تأملات في “سورة الضحى”
(مكية)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11}
شرح الغريب :
وَالضُّحَى : هو صدر النهار .
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى : ألقى بظلامه على الأرض .
قَلَى : أبغض .
عَائِلاً : فقيراً
الْيَتِيمَ : من فقد أباه قبل البلوغ.وقيل: من فقد أحد أبويه .
سبب النزول :
صح عند البخاري(4983)ومسلم(1797) اشتكى النبي r، فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتته امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله عز وجل وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3}
هداية الآيات :
كثيرة هي القضايا والأحكام والحقائق التي اتفق عليها المسلمون واجتمعت عليها كلمتهم .
بيد أن إجماعهم على شرف نبيهم r وعظم جاهه عند الله كانت هي الأبرز والأظهر عند عالمهم وجاهلهم على حدّ سواء .
ولذا فقد يخوض كل مرجف ، ويتقول كلّ أفاك بما شاء كذباً وزوراً .. لكن أحداً لن يصدقه حين يشكك في عظمة محمد r وسؤوده على كلّ البشر .. أو يحاول – خائباً – إيهام غرٍّ أحمق ببغض الرب الرحيم لرسوله الكريم .
لقد استغل الشائنون كعادتهم في كل زمان ومكان إبطاء الوحي عن الرسول العظيم فترة وجيزة من الزمن ، فإذا بهم يفصحون عن دفين صدورهم ، وكمين قلوبهم حسداً وشماتة ، وتشفياً وحقداً .
وما أكثر ما يتشمت الحاقدون حين يتأخر النصر عن الفئة المسلمة أو تكتسح الفتنة أنصار الملة قتلاً وتشريداً ، وأسراً وفتكاً !
ولسان حال هؤلاء الشائنين وربما مقالهم: أين ربكم ؟ أين النصر الموعود ؟ أين الخلافة ؟ أين التمكين ؟
لقد قال أسلاف هؤلاء فيما مضى : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) الأحزاب (12) .
فكانت العاقبة فضيحة الدنيا وخسارة الآخرة ، وأما أنصار الملة ففتحوا المدائن ، واستباحوا قصور كسرى وقيصر وأنفقت كنوزهما في سبيل الله ، ولقد كان جواب القرآن في هذه السورة حاسماً لكل من زعم خلاف محبة الله لنبيه الكريم ، أو شكك في رعايته له ودوام عنايته به
وقد أقسم الله – وهو أصدق القائلين – على احتفائه بهذا الرسول المصطفى ، والنبي المجتبى !
وهو مع هذا القسم يُذكر كلّ من له مسكة من عقل بأنّ عنايته السابقة بنبيه قبل الرسالة في حال اليتم والفقر، والمسكنة ، وقلة العلم والهداية أوضح دليل على استدامة العناية والرعاية بعد أن أصبح رسولاً خاتماً ونبياً مبلغاً !
(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أي لم يحرمك إيحائه إليك, وتنزيله عليك, وتكليفك برسالته!
(وَمَا قَلَى ) أي وما أبغضك ولا كره شخصك الكريم ! كيف وأنت المخلوق على عين الله ، المعدّ لإبلاغ رسالة الله ، المختار من بين الخلائق لنيل هذا الشرف والسؤدد !
( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى ) : ولئن كانت الآية السابقة فيها أعظم بشارة للرسول الكريم r بدوام تنزل الوحي وإتمام مهمة النبوة والرسالة .
فإن ثمة بشارة أخرى جاءت بعدها بسرعة ، وهي وعد مؤكد بنعيم أخروي ينتظره في الطريق .
( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) وهذه أيضاً بشارة ثالثة بأنّ عطاء الله تعالى لن يتوقف ولن يقف عند حدّ بل سيدوم أبداً ويبقى سرمداً حتى يرضى r.. ولعلّ من لطيف القول ما استدل به بعض المفسرين من كون هذه الآية هي أعظم آية في الرجاء ،ذلك أن ّ نبينا محمد r لن يرضى حتى يدخل أمته كلهم الجنة لتمام شفقته ورحمته بهم فاللهم لا تحرمنا فضلك !
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) والمراد به تذكير النبي r ببعض أحواله قبل الرسالة يوم كان يتيماً قد فقد أباه وهو حمل في بطن أمه ، ثم ماتت أمه في السنة الثامنة من ولادته ، فآواه الله إليه وسخّر له جده عبد المطلب ومن ثم عمه أبا طالب مع كونهما مشركين !
وأما ضلاله ففيه أقوال أبرزها :
ضلال عن العلم وعليه يدل القرآن : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الشورى ، ( 52)
وأما عيلته فعلى ظاهرها فقد كان فقيراً يبيت طاوياً حتى بعد أن أشرقت عليه وبه أنوار الرسالة ، فأغناه الله بالفتوحات المتتالية ، والغنائم العظيمة بدءً من فتح خيبر وما بعدها .
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ* وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) :
أي كما كنت يتيماً فآواك الله؛ فاعطفْ على اليتامى ، ومثلهم كلّ الضعفاء من الأرامل والعجائز ، وأصحاب الحاجات .
وكذا السائل : سائل المال, أو سائل العلم, فلا تنهر واحداً منهما فما ذاك لك بخُلُق,وما تلك لك بسجية! .
وليت أثرياء المسلمين يكفون عن قهرهم جموع اليتامى والثكالى وليت أغنياءهم يتقون الله في طوابير الفقراء والمحتاجين فيمدوا يد العون وصنيعة المعروف إليهم بلا منّ أو أذى
وليت العلماء يتخلون عن بعض جفائهم فيرشدوا الحائرين ، ويفتوا السائلين بأسلوب مهذب وكلام مؤدب!
إنّ البلاد الإسلامية تزخر بالآلاف الأيتام ، الذين فقدوا أبآءهم تحت نير الاضطهاد الكافر والاحتلال الغاشم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها .
وإنّ مسلسل الاعتداء والغي والظلم ضد الهوية المسلمة في أصقاع شتى من المعمورة لا يزال متواصل الحلقات ، متتابع الفقرات !
ومع ذلك لم نر لأغنياء المسلمين وذوي اليسار منهم أثراً يواكب التطلعات ولولا جهود فردية ومبادرات شخصية من بعض من يحمل همّ أولئك المفجوعين بآبائهم وأمهاتهم لأتسعت دائرة الحزن, وامتدت مساحة المآساة !
إنَّ الكثيرين من أثرياء المسلمين ينفقون الملايين في ملذاتهم وشهواتهم ، وأسفارهم وسياحتهم بكل بذخ وإسراف لكن تأبى أيديهم أن تمتد إلى جيوبهم يوماً من الدهر لينفقوا درهماً أو ديناراً في سبيل الله بل ربما لم يخطر على بال بعضهم وجود يتيم مقهور أو سائل منهور !
ولو أنفق المسلمون زكاة أموالهم فقط لما وجدت في بلاد المسلمين فقيراً أو محتاجاً ، ذلك أنّ ثروات الأغنياء تقدر بالمليارات ومع ذلك فإنّ الملايين من المسلمين يعيشون فقراً مدقعاً ووفياتهم نتيجة الأمراض وسوء التغذية تقدر بعشرات الألوف سنوياً!
وأما نهر السائل فحدث ولا حرج ، فلطالما نُهر سائل المال وأهين سائل الفتوى ، ولئن تقدم قبل قليل غلظة قلوب الأغنياء وقسوتهم وشحهم وبخلهم ؛ فإنّ غلظة بعض أهل العلم أشد مضاضة, وأعمق جراحاً!
ذلك أنّ هؤلاء قد علموا فضل العلم وأدبه ، ومكانته وأثره؛ فدنسوه بقبيح مسالكهم ، وسقيم تصرفاتهم ، وأخذوا العلم وجاهة وصدارة, ومجالس وألقاباً ومظاهر!
فكم من سائل نهروه ، وكم من مستفت زجروه ، وكم من طالب علم خذلوه !
ألا فليتق الله هؤلاء ، ويتذكروا أنهم كانوا جهالاً فعلّمهم الله ، وخاملين فأشهرهم الله ، وليبينوا للناس ما ينفعهم دون منّ أو أذى .
ويدخل في نهْر العلم للسائلين زجرهم عمّا يسمونه بالأسئلة غير المهمة أو ادعائهم بأنّ هذا السؤال أو ذاك يسبب فتنة فمن ذلك:
السؤال عن حكم موالاة الكفار ؟
أو ما عقيدتنا تجاه الرافضة ، أو نحوها من السؤالات المشابهة ,وما أجمل قول القائل:
يا معشر القراء ياملح البلد
من يصلح الملح إذا الملح فسد
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ، وهو إرشاد للنبي أصالة وغيره تبعاً بالتحدث بنعمة الله على سبيل الشكر والعرفان ، لا البغي والفخر والعدوان.
ومن أجل النعم: الهداية للدين, والتوفيق للمعتقد الصحيح ، وشجاعة القلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا بأس بالتحدث عما دونها من نعم الدنيا ، من صحة ,وجاه ، ومال, بالضوابط نفسها والله أعلم .
فوائــد السورة :
1- إقسام الله تعالى بما شاء من مخلوقاته .
2- التنويه بذكر هاتين الآيتين الكونيتين : الضحى والليل ، وقد سبق في تفسير سورة ” الليل ” كلام حولهما .
3- تكذيب الله سبحانه لمن زعم هجره لنبيه r.
4- التنويه بما درج عليه أهل الكفر والعناد من الشماتة والشنئآن والاصطياد في الماء العكر . حيث استغلوا تأخر الوحي في بث أحقادهم والتنفيس عن مكنونات صدورهم!! .
5-شدة عناية الله تعالى بنبيه الكريم حيث وعده بنعيم الآخرة وثوابها العظيم .
6- وعد الله لنبيه بدوام إسباغ العطاء له حتى يتحقق رضاه التام ، وتقر عينه ، ويسعد قلبه!
7- بيان كيفية نشأة النبي ، وكيفية طفولته حيث حالة اليتم وفقد الأبوين في سن مبكرة ، وإيواء الله له وعنايته به .
8- أنّ النبي كان في ضلال أي خلو من العلم حتى هداه الله وعلّمه ، وفقهه وسدده .
9- بيان حال نبينا من الناحية المادية فقد كان قليل ذات اليد ، حتى كبرت سنه وعهد إليه بالرسالة ، وجاهد وقاتل ثم فتحت عليه الفتوح وحيزت بين يديه الغنائم .
10-النهي عن قهر اليتم ، وكسر خاطره ، وهذا أدب من آداب الإسلام المتعددة التي جاء بها القرآن قلّ أن يوجد لها نظير في نظام أو مذهب آخر !
11- النهي عن نهر السائل سواء كان سائل مال أو سائل علم ، ولا يمنع ذلك من وعظ من غلب على الظن غناه عن سؤال المال ، فقد وعظ رسول الله r قبيصة رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ( 806)” أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها . قال : ثم قال : يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ( أو قال سدادا من عيش ) . ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة . فحلت له المسألة . حتى يصيب قواما من عيش ( أو قال سدادا من عيش ) فما سواهن من المسألة ، ياقبيصة ! سحتا يأكلها صاحبها سحتا “
12- الندب إلى التحدث بنعمة الله إظهاراً لفضل الله على المتحدث ، وتعبيراً عن فقره إليها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبه د/ رياض بن محمد المسيميري
أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
– عفا الله عنه-
www.islamlight.net