوقت الذي قد علم فيه الجميع ولادته بعد أن حملت به أمه (السيدة مريم). والتساؤل المهم: هل يولد الإله؟! وهل يمكن خروج مثل ذلك الإله المولود، المعبود من قِبَل النصارى، من مجرى البول؟! وهل يمكن لفطرة نقية وعقول سويّة قبول مثل تلك التوهمات والافتراءات؟! بالطبع: لا يمكن لشخص سويّ، ليس بمتعصب، وغير متبع لهوى أن يقبل أيًّا من تلك الافتراءات التي تزعمها النصرانية.
ومن التناقضات الكبيرة في عقيدة النصرانية، نجد أن لوقا (أحد مؤلفي أناجيل النصرانية)، والذي تدّعي النصرانية أنه كان مُلهمًا فيما يكتبه، يذكر في إنجيله الذي ألفه، أن المسيح كان ابن يوسف، وذلك يعني أن المسيح ليس إلها وليس ابنًا للإله، حيث إن أباه معروف، وهو يوسف النجار، وبذلك يكون ما سجله لوقا في إنجيله مخالفًا ومناقضًا للمسيحيين أنفسهم، من حيث تأليههم للمسيح، وذلك يدل على التناقض الكبير الذي تقع فيه النصرانية، مما يبرهن على بطلان معتقدها المخالف والمناقض لأدنى درجات المعقول.
وهكذا تتخبّط النصرانية في ذلك المعتقد الذي تزعمه تخبطًا عظيمًا، وأن ما جاء في إنجيل لوقا يعني أن السيدة مريم إما أنها قد تزوجت من يوسف النجار، وأنجبت المسيح، ومن ثم فإن ذلك يكون مخالفًا لما عليه المسيحيون بل والمسلمون أيضًا، حيث إن السيدة مريم لم تكن متزوجة؛ أو أنها (السيدة مريم) كانت غير متزوجة من يوسف النجار، وبذلك يكون إنجيل لوقا قد نسبها إلى الفحش والفجور، ومن ثم نَسْب ولدها إلى أنه وَلَد زنا، موافقًا بذلك ادّعاء اليهود،
ولا شك أن ذلك ادّعاء باطل، وكذب محض.
وعلى الرغم من أن المسيح –عليه السلام- لا نسب له أصلًا، لأنه قد وُلد من غير أب، نجد أن النصرانية قد اخترعت له نسبًا، متضمنًا لستة من الزناة وذريتهم، مع أنه كان من المفترض أن يُرجموا (كزناة). ومن التناقض العجيب أيضًا، أن أحد مؤلفي الأناجيل المتضمن لها الكتاب المقدس للنصرانية، وهو متى، قد قام بتسجيل 26 اسمًا في سلسلة، مُدّعيًا بأنها سلسلة نسب المسيح من جهة أبيه، على الرغم من أن المسيح قد وُلِد من غير أب. أما لوقا (أحد مؤلفي الأناجيل)، فيضع هو الآخر في إنجيله نسبًا للمسيح، ولكنه لم يوافق متى على تلك السلسلة من النسب المزعوم للمسيح، ولم يكتف بـ (26) أبًا وجدًا لإلهه الذي يعبده (المسيح)، بل إنه سجل (41) أبًا وجدًّا لإلهه ومخلصه الذي يؤمن به. وفي كلتا سلسلتي النسب المزعوم للمسيح، بإنجيل متى ولوقا، لا يوجد اسم واحد مشترك، سوى اسم يوسف، الذي يزعم كل منهما (متى ولوقا) في غرابة ودهشة، أنه والد المسيح.
وفي سبيل معالجة هذه التناقضات، نجد من يضيف إلى الأناجيل، ويحذف منها، ويبّدل ويغيّر فيها، كيفما يمليه عليه عقله وهواه، كأن يتم إضافة عبارة (على ما كان يُظن) بين علامتي تنصيص، في محاولة للخروج من ذلك المأزق ذا الحرج الشديد الذي أوقعهم فيه لوقا (أحد مؤلفي أناجيل النصرانية) في إنجيله، حيث نسب المسيح إلى أنه كان ابنَ يوسف، موضحًا سلسلة طويلة لنَسبه. ثم نجد المكر والخداع، والتحريف البيّن، بأن يتم حذف القوسين اللذين بداخلهما عبارة – على ما كان يُظن – لإدراجها داخل إنجيل لوقا كجزءٍ منه، غير مضاف إليه.
والمسيحيون يعتقدون بألوهية المسيح لأنه وُلد من غير أب، فلو تفكّروا في هذا الكون المرئي من حولهم للاحظوا أن المخلوقات فيه لا تعدو أن تكون واحدة من أربعة: إما إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا، وهذا ما يُعرف عند العلماء بالقسمة الرباعية. وإذا تفكّروا في النوع الإنساني نفسه يجدونه يخضع لهذه القسمة الرباعية، حيث يهب اللَّهُ عز وجل لمن يشاء إناثاً فقط، ويهب لمن يشاء الذكور فقط، أو يجمع لمن يشاء بين الذكور والإناث، ويجعل من يشاء عقيماً. وكذلك هي القسمة الرباعية في أصل هذا النوع الإنساني، حيث خلق اللَّهُ عز وجل أبانا آدم – عليه السلام- بلا ذكر ولا أنثى، وخلق أمنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى، ثم لتكتمل هذه القسمة الرباعية كان لا بد أن يكون من البشر ما هو مخلوق من أنثى بلا ذكر، وتحقّق ذلك في المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، الذي أراد اللَّهُ أن يكون في خلقه بهذه الطريقة آيةً للناس على كمال قدرته سبحانه وتعالى. فلو أن الله عز وجل أراد أن يخلق الملايين من المسيح لخلقهم بكلمة منه سبحانه وتعالى. ولو تفكر أهل الكتاب في هذه الحكمة من خلق عيسى –عليه السلام-، لما تشتتت بهم الأهواء، حتى أنزله اليهود إلى حضيض الجُناة، ورفعه النصارى إلى مقام الألوهية، وكلاهما على باطل.
المصدر :طريق القرآن