العهد القديم وافتراءه على المرسلين
اليهود يكرهون العرب كما يكرهون غيرهم من الأجناس الأخرى فيجب أن تعتمد هذه الكراهية على أساس دينى يصبح العرب بعده ملعونين فى الأرض والسماء.
فكيف يتوصلون إلى هذا الغرض ؟
إنهم يثبتون قصة طريفة يزعمون فيها أن نوحاً نبى الله والمدافع الأول عن دينه والناجي بأهله من الطوفان الطام العام، هذا النبى سكر من كثرة ما أفرط فى شرب الخمر، ثم استلقى على الأرض كاشفاً سوأته، وأن أحد أبنائه رآه كذلك فضحك منه وشهر به .
فلما أفاق نوح من سكرته، وعلم بما وقع، لم يخجل من نفسه وتبذله، بل استنزل لعنة الله على من سخر منه، وهاك النص:
“وشرب -يعنى نوح- من الخمر فسكر وتعرى فى خبائه، فأبصر “حام” أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً، فأخذ “سام” و “يافث” الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما، فلما استيقظ “ نوح “ من خمره علم ما فعل ابنه الصغير، فقال: ملعون “ كنعان “، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله “ سام “، وليكن كنعان عبداً لهم، ليفتح الله ليافث فيسكن فى مساكن سام وليكن “ كنعان “ عبداً لهم” تكوين: اصحاح 9
يقول عصام الدين ناصف : ومعنى ما تقدم أن الإسرائيليين الساميين يريدون أن يتخذوا الكنعانيين عبيداً لهم، وقد كان العدل والمنطق يقتضيان ذلك النبى الجليل ألا يصب تلك اللعنة الحامية على حفيده البريء “ كنعان “ بل يصبها على ابنه الخاطئ “ حام “، وأنى له ذلك والكنعانيون هم المقصودون بأعيانهم لأنهم أصحاب فلسطين التى لبث الإسرائيليون دهوراً يحلمون بها ويتوقون إلى غشيان مروجها الزاهرة وجنى زروعها الناضرة.
أى أن مؤلف التوراة مهتم بتزكية بنى إسرائيل على حساب تجريح غيرهم، ومن ثم استنزل اللعنة على كنعان، حتى تبقى الشعوب المنسوبة إليه فى منزلة رزية .
ولا بأس من اختلاق سبب لهذه اللعنة تذهب فيه كرامة نبي ومكانته .
إذن ليشرب نوح الخمر حتى يفقد وعيه ويكشف عورته .
ثم ليدع على حفيده بما دعا به، والحفيد المسكين لا جريرة له .
المهم أن الكنعانيين أصبحوا جنساً ملعوناً لأن دعوة “السكران” مستجابة !!
وكما رأى كاتب التوراة أن يُسكر نوحاً ليصل إلى هذه النتيجة، رأى أن يُسكر لوطاً ليصل إلى نتيجة مشابهة.
إن تلويث الأنبياء شىء سهل على من هونوا الألوهية نفسها، ولكن مزور العهد القديم هنا بلغ من الإسفاف دركاً سحيقاً، فهو لم يكتف بأن جعل لوطاً سكيراً بل جعله عاهراً .
وبمن يزنى ؟ بابنتيه: إحداهما بعد الأخرى، فى ليلتين حمراوين، وهاك النص: ” .
.. فسكن -يعنى لوط- فى المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس على الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ! هلم نسقى أبانا خمراً ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلاً !! فسقتا أباهما خمراً فى تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث فى الغد أن البكر قالت للصغيرة: إنى قد اضطجعت مع أبى، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي اضطجعى معه، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابناً، ودعت اسمه “ موآب “ وهو أبو الموآبيين إلى اليوم” تكوين: اصحاح 19
يقول عصام الدين حفنى ناصف: “ وهذا هو مربط الفرس ! لقد عرف شعبا موآب وبنى عمون بصلابة الرأس وصعوبة المراس .. وما انفكا منذ القدم ينصبان لحرب بنى إسرائيل ويدحرانهم وينزلان بهم أكبر الخسائر” ..
“ فوجب على كتاب التوراة أن “ يتلقحوا “ عليهما [ أى يرمون الناس بالباطل ] ويطلقوا ألسنتهم فى أعراضهما ويلصقوا بهما أقبح المثالب “ ..
وفى سبيل ذلك لا حرج على اليهود أن يسيئوا إلى نبي كريم، وأن ينسبوا إليه وإلى ابنتيه ما يتورع عنه الحشاشون والرعاع .
المهم عندهم أن يجرحوا أعداءهم، وأن يسقطوا أنسابهم، وأن يعتمدوا فى ذلك على وحي سماوي معصوم، لا يجرؤ على تكذيبه أحد !!
“وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون” آل عمران: 78
يقول عصام الدين حفنى ناصف : وصفوة القول أن كتاب التوراة لم يدونوا هذه القصص المسلسلة اعتباطاً، بل إنهم ابتدعوها ورتبوها ليصلوا بها إلى غاية لهم وضعوها نصب أعينهم، هي أن الله خلق الكون من أجل الأرض، وخلق الأرض من أجل بني آدم، وأنه أباد بني آدم وقطع دابرهم ما عدا نوحاً وبني نوح، واستبقى هؤلاء ليختار من بينهم ساماً ثم يختار من حفدته إسرائيل وبني إسرائيل. ا.ه .
ولقد آمن بنو إسرائيل بهذه الخزعبلات، وانتفخت أوداجهم غروراً وتبجحاً فتوهموا أنهم شعب مقدس.
جاء فى سفر التثنية هذا النص : “لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك ، إياك قد اختار الرب إلهك، لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض” ثنية: 7: 6
وهذا الاعتداد القوي بالجنس والشعب هون عند اليهود كثيراً من القيم والفضائل، فإن طمأنينتهم إلى شرف الأرومة، ونبل الجرثومة جعلهم لا يبالون شيئاً عندما يقولون أو يفعلون، فهم ـ على أية حال ـ “ الأسباط “ أولاد الأنبياء، وجلية الدنيا !!
ولا بأس عندهم من اقتراف الدنايا، أو افترائها ما دام ذلك يحقق ما يشتهون، والغاية تبرر الوسيلة .
ولقد نظرت إلى قصصهم عن زيارة إبراهيم الخليل لمصر فرأيتهم بسهولة يصفون الرجل الكبير بأنه ديوث ! وفى سبيل حرصه على الحياة والمنافع الدنيئة يقدم امرأته إلى من يملكون النفع والضر ..
والتحقت زوجة إبراهيم ببيت فرعون الذي أهداه فى نظير ذلك بعض الغنم والحمير !!
قبحكم الله ( إن إبراهيم كان أمة ) النحل: 120. كان إنساناً يساوي الألوف من الرجال، وفى سبيل الله حارب الوثنية، وحطم الأصنام، وتعرض لنيران الجحيم، وربى جيلاً من الموحدين الحريصين على مرضاة الله .
فهل هذا الرجل هو الذى يغري امرأته بالذهاب إلى بيت فرعون من أجل الظفر بحظيرة غاصة بالغنم والحمير ؟ لكن كاتب التوراة لم ير فى ذلك حرجاً، وهاك النص:
” … وحدث لما قرب ـ أى ابرام ـ إلى مصر أنه قال لساراى امرأته: إنى قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصروين أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلوننى ويستبقونك، قولي إنك أختى ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك . فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جداً، ورآها رؤساء فرعون، ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبرام خيراً بسببها، وصار له غنم، وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال، فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة .. فدعا فرعون ابرام وقال: ما هذا الذى صنعت بي، لماذا لم تخبرنى أنها امرأتك ؟ خذها واذهب ” ( تكوين: 21)
ولنتجاوز هذه القصة الهابطة إلى قصة أخرى عن يعقوب نفسه الأب المباشر لليهود، والذى أخذ لقب إسرائيل بعد معركة حامية مع الله نفسه ظلت ليلاً طويلاً، والذى سمى اليهود دولتهم القائمة على أنقاض العرب باسمه .
إن هذا النبي عندنا نحن المسلمين إنسان جليل نبيل، شارك أباه فى الدعوة إلى الله، ونبذ الوثنية، ورفع علم التوحيد وإقامة الملة السمحة : “ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون”.
لكنه عند اليهود شخص محتال، سرق النبوة من أخيه البكر بطريقة منحطة .
ويظهر أن الفكر اليهودى يحسب النبوة ميراثاً دنيوياً يمكن الاستيلاء عليه بالشطارة والمهارة، وليست هبة عليا يمنحها رب العالمين من يصطفيهم من أهل الطهارة والنضارة .
وكان اليهود يخصون الابن البكر بالتركة كلها مادية كانت أو أدبية، وعلى هذا كان “عيسو“ الابن الأكبر لإسحاق هو الذى سيرث اللقب والمال ـ مثلما كان يحكم القانون الإنجليزى ـ ولكن أم يعقوب تفاهمت مع ولدها على غير هذا، وانتهزت أن “عيسو” خرج ليحضر الطعام إلى أبيه المكفوف ثم نفذت خطتها، وهاك التفاصيل كما حكاها سفر التكوين.
تفاصيل سرقة نبوة
وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو ابنه، فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيداً ليأتي به، وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة : إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلاً: ائتنى بصيد واصنع لي أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتى، فالآن يا ابني اسمع لقولي فيما أنا آمرك به: اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس، ربما يجسنى أبي فأكون فى عينيه كمتهاون وأجلب على نفسي لعنة لا بركة فقالت له أمه: .. اسمع لقولي فقط .. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التى كانت عندها فى البيت، وألبست يعقوب ابنها الأصغر، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى .. فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي فقال: ها أنذا، من أنت يا بني ؟ فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلمتني، قم اجلس وكُل من صيدي لكي تباركني نفسك .. فقال إسحق ليعقوب: تقدم لأجسك يا بني .. أأنت هو ابني عيسو أم لا .. فجسه وقال: الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو .. فباركه .. وقال: .. فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض .. لتستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل . كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين” (تكوين: 27)
وهكذا تمت سرقة رسالة سماوية .
أنا أفهم أن تختطف الطائرات فى الجو، وأن تغتصب المناصب فى الأرض، أما أن يفرض شخص نفسه على الله، ويعتبر نفسه نبياً، ويحول رسالة سماوية إليه بطريق التدليس والنصب، فهذا هو العجب العجاب، ولكنه منطق مؤلفي العهد القديم .
ويظهر أن شريعة الاحتيال أخذت امتدادها فى التصرفات التي نسيها العهد القديم إلى يعقوب وأبنائه .
وأمامي الآن قصة زنا وقعت لابنة يعقوب
وما أكثر قصص الزنا التى تقع فى بيوت الأنبياء، كما يفتري هؤلاء الأفاكون .
والقصة لفتاة اسمها “دينة“ بنت يعقوب عليه السلام ! من إحدى زوجاته، أعجب بها ابن رئيس المدينة المجاورة واتصل بها، ثم رأى أن يجعل هذه العلاقة مشروعة، فلاطف الفتاة وقرر الزواج بها وكلم أباه كي يمضي فى إجراءات العقد
وذهب رئيس القبيلة يعرض على يعقوب مصاهرته . وتظاهرت الأسرة بقبول المصاهرة، وكانت شروط الصلح مقبولة، وطلب أبناء يعقوب من أصهارهم الجدد أن يختتنوا حتى يتم الزواج، وتتسع دائرة العلاقات بين بني إسرائيل وأهل المدينة جميعاً .
وفى اليوم الثالث لإجراء الختان بين ذكور المدينة أغار أولاد يعقوب عليها وهى آمنة، فقتلوا الذكور كلهم وسبوا كل الأطفال والنساء ونهبوا ما وجدوه من ثروات .
ولم يذكر سفر التكوين أن يعقوب علق بشىء على هذه المأساة، بل يشتم من السياق أن المؤامرة تمت بموافقته.
وهكذا يفعل الأنبياء !!
إن مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) لم يؤخذ من الساسة “الزمانيين” إن مصدره من هنا، وإليك النص:
“وخرجت دينة ابنة ليئة التى ولدتها ليعقوب .. فرآها شكيم ابن حمور الحوى رئيس الأرض وأخذها واضطجع معها وأذلها، وتعلقت نفسه بدينة ابنة يعقوب، وأحب الفتاة، ولاطف الفتاة، فكلم شكيم حمور أباه قائلاً خذ لي هذه الصبية زوجة، وسمع يعقوب أنه نجس دينة ابنته .. فسكت حتى جاءوا (أى أبناؤه) ثم بعد أن عرض عليهم حمور مصاهرتهم … فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر … فقالوا لهما: لا نستطيع أن نفعل هذا الأمر: أن نعطي أختنا لرجل أغلف .. إن صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم … واختتن كل ذكر … فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين (أى بسبب الختن) أن ابني يعقوب: شمعون ولادي أخوى دينة أخذا كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم بحد السيف … ونهبوا المدينة، وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونساءهم وكل ما فى البيوت” (تكوين: 34 )
أين شرف المعاملة فى هذه الروايات المليئة بالفسق وسفك الدم ؟
ولنا أن نسأل:
ـ كيف ضاع عرض ابنة نبي على هذا النحو الغامض ؟
ـ وإذا كان غلام أثيم قد اغتصبها كرهاً فلم لم يعاقب وحده ؟
ـ وإذا كان يعقوب وبنوه قد قبلوا إصلاح الخطأ بإتمام الزواج فلماذا أغاروا على المدينة، واستباحوها وأزهقوا أرواح الأبرياء، واسترقوا الأطفال والنساء ؟
ـ هل هذه سيرة أنبياء وأولاد أنبياء ؟ أم سيرة قطاع طرق ؟
لكن مؤلف التوراة وقر فى نفسه أن اليهود شعب مختار، فصور الألوهية والنبوة وعلاقة اليهود بالناس أجمعين على الصورة التى أبرزنا لك ملامحها، لم نستعن فى توضيحها إلا بالنصوص الواردة في.
أكرهت نفسى على قراءة سفر التكوين بأناة، ثم تملكنى الضجر وأنا أقرأ الأسفار الأُخَر فاكتفيت بنظرات عابرة .
إن جمهرة الفلاسفة والعلماء المؤمنين بالله يرفضون كل الرفض أن يوصف بالانحصار والجهالة والتسرع، كما يرفضون كل الرفض أن يسيء اختياره لسفرائه إلى خلقه فلا يقع إلا على السكارى والمنحرفين .
بل إن عرب الجاهلية المشركين كانت نظرتهم إلى خالق الكون أرقى وأرحب .
وما أوخذوا به أنهم تزلفوا إليه بآلهة أرضية لا أصل لها يحسبون أنه أكبر أو أنهم أقل من أن يتصلوا به اتصالاً مباشراً .
أما وصف الله أو الحديث عنه بالعبارات المدونة فى العهد القديم فهو خبال فى الفكر يتنزه المولى الجليل عنه.
بيد أن النصارى قبلوا هذه الأسفار على علاتها وجعلوها شطر الكتاب المقدس !
لماذا ؟ .. لأنها تخدم قضيتين تقوم عليهما النصرانية الشائعة:
الأولى: قضية تجسد الإله، وإمكان أن يتحول رب العالمين إلى شخص يأكل ويصارع ويجهل ويندم .. إلخ.
الثانية: قضية أن البشر جميعاً أرباب خطايا وأصحاب مفاسد وأنهم محتاجون لمن “ينتحر” من أجلهم كى تغفر خطاياهم .
وقد رفض الإسلام كلتا القضيتين، وتنزل القرآن الكريم مفيضاً الحديث عن تنزيه الله وسعته وقدرته وحكمته وعلمه، كما أفاض الحديث عن الناس ومسئوليتهم الشخصية عما يقترفون من خير أو شر .
وذكر القرآن الكريم أن لله عباداً تعجز الأبالسة عن غوايتهم، وأنهم من نقاوة الصدر وشرف السيرة ورفعة المستوى بحيث يقدمون من أنفسهم نماذج للإيمان والصلاح والتقوى، تتأسى بها الجماهير: “إن عبادى ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلاً” (الإسراء: 65 )
فإن لم يكن نوح ولوط وإبراهيم ويعقوب من هؤلاء النبلاء الكرام فمن هم إذن الصالحون الفضلاء ؟
وإذا كان أنبياء الله سكارى وزناة ومحتالين فلماذا يلام رواد السجون وأصحاب الشرور ؟؟
ولا عذر للنصارى فى تصديق هذا اللغو، بل لا عذر لهم فى ادعاء أن الله ولد أو أن له ولداً، إلى آخر ما يهرفون به ..
أحياناً فى هدأة الليل أرمق النجوم الثاقبة وأبعادها السحيقة، ثم أتساءل: أليس بارئ هذا الملكوت أوسع منه وأكبر ؟ فكيف يحتويه بطن امرأة ؟
وأحياناً أرمق الأمواج ذوات الهدير وهى تضرب الشاطىء وتعود دون ملل أو كلل . إن أربعة أخماس الأرض مياه، ويبرق فى رأسي خاطر عابر، هل رب هذا البحر العظيم كان جنيناً فرضيعاً .. فبشراً قتيلاً ؟
وأهز رأسى مستنكراً وأنا أتلو هذه الآيات:
“قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون لله، قل أفلا تذكرون”
” قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون”
“قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون” (المؤمنون: 84 – 89 )
“ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله” (المؤمنون: 91 )
رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ….
.. فى هذا القرن المشئوم سقطت الخلافة الإسلامية، ونكست راية الإسلام، واختفت من الصعيد العالمي كل علاقة تشير إلى وجود سياسي لهذا الدين الحنيف ..
نعم كانت هناك أمم إسلامية كبيرة تنتشر على رقع واسعة من الأرض . لكن هذه الأمة لاذت بقومياتها الخاصة، ولبست أزياء مدنية مائعة، وأغلبها استبعد الدين من الحياة العامة، وأماتته تربية وقانوناً ومسلكاً وشعاراً .
وربما سمح له بوجود فى بعض العبادات الفردية، لكن هذا الوجود مؤقت بطبيعته إلى أن تجرف تيارات الحياة الجديدة مخلفات الماضى البعيد .. وفى الوقت نفسه، كانت تعاليم العهد القديم التى سقنا لك مثلاً منها تصنع أمة جديدة .
كان اليهود يتجمعون فى فلسطين ليقيموا مملكة “يهوه” على الأرض وفق مراسمهم الموروثة
وكانت الصليبية الحقود تعينها بما تملك من قوة، احتضنتنها أملاً مستبعداً، وما زالت ترعاها حتى جعلتها حقيقة قائمة.
وهكذا أفلحت القوى الشريرة فى ضرب الحق، وتغيير معالم الدنيا، وقيل فى كل مكان: بدأت نهاية الإسلام تقترب ! يوشك أن يوارى فى الثرى !
شاهت الوجوه ! هم يحسبونها النهاية ونحن سنجعلها بداية الصعود كرة أخرى .
إن حقائق القرآن لن تتلاشى، والأساطير التى كذبت على الله وعلى الناس لن تخلد
إن الصراط المستقيم لن تطمس شاراته أو تضيع آياته، وعلى مسلمي الحاضر والقادم أن يواجهوا قدرهم ويؤدوا واجبهم
الأعداء كثيرون، والعوائق صعبة، والكفاح طويل، وربما صاح المرء وهو يودع محنة ويستقبل أخرى: أما لهذا الليل من آخر ؟
إن الفجر سيطلع حتماً، ولأن يطوينا الليل مكافحين أشرف من أن يطوينا راقدين .
“من خاف أدلج، ومن أدلج نجا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”.
الشيخ محمد الغزالي