شبهات حول الإسلام

المــرأة والمــيــراث

المــرأة والمــيــراث


مصطفى صادق الرافعي
وحي القلم ج3 ص281-283

قرأت في المقطم كلمة للكاتب المعروف سلامة موسى فيما يزعمه إجابات مختصرة عن اعتراضات تهافت بها رأيه في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في
الميراث ، وهو ينصح لمن يريد أن يناقشه أن يقرأ نص محاضرته في السياسة الأسبوعية .

وقد رجعت إلى نص المحاضرة فإذا الكاتب هو هو في ضعف تفكيره وسوء تقليده ، يكاد لا يميز بين الرأي الصحيح الثابت في نفسه لأنه قائم على حكمته الباعثة عليه ، وبين الرأي المتغير في كل نفس بحسبها لأنه قائم على منزع أو غفلة أو مرض في النفس .

ترى الكاتب لا يدعو إلا إلى تقليد أوروبا ، وتكاد عباراته في ذلك لا تحصى ويقول إن “المصلح المثمر عندنا هو مقلد لأوروبا لا غش في تقليده” ، فليس إلا أوروبا وتقليدها وإذا لم يكن في أوروبا قرآن ولا إسلام فالإصلاح المثمر عند الكاتب ألا يبقى من ذلك شيء . . .

“مقلد أوروبا لا غش في تقليده” ، وما هو الغش في التقليد ؟ هو أن تستعمل رأيك وفكرك فتدع وتأخذ على بينه في الحالين ، وأن تأبى أن تحمل على طبيعتك الشرقية ما لا تصلح عليه ولا تقوم به ؛ وإذا انقلبت أوروبا شيوعية أو إباحية وجب ألا نغش في التقليد … وإذا كانت الشمس لا تطلع ستة أشهر في بعض جهات أوروبا وتطلع في مصر كل يوم وجب أن يكون المصري أعمى ستة أشهر …

والظاهر أن الكاتب يقول بالتقليد لأنه طبيعي فيه … ورأيه في الميراث إنما هو ترجمة … لعمل مصطفى كمال أتاتورك ، وإن كان مصطفى كمال قد أصلح الترك في سنوات كما يقولون ؛ فبرهان التاريخ لا يخضع للمشنقة ولا لمحاكم الاستقلال ولا يأتي إلا في وقته الذي سيأتي فيه ، وسيرى الناس يومئذ ما يكون وهمًا مما يكون حقيقة .

ويرد الكاتب على رأي الأستاذ الأخلاقي رئيس تحرير المقطم في خشيته أن يقتصر الإصلاح على القشور دون اللباب ، فيقول إنه “معتقد أن الأمة التي تشرع في اتخاذ المدنية الحديثة يجب أن تبدأ بالقشور … لأنها أسهل عليها من اللباب بل هي لا تستطيع غير ذلك” . أكذلك بدأت اليابان ؟ . وهل كل الطباع كطبيعة بعض الناس ، تستطيع أن تعتلف قشور المدنية … وتنصرف إلى مداقها وسفاسفها ؟

ولا ريب أن حضرته لا يفهم الدين الإسلامي لأنه ليس من أهله ، فهو يقرنا على ذلك ، وهو بذلك يقرنا على أنه متطفل في اقتراحه ؛ وإن الذي يقرأ في محاضرته قوله: “إن الطبقة الغنية هي التي تقرر ديانة الأمة …” يستيقن أنه لا يفهم دينًا من الأديان ، وأنه قصير النظر في أمور الاجتماع وأبواب السياسة ؛ وأنه يمينه وشماله وأمامه ووراءه إن هي إلا جهات الزمام الذي ينقاد فيه ؛ فلا شخصية له ، وإنما يتابع وينقاد للآراء التي يترجم منها بلا نقد ولا تمييز .

إن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته ، بل هو مترتب على نظام الزواج فيها ، وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معًا ، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها ؛ وهذا الدين يقوم في أساسه على تربية أخلاقية عالية ينشئ بها طباعًا ويعدل بها طباعًا أخرى ، كما بيناه في مقالنا المنشور في مقتطف هذا الشهر – فهو يربأ بالرجل أن يطمع في مال المرأة أو يكون عالة عليها ؛ فمن ثم أوجب عليه أن يمهرها وأن ينفق عليها وعلى أولادها ، وأن يدع لها رأيها وعملها في أموالها ، لا تحد إرادتها بعمله ولا بأطماعه ولا بأهوائه ؛ وكل ذلك لا يقصد منه إلا أن ينشأ الرجل عاملاً كاسبًا معتمدًا على نفسه مشاركًا في محيطه الذي يعيش فيه ، قويًا في أمانته ، منزهًا في مطامعه ، متهيئًا لمعالي الأمور ، فإن الأخلاق كما هو مقرر يدعو بعضها إلى بعض ، ويعين شيء منها على شيء يماثلها ، ويدفع قويها ضعيفها ، ويأنف عاليها من سافلها ؛ وقد قلنا مرارًا إنه لا يجوز لمتكلم أن يتكلم في حكمة الدين الإسلامي إلا إذا كان قوي الخلق ، فإنه من لا يكون الشيء في طبعه لا يفهمه إلا فهم جدل لا فهم اقتناع .

للمرأة حق واجب في مال زوجها ، وليس للرجل مثل هذا الحق في مال زوجه ؛ والإسلام يحث على الزواج ، بل يفرضه ؛ فهو بهذا يضيف إلى المرأة رجلاً ويعطيها به حقًا جديدًا ، فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في الحقيقة ، فتزيد وينقص ؛ إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا .

فإن قلت كما يقول سلامة موسى إن في الحق أن تنفق المرأة على الرجل وأن تدفع له المهر ثم تساويه في الميراث ، قلنا : إذا تقرر هذا وأصبح أصلاً يعمل به بطل زواج كل الفقيرات وهن سواد النسوة ، إذ لا يملكن ما يمهرن به ولا ما ينفقن منه ؛ وهذا ما يتحاماه الإسلام لأن فيه فساد الاجتماع وضياع الجنسين جميعًا ؛ وهو مفض بطبيعته القاهرة إلى جعل الزواج للساعة ولليوم وللوقت المحدود … ولإيجاد لقطاء الشوارع ، بدلاً من أن يكون الزواج للعمر وللواجب ولتربية الرجل على احتمال المسؤولية الاجتماعية بإيجاد الأسرة وإنشائها والقيام عليها والسعي في مصالحها .

من هنا وجب أن ينعكس القياس إذا أريد أن تستقيم النتيجة الاجتماعية التي هي الغاية لا من حق الرجل ولا من حق المرأة بل من حق الأمة ؛ وما نساء الشوارع ونساء المعامل في أوروبا إلا من نتائج ذلك النظام الذي جاء مقلوبًا ، فهن غلطات البيوت المتخربة والمسؤولية المتهدمة ، وهن الواجبات التي ألقاها الرجال عن أنفسهم فوقعت حيث وقعت !

وإذا انزاحت مسؤولية المرأة عن الرجل انزاحت عنه مسؤولية النسل ، فأصبح لنفسه لا لأمته ؛ ولو عم هذا لمسخ الاجتماع وأرع فيه الهرم وأتى عليه الضعف ، وأصبحت الحكومات هي التي تستولد الناس على الطريقة التي تستنسخ بها البهائم ، وقد بدأ بعض كتاب أوروبا يدعون حكوماتهم إلى هذا الذي ابتلوا به ولا يدرون سببه وما سببه إلا ما بيّنا آنفًا .

ثم إن هناك حكمة سامية ، وهي أن المرأة لا تدع نصف حقها في الميراث لأخيها يفضلها به – بعد الأصل الذي نبهنا إليه – إلا لتعين بهذا العمل في البناء الاجتماعي ؛ إذ تترك ما تتركه على أنه لامرأة أخرى ، هي زوج أخيها ؛ فتكون قد أعانت أخاها على القيام بواجبه للأمة ، وأسدت للأمة عملاً آخر أسمى منه بتيسير زواج امرأة من النساء .

فأنت ترى أن مسألة الميراث هذه متغلغلة في مسائل كثيرة لا منفردة بنفسها ، وأنها أحكم الحكمة إذا أريد بالرجل رجل أمته وبالمرأة امرأة أمتها ، فأما إذا أريد رجل نفسه وامرأة نفسها ، وتقرر أن الاجتماع في نفسه حماقة ، وأن الحكومة خرافة ، وأن الأمة ضلالة ، فحينئذ لا تنقلب آية الميراث وحدها بل تنقلب الحقيقة .

ومما نعجب له أن سلامة موسى يتكلم في محاضرة كأن كل الوالدين ذوو مال وعقار ، فنصف الأمة على هذا محروم نصف حقه وكأنه لا يعرف أن السواد الأعظم من الناس لا يترك ما يورث ، لا على الربع ولا على النصف ؛ وأن كثيرًا ممن يموتون عن ميراث لا يحيا ميراثهم إلا أيامًا من بعدهم ، ثم يذهب في الديون ، إذ لا تركة مع دين ، وكثيرون لا يسمن ميراثهم ولا يغني ، فلم تبق إلا فتات معينة من كل أمة لا يجوز أن تنقلب من أجلها تلك الحكمة الاجتماعية التي هي من حظ الأمة كلها لقيام بعض الأخلاق عليها كما بسطناه .

ومما تشمئز له النفوس الكريمة قول المترجم في محاضرته : فلو كانت الفتيات يرثن مثل إخوتهن الذكور ، لكان (في ثروتهن) إغراء للشبان على الزواج …

إن الدين الإسلامي لا يعرف مثل هذا الإسفاف في الخلق ولا يقره ، بل هو يهدمه هدمًا ويوجب على كل رجل أن يحمل قسطه من المسؤولية ما دام مطيقًا إن كره أو رضي ، ولعمري إن تلك الكلمة وحدها من كاتبها لهي أدل من اسم المحل على بضاعة المحل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى