محمد

رسول السلام

 

 

قد يقول البعض – في كل هذه الأجواء التي تعايشها وتكابدها البشرية، وكل الأزمات الأخلاقية، من تنافسٍ وأحقادٍ وحروبٍ ورغبةٍ محمومةٍ في النمو بلا حدود -: ألا يحتاج هذا المناخ إلى رسالة سماوية جديدة؛ تواكب هذا التعقد في نمط الحياة، الذي لا تشبه الحياة التي عاصرها الرسل؟!


الرد على هذا المنطق والاستفسار يسير جداً، وهو:

أولاً: إن هذه النظرة مرتبطة بالإحساس بالزمن بمفهومه البشري؛ فالحقيقة أن الألفي عام السابقة، على الرغم من أنها مليئة بأحداث جسيمة، وشهدت انطلاقة في قدرة الإنسان على السيطرة على الموارد الطبيعية – إن المفاهيم الأساسية من خير وحق وعدل قد استقرت، ولم يضف الإنسان بفكره عليها الكثير، بل ربما كانت بعض الفلسفات الحديثة جعلت حتى هذه البديهيات محل شك.

 

ثانياً: الثابت أن الدول الناضجة سياسياً وعمرانياً، لم تكن حاضنة جيدة للأديان في السابق، بل إنها كثيراً ما تركت آثاراً سلبية على الرسالات، وتركت فيها بعض آثار معتقداتها السابقة، والشيء الجيد أن هناك نصوصاً خلَّفها الأنبياء وهي الأساس في دراسة الأديان للبحث عن حلول لأزمات الإنسان العصري.

لكن كيف نتحقق من كون دينٍ ما هو من عند الله؟ وكيف نتحقق أن تلك الشخصية التاريخية كانت شخصية نبي حقيقي؟

 

عندما أفكر في أمر كهذا؛ أحاول دائماً توقع ما سيفعله شخص مخادع وشديد الذكاء أراد أن يعامله الناس كنبي؛ في حين أنه لا علاقة له بالسماء.

 

إنه لن يطلب من التابعين تضحيات والتزامات شاقة؛ قد تضعف من قدرته على استقطاب الناس.


ماذا عن النبي محمد؟

دعا إلى المساواة بين الناس جميعاً دون الالتفات إلى العرق، وهذا يتعارض مع كون الرق من أقوى المحركات للاقتصاد في تلك الفترة، وكان مقبولاً أخلاقياً في كل المجتمعات، ثم إن هذا يتعارض مع إيمان كثير من الشعوب، وأحياناً الأديان بوجود فوارق بين البشر على أساس عنصري، كان من ضمنها إيمان العرب.

دعا إلى تجاهل كل أنواع الثأر التي كانت قبل عهده، أياً كانت مكانة القتيل وعائلته، وهذا يتعارض مع كون الأخذ بالثأر عرفاً اجتماعياً لا يستطيع الإنسان الفكاك منه، إلا بأن يترك قومه بعد أن ترك ثأره.

نهى عن شرب الخمر ولعب القمار والزنى، وهي وسائل ترفيه، ما زالت لها أهمية كبرى في المجتمعات الحديثة، وبالطبع كانت هي كل شيء بعد التجارة في مجتمع صحراوي خشن.

نهى عن الربا، ومعروف أن الربا هو خدمة مالية قديمة، كان الأقدمون يبالغون في استخدامها بصورة تضر الفقراء، وطبعاً كانت وسيلة للكسب السهل المعدوم المخاطرة.

هذه هي بعض الأشياء التي طلب محمد – صلى الله عليه وسلم – من قومه أن يُعرضوا عنها، ويبدؤوا حياة جديدة، كل هذا وسط جو من المعاناة، والتنكيل الشديد، من سيدعو إلى كل ذلك بدون أي ضعف وفي مواجهة مجتمع لا يقبل التغيير.

لكنه بدراسة السلوك فيما قبل ادعاء النبوة، أو بعد ادعائها، ومقارنته بالتعاليم والوصايا للاتباع – سنجد – لاشك – بعض التناقض، خصوصاً إذا توفر الكثير عن حياة هذا الشخص؛ لذا الأفضل للمدعي أن يتجنب الاختلاط الدائم بأتباعه، معلوم أن النبي محمداً كان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين.

لنضع في اعتبارنا أننا نتكلم عن مجتمع قبلي، الناس فيه متلاصقة، ويعرف بعضها بعضاً بصورة جيدة، وأعمالهم لا تشغل كل وقتهم، وهو ما يعطي فرصة أفضل لأن يدرس الإنسان من يعيشون حوله من الأقرباء، وهذا يسمح بتكوين رؤية واضحة لشخص ولد بينهم، وكبر حتى بلغ سن الأربعين، حتى إن سادة قومه الذين عادوه لا يُذكر لهم عداءٌ معه قبل الرسالة قط.

ويسترعي انتباهنا أنه – صلى الله عليه وسلم – كان قبل البعثة كثير الصمت، طويل التأمل؛ ولذا لم يكن مجادلاً، وهذا يوحي بأن هناك شيئاً ما يختمر في ذهنه – كعادة المتمردين على الواقع – ثم إن عدم جداله ينفي عنه شبهة حب الظهور والتفرد؛ فلم يكن يجادل أهله في الأشياء التي عَافها، ومن ضمنها الاحتفال بالأصنام، وكان حاله إذا وجد أهله يسارعون إلى خير سارع معهم، وإذا سارعوا إلى ما يكره تركهم وشأنهم.

أما بعد البعثة فكان – هو نفسه – نموذجاً للسلوك والخلق الذي يدعو إليه، الصدق والأمانة، والرحمة والتواضع، والإيثار والكرم، وعفة اللسان والحلم، هذا لمدة 23 سنة بعد البعثة، وشريحة الصحابة القريبة منه – للتعلم – كانت شريحة كبيرة، وشاهدوه في بيعه وشرائه، وأحلافه واتفاقياته وحروبه، وأكله وشربه.

ولنضع في اعتبارنا أن العرب لم تكن كأمم الشرق المغرقة في الروحانيات، وإضفاء القداسة على إنسان أو شجرة أو كوكب أو ثعبان، بمعنى أنه لم يكن عندهم حس روحي عالٍ يسمح لأحد بالتأثير فيهم، ويفقدهم قدرتهم على النظرة النقدية،كانوا قوماً على الفطرة يرون الأشياء على حقيقتها، حتى إيمانهم بالله قبل البعثة كان قائماً على منطق استدلالي يسير “الموجود يدل على الواجد“.

المدعي لابد أن يكون طقسياً في كلامه وفي زيه وفي سلوكه؛ بحيث يبدو كأنه شخصية مغلفة بالأسرار؛ فهذا يسهل من مهمة التأثير في البشر، الحقيقة أن محمداً وموسى وعيسى كانوا من الناس، عَلموا وتألموا وكافحوا ولم يلبسوا تيجاناً من ذهب، بل ساروا في طريق مليء بالأشواك، حتى إننا لا يتعين علينا أن نتخيلهم محاطين بهالات من النور، في أثناء مشيهم في الأسواق ومخاطبتهم للناس.

ليس من المنطقي أن يتنبأ المدعي لقومه بأي شيء مستقبلي؛ لأن هذا يضع سمعته في المحك، لقد تحولت نبوءات النبي محمد إلى وقائع شاهدها الناس – وهذا مما يعلِّم الله رسله -وسأذكر نبوءتين موثقتين في القرآن الكريم، وقد تلا محمد هاتين النبوءتين على الناس من خلال قراءته للقرآن، ومن ذلك أنه:

هناك سورة تتوقع لعمه وزوجة عمه أن يموتا على الكفر وهذا لايعتبر من قبيل الرهان المأمون، خاصة إذا عرفنا أن هذا العم وزوجته كانا ضمن المجموعة التي تؤذي الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد آمن البعض منهم بعد ذلك، بالطبع توقعُ السلوكِ البشري حتى الآن أمر صعب جداً، أو يكاد يكون غير علمي.

النبوءة الثانية جاءت بعد هزيمة الروم على يد الفرس، جاءت على صورة بشرى للمسلمين بأنه بعد عدة سنوات سينتصر الروم؛ حيث إن أتباع الديانات السماوية أقرب للمسلمين من غيرهم من الأمم، ولنأخذ في الاعتبار أنه لم يكن لديه أي بيانات عن التعبئة هنا، أو هناك، وأنه إلى الآن يظل أمر الجزم بنتيجة حرب ضخمة بين قوتين متكافئتين أمراً تكتنفه الصعوبة حتى الآن على الإستراتيجيين.


لكن لماذا يختار الله أمماً بسيطة لتكون مركزاً للديانات؟

أنا أعتقد أن الأمم المتقدمة يكون لديها تراث فلسفي ضخم تعتد به، وأفكار بشرية قد تترك بصمة على الدين في فترة الاحتضان، في حين تتلقى الأمم البسيطة الرسالة بطريقة محايدة، ويتحول رجالها ونساؤها إلى مسؤولين عن نقل تلك الرسالة بنقائها الأول.

كان العرب متميزين بالقدرة على حفظ أيامهم وشعرهم وأنسابهم؛ وهذا مكَّنهم من حفظ النص الإلهي على صورته؛ حتى لا يتحول بعد مدة إلى تأريخات متعددة.

ثم إن تميزهم في الحفظ مكَّننا نحن – المعاصرين – من الاطلاع على نواح عديدة في حياة النبي بوصفه نبيّاً، وقائداً، وزوجاً، وصاحباً، وأباً، وجداً، وحاله في الشدة والرخاء والغضب والسرور، وهذا ما مكَّننا من أن نتعرفه تعرفاً مانعاً للجهالة، وهذا للأسف ما لا نحصل عليه عندما نحاول مراجعة سيرة إخوانه الأنبياء، وكلهم قدوة حسنة لنا.

العلاقة التي تربط الأنبياء بعضهم ببعض لا يدرك كُنْهها إلا مَن تناول هذا الأمر بعقلية مفتوحة لاتغلفها أحكام مسبقة، ولا تعصب لعنصر، ولا استنادٌ على الحالة المدنية لكل أمة حالياً.

لو استندنا على الحالة المدنية فإننا سنتحصل في أوقات مختلفة على دلالات مختلفة، فلننظر إلى حال العرب والمسلمين وقت التوسع الإمبراطوري، والتقدم العلمي تحت راية إسلامية موحدة، ولننظر إلى حال اليونان التي كانت رائدة المدنية في عصور الوثنية ثم تحولت في ظل المسيحية إلى مجرد كيان تابع للدولة التركية، سيقول قائل: “جيد أن نحترم كل الأنبياء لكن هناك اختلافاً وتناقضاً في بعض الأحيان على مستوى النصوص، وعلى مستوى العقيدة في كل دين، إننا لا نملك آلة نستقلها إلى الأزمنة القديمة لنشاهد التجارب والأشخاص والملابسات حتى نحكم من خلال المعاينة”.

هذا صحيح، ولهذا لم يعد أمامنا إلا مراجعة نصوصنا جميعاً، ونحن – المسلمين – ندعم ونوفر نطاقاً واسعاً من الفحص لتراثنا، على أن المطلوب أن يحدث ذلك في جو علمي وقور، وألا يترك أمر التعرف على الآخَر لمحبي الظهور، وهذا الحوار العلمي المنِتج سيوفر في الحد الأدنى احتراماً متبادلاً للأنبياء والأديان.

فلنضع القرآن محلاً للدراسة على مستويين:

1- دراسة تواؤم النصوص بعضها مع بعض.

2- دراسة تواؤم النصوص مع الظواهر العلمية.

وسيكون مدخلاً معقولاً إذا تعرفنا هذا النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – أولاً من خلال شهادة الذين عادوه عندما شهدوا له أمام حكام الروم والحبشة بعدم كذبه أبداً، وسيكون مدخلاً جيداً أن ننظر إلى ثلاثة مواقف مرت بحياة النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت ستضعف من إرادته لوكان طامعاً في الزعامة، أو حتى وضع اجتماعي شريف، وهي:

عرض سادة قومه عليه السيادة والملك على أن يترك أمر الدعوة، وكان هذا في السنين الأولى الصعبة التي ما زال المسلمون فيها مستضعفين، وهي صفقة مغرية لأي طامع، وقد يضعف أمامها المصلح الاجتماعي.

حوصر هو وأهله مدة ثلاث سنوات؛ حتى أكلوا الأوراق والجلود، وهذه درجة من الأذى ربما لا يقبل المصلح أن يكون سبباً وحيداً فيها لأهله؛ بحيث إن تراجعه في هذه الحالة لا يُلام عليه.

عندما فتح مكة التي اضطهده أهلها – وهم أهله – دخلها متواضعاً ليس عليه كبرياء القادة المنتصرين، خافضاً بصره إلى الأرض، وغفر لأهله وصفح عن الإساءة.

ومن الجيد – أيضاً – أن نتذكر أن الدعوة استمرت 23 سنة، بعدها وُلدت أمة جديدة مختلفة استطاعت أن تقهر الأمم التي كانت قوية في ذلك الزمن، وبسطت سيطرتها على مناطق من آسيا وأفريقيا وأوروبا، ولم يكونوا معتمدين على أي رصيد حضاري ومدني يُعتَمد عليه.

إن شخصاً فعل كل هذا يستحق دراسة موضوعية لسلوكه وكفاحه، وهذا هو المدخل الجيد إلى قراءة القرآن الكريم قراءة منصفة.

إن مقاربةً جديدةً لرسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – هي ضرورة إنسانية وحضارية وأخلاقية، في ظل إدراكنا أن هذا العصر الحديث لن يظهر فيه أنبياء جدد، ولا رسالات جديدة، فإنه يتحتم علينا إعادة اكتشاف كل التراث الديني للأديان السماوية؛ بحيث يتحول هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة مشحونة بالغضب إلى قرية صغيرة يحكمها العدل والحب والسلام.

 
المصدر: شبكة الالوكة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى