فوائد وأسرار الصيام
إن من طبيعة النفوس أن تفتر وتمل ، وأن تتعب وتكل ، سيما مع طول الزمان ، ومغريات الحياة ، كثرة متع الدنيا ، وصد الشيطان . وحينئذ تضعف النفس عن أداء الواجبات ، والقيام بالطاعات ، كما يقل تأثّرها بها ، واستفادتها منها .
ومن حكمة الله ورحمته أن جعل لها ما يقوي ضعفها ، ويشحذ عزمها ، ويزيد من إيمانها ؛ وذلك من خلال التفضيل الذي خصّ به بعض الأزمنة والأمكنة ..( بادحدح رمضان نفحات ولفحات ص6)
ومن الأزمنة الفاضلة : عشر ذي الحجة ، وعاشوراء ، ورمضان ..
ودرسنا هو عن فوائد و أسرار الصيام ، تلك العبادة العظيمة التي جعلها الله ركنا من أركان الإسلام ، وفرضها الله على المسلمين ليس يوما واحد ؛ بل 30 يوما ، وكل عام .
[ وقد كتب الله الصيام فرضا محتوما في دينه الحنيف في قديم الزمان من الأمم السابقة ، فلذلك قال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }183 ، فهو ليس إيجابا مختصا بهذه الأمة ؛ بل هو فريضة دينية قديمة ، وذلك لأهميته ، وعظيم أثره على النفوس ” ( بتصرف /الدوسري صفوة المفاهيم ص8)
لقد تكلم العلماء والمربون عن الفوائد التربوية من الصوم ، حتى أنه أطلق عليه مدرسة الصيام ، لما قيه من الفوائد الكثيرة التي تعتبر مصدرا من مصادر التربية .
وعبادة بهذه الأهمية والفائدة ؛ يجب علينا أن نتلمس الفوائد التي فيها ، ونحاول الاستفادة منها ، إننا نرى أصحاب الدورات التربوية أو الإدارية ..، قبل الدخول في دورة من الدورات ؛ يقوم المقدمون بعرض مزايا هذه الدورة ، وما فيها من فوائد ، ونحن مقبلون على عبادة ؛ أشبه بدورة ، ومدرسة ، يتربى فيها المسلم على مجموعة من الفضائل ، ويتخلى عن مجموعة من الرذائل . فينبغي علينا أن نتعرف على هذه الفوائد و الأسرار.
(1) التقوى:
وهي المقصد الأسمى من فرضية الصوم ، كما نطق بذلك الحق سبحانه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } ( البقرة183)
وهذه الغاية المرادة بالصوم هي الغاية من العبادات جميعا : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة 20) .
والتقوى هي الخشية ، قال تعلى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ( النساء 1) ، وقال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ } (106الشعراء ) يعني : ألا تخشون الله .
والتقوى وإن كانت بمعنى الخشية ، إلا إنها وردت في القران على معاني ؛ منها :
الإيمان والشهادة ، كما قال تعالى :{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (الفتح 26)
ومنها : التوبة ، قال عز وجل : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف96 )
ومنها : الإخلاص ، قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32الحج ) (الرازي ، تفسير فتح الغيب ج2ص20)
وحقيقة التقوى أن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ، يعرف عظمته وقهره وجبروته وقدرته فيخاف منه ويفزع ، فيحذر أن يقع في معصيته ، ويعرف رحمته ومغفرته ونعمه التي لا تُحصى ، وما أعد لعباده المؤمنين ؛ فإذا به يسارع إلى رضاه ، ولا ينال العبد التقوى إلا بالمداومة على الطاعة ، وإقامة الفرائض ، والزيادة من النوافل . ( الأشقر الصوم في ضوء الكتاب والسنة ص6)
فالتقوى إذاً حذر وتوقي لأسباب العذاب ، وعند خواص المؤمنين : حذر وتوقي لأسباب البعد عن الله ؛ كالذي يسير في طريق فيه شوك ؟ يحذر أن يقع فيه . سأل عمر أبي بن كعب : ماهي التقوى ؟ قال إبي : يا أمير المؤمنين : أما سلكت طريقا ذات شوك ؟ قال : بلى . قال : فماذا صنعت ؟ قال : شمرت واجتهدت . قال : فذلك التقوى ( تفسير ابن كثير )
فالمتقي يحذر من شوك الطريق ؛ الذنوب والمعاصي أو حتى المباحات ؛ التي تحول بينه وبين ربه ، فدائما هو في حذر ، إن خطى خطوة قال: ما أردت بهذه الخطوة ؟ إذا رأى امرأة خاف من ربه ، وصرف بصره ، .. فهو دائما يستشعر رقابة الله عليه ويخافه ويتقيه ؛ في فعله وتركه ، وقيامه وقعوده ، حتى في أكله وشربه ، هذا غلام لأبي بكر مملوك ، يأتيه بكسبه ، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : ما هو ؟ قال : كنت تكهّنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكِهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلتَ منه !!
فأخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه !! فقيل له : يرحمك الله ، كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟ فقال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ؛ سمعت رسول الله يقول : كل جسد نبت من سُحت فالنار أولى به . فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة ؟ ( سير إسلامية لعبد الستار الشيخ ص54)
انظر إلى هذا المثل الرائع لتقوى هذا الصحابي لربه ، رغم مكانته في الإسلام والجهاد والدعوة وجمعه لخصال الخير ؛ إلا أنه لم يغتر بذلك كله ، وكانت لديه تلك الخشية ، وذلك الحذر !!
فالتقوى هي زاد الروح ، الذي به ؛ أي هذا الزاد ؛ يسير إلى ربه ، ويصل سالما ، وأمل قول الله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } ، يقول ابن القيم : أمر الحجيج بأن يتزودوا لسفرهم ، ولا يسافروا بغير زاد . ثم نبههم على زاد سفر الآخرة ، وهو التقوى . ( بدائع التفسير ج1ص388)
قال ابن القيم : كما أن البدن لا يكون صحيحا إلا بغذاء يحفظ قوته ، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته ، وحمية يمتنع بها مما يؤذيه وخشى ضرره ، فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة تحفظ قوته ، واستفراغ بالتوبة النصوح تستفرغ بها المواد الفاسدة والأخلاق الرديئة منه ، وحمية توجب له حفظ الصحة ، والتقوى : اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة ، فما فات منها فات التقوى بقدره . ( في ظلال التقوى لوهبي ص 11)
الذي يسير في هذه الحياة بغير تقوى لله ؛ ما أكثر ما تزل قدمه !! وما أقرب الشيطان منه ؟
ربما يسأل سائل : ما علاقة الصوم بالتقوى ؟ **
وسر ختام آية الصيام بالتقوى : أن إعداد نفوس الصائمين لتقوى الله يظهر من وجوه متعددة ؛ “أعظمها شأنا : أن الصيام أمره موكول إلى نفس الصائم وضميره ، لا رقيب عليه إلا الله ، فهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه أحد سواه ، لأنه يستطيع أن يفطر سرا مختفيا عن أقرب قريب ، ولكنه يلتزم الأمانة في حفظ الصيام ؛ مهما سنح له ما يشتهي أو يغري . فمواصلة ذلك شهرا كاملا فيه تربية على هذه الخصلة العظيمة “. ( الدوسري ص 15)
والصيام بما فيه من استجابة لأوامر الله ، وترك لمحبوبات النفوس ومطلوباتها بدون رقابة سوى الله ، ينشيء التقوى في القلوب ( أشقر ص7)
فالصوم يعد نفس المسلم لتقوى الله ومراقبته طوال السنة ؛ الذي جعلك تراقبه في هذا الشهر فراقبه في بقيته ، فإن رب الشهور واحد ، وهو مطلع وشاهد .فما أعظمها من فائدة : تربية التقوى والمراقبة الدائمة في النفوس ، في كل مكان ، وفي أي زمان ، فأي قانون هذا الذي يربي هذه الحساسية ،
ولهذا قال أحد الفضلاء : إن الدساتير والقوانين واللوائح مهما تكن من الضبط والإحكام لا تستطيع أن تصنع الإنسان من داخله ، ولا تستطيع أن تصنع ضميره وقلبه ووجدانه وعواطفه ، وإنما تتحكم فقط قي الظاهر .
إن عبادة الصوم منهج إلهي يوقظ الضمير ، ويحيى الشعور ، وينبه الإحساس ، وبذلك تتطهر الحياة من البغي والظلم والفساد .”
لذلك تجد الناس في رمضان تزداد عندهم هذه الحساسية ؛ التي هي التقوى ؛ والتحرج ، فتكثر الأسئلة عن بلع الريق ، ومضغ الطعام ، وفرشاة الأسنان ، وليت هذه الحساسية تستمر بعد رمضان .
فإذا كان النهار اشتغلت المراقبة ، وإذا جاء الليل انطفأت ! لماذا ؟ فربنا الذي صمنا له بالنهار موجود وشاهد بالليل !! { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10الرعد ) )
وما أحوجنا إلى التقوى التي تنمي المراقبة : أن يتقي العبد ربه ويراقبه خاصة في خلوته ، حيث لا يراه أحد .
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍٍ *** والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
وقال الآخر :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب
فالصيام يربي في النفس التقوى والمراقبة ، وكيف نغض أبصارنا إذا رأينا محرما أو فتنة ؟ كيف نمتنع عن الحرام إن لم نتربَّ على مبدأ المراقبة وخشية الله في السر والعلن ؟ وهذا ما يعلمنا إياه شهر رمضان .
تجد المرأة في مطبخها أمام أصناف الأطعمة والأشربة ، فلا تأكل منه شيئا ، أو تشرب منه كأسا ! من الذي منعها ، ومن الذي يراقبها ؛ إنه الله .
المتوضيء وهو صائم يتمضمض والماء في فمه ولو ابتلعه لما شعر به أحد ، من الذي يمنعه أن يبتلع منه قطرة . إنه مبدأ المراقبة والخوف من الله العليم الخبير . ( بتصرف العمر 33/34)
فعلى المسلم أن يراقب الله في صيامه وصلاته ، و أولاده ، يخاف الله فيهم ، ويراقب الله في عمله ، على المرأة أن تراقب الله في لباسها الذي تلبسه أمام محارمها .
وهذا يقودنا لثمرة من ثمار التقوى ؛ وهي أيضا فائدة من فوائد الصوم :
(2) تحقيق الإخلاص ، والبعد عن الرياء :
فالصائم إنما يمتنع عن هذه الشهوات المباحة والمحببة للنفوس ؛ إنما يمتنع عنها لله وحده ، في الوقت الذي لا يراه فيه أحد ؛ إخلاصا لله ، وهذا هو المطلوب في جميع العبادات الظاهرة والباطنة ، قال تعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ (5البينة أي : كون حالهم مخلصين فيه لله ، لم يُؤمروا بالعبادة فقط ، بل بالإخلاص فيها . )
روى البخاري في صحيحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله في الحديث القدسي : ” يترك طعامه وشرابه من أجلي ، الصيام لي وأنا أجزي به ” .
إذاً فهذه العبادة الجليلة التي قال الله عنها :” يترك طعامه وشرابه من أجلي” تنمّي في الإنسان العمل لله وحده ، وتربي فيه مبدأ عدم الرياء والإخلاص لله في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة ، لذلك ورد في الأثر : ” ليس في الصيام رياء ” ، قال الحافظ ابن حجر : معنى النفي أنه لا يدخله الرياء بفعله وإن كان يدخله الرياء بقوله ؛ كمن يخبر أنه صائم . ( العمر ص 31/32)
هذا معنى من معاني : ” الصوم لي ” أنه سر بين العبد وربه ، ولا يدخله الرياء .
والمعنى الثاني : أنه لا تدخله المقاصة يوم القيامة ، كما ورد في البخاري : ” كل عمل كفارة ، الصوم لي ، ووأنا أجزي به ” ، وعند أحمد : ” كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم ..” ، ومن أحسن ما قيل في معنى ذلك ، ما قاله سفيان ابن عيينة ، قال : ” هذا من أجود الأحاديث وأحكمها ، إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله ، حتى لا يبقى إلا الصوم ، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ، ويدخله بالصوم الجنة ” خرجه البيهقي في الشعب . قال ابن رجب : وعلى هذا فيكون المعنى أن الصيام لله ، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام ، بل أجره مدخر لصاحبه عند الله ( ابن رجب لطائف المعارف ص286)
وعموما الصوم تربة على الإخلاص لله في جميع الأعمال ؛
والذي ينظر إلى حياة سلفنا الصالح يرى العجب من شدة إخلاصهم رحمهم الله :
• تقول امرأة حسان بن سنان : كان حسان يجيء فيدخل في فراشي ؛ أي: عند النوم ؛ فيُخادعني كما تُخادع المرأة صبيها ، فإذا علم أني نمت سلّ نفسه فخرج ، ثم يقوم يصلي .
• وعن محمد بن اسحاق قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسن ؛ زين العابدين ؛ فقدوا ما كانوا يُؤتون به في الليل . ووجدوا في ظهره عند غسله آثار مما كان يحمل بالليل من الجراب إلى المساكين .
• هذا داود بن أبي هند صام أربعين سنة ؛ لا يدري عنه أهله ولا أهل السوق ، كان خزتزا ،يحمل غداءه معه فيتصدق به ، فيظن أهله أنه أكل في السوق ، ويظن أهل السوق أنه أكل عند أهله .
• قال الحسن البصري : إن كان الرجل ليجلس في المجلس ، فتجيئه عبرته فيردّها ، فإذا خشي أن تسبقه قام .
• وهذا أبو وائل إذا صلى في بيته ينشج نشيجا ، ولو جُعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله .
يقول سفيان الثوري : البكاء عشرة أجزاء ، تسعة لغير الله ، وواحد لله .
وقال سفيان بن عيينة : أصابتني ذات يوم رِقة فبكيت ، فقلت في نفسي : لو كان بعض أصحابنا لرقًّ معي ، ثم غفوت ، فأتاني آت في منامي فرفسني ؛ وقال : يا سفيان ! خُذ أجرك ممن أحببت أن يراك !!
وفي مجال العلم : قال الشافعي إمام المذهب ، ومؤصّل علم الأصول : وددت أن الخلق تعلموا هذا ، على أن لا يُنسب إليّ حرف منه .
صَدقوا مع الله ، فنَفَع الله بكلامهم الخلق الكثير ، لذلك كلمات قلائل من السلف تُحيي أُمما ؛ لأنها خرجت من مُخلص ومن القلب :
قيل لحمدون بن أحمد : ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : لأنهم تكلّموا لعزّ الإسلام ، ونجاة النفوس ، ورضا الرحمن . ونحن نتكلّم لعز النفوس ، وطلب الدنيا ، ورضا الخلق !!
( العفاني صلاح الأمة ج1 ص105)
تنبيه : وهذا لا يعني أن يترك الإنسان العمل بالكلية أمام الناس خوف الرياء ،
قال الفضيل بن عياض : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من إجل الناس سرك ، والإخلاص أن يُعافيك الله منهما .
قال الحافظ النووي في معنى كلام الفضيل : أن من أراد أن يعمل عملا صالحا ثم تركه خوف الرياء من الناس فإنه يكون مرائيا بهذا الترك ؛ لأن الترك حصل من أجل الناس .إهـ (العليوي مباحث في النية ص27)
والأعمال تتفاوت ؛ فمنها ما شُرع جماعة ؛ كالجُمع والجماعات والإمامة والأذان وغيرها ، فهذا لا بد من إظهارها لأنها من شعائر الدين الظاهرة .
وهناك أعمال يعملها العبد سرا ؛ فالأفضل أن تكون سرا حتى لا يدخلها الرياء ، إلا إذا كان هناك مصلحة في عملها أمام الناس .
وإذا عملت العمل في السر ؛ وأنت مستشعرا الإخلاص فيه لله ، و أتاك الشيطان يقول : فلان يراك ، اترك العمل ! فلا تترك العمل ، واستمر فيه ، ولا تلتفت لوسوسة الشيطان .
(3) اعتياد النظام ودقة المواعيد :
نرى حياة كثير منا فوضى ، وعدم التزام بالمواعيد والأوقات ، فإذا جاء رمضان أعطانا هذا الدرس العجيب في دقة المواعيد ، والنظام والمحافظة عليه ، ولو وقفنا أمام مثال واحد نرى كيف أن رمضان يعلم الناس النظام والدقة : قال النبي :” إذا أذن بلال فلا تمسكوا ، ولكن أمسكوا إذا أذن ابن أم مكتوم ” خ/م
كم الفرق بين أذان ابن أم مكتوم وأذان بلال ؟ قال الراوي : ما بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا ” إذاً هي بضع دقائق .
انظر كيف كان النبي يعلم أصحابه أهمية الوقت والدقة في المواعيد ؛ فالصيام في وقت ، والإفطار في وقت ..
والأدق من هذا لو أن صائما لم يتقيد بالمواعيد ؛ وتناول طعاما قبل الغروب بدقيقتين ..عامدا فإن صيامه يبطل . (العمر ص 50)
أرأيت كيف يربينا الصيام على الدقة في المواعيد ؛ حتى نحافظ على أوقتنا ؛ التي هي أعمارنا .
وكم نرى من الصائمين من تأثّر بهذا الدرس ؛ إذا دخلت على الموظف في مكتبه في وقت فراغه تجده يقرأ القران ، وكذلك المُدرِّسة بين الحصص ..، حتى الطلاب في المدارس.. ؛ تجد الجميع لديه الحرص للاستفادة من الوقت و هو صائم . ولكن كم نتمنى أن يستمر منا هذا الحرص في ليل رمضان !! وأن يمتد أيضا هذا الحرص والمسابقة إلى الخير ما بعد رمضان ؛ فإن المسارعة إلى الخير مطلوبة من المسلم كل وقت ، قال الحق سبحانه :{ فاستبقوا الخيرات } ( البقرة 148/ المائدة 48) يعني : بادروا إلى فعل الخيرات ، كُن من السابقين في الدنيا إلى الخير ؛ حتى تكون منهم في الآخرة .
والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات ؛ فإن الاستباق إليها يتضمن : فعلها ، و تكميلها ، و إيقاعها على أكمل الأحوال ، والمبادرة إليها . فمن سبق في الدنيا إلى الخيرات ؛ فهو السابق في الآخرة إلى الجنات . ( تفسير السعدي ج1ص186)
إن الصيام لا يربينا فقط على الحفاظ على الوقت ؛ بل وعلى الدقة فيه ، والإستفادة منه ؛ فقال الله عز وجل :{ أَيَّامًا مَعْدُودَات } (لبقرة 184) يُذكّرنا ربنا أن رمضان أياما قلائل عزيزة و نفيسة ؛ لا تلبث أن ترحل .
فمن المؤسف أن ترى بعض الناس في رمضان ؛ يقضون أوقاتهم فيما لا فائدة فيه ، بل ربما فيما يعود عليهم بالإثم ، يفعلون ذلك في هذه الأيام الفاضلة ؛ التي تُفتّح فيها أبواب الجنان ، وتُغلّق فيها أبواب النيران !! فأي خير حُرم هؤلاء ؛ قال النبي.. : أتاني جبريل فقال : يا محمد ! من أدرك رمضان فلم يُغفر له ؛ فأبعده الله . فقلت : آمين . ( أخرجه ابن حبان وهو حديث صحيح )
فعلى المسلم أن يغتنم وقته في رمضان ؛ فيما يُقرّبه من ربه ، ويُبعده عن سخطه ، ومن ذلك أن يضع لنفسه جدولا بالأعمال التي يُريد إنجازها في هذا الشهر ؛ من قراءة للقران ، أو كتاب نافع ، أو زيارة لقريب أو أحد الجيران ، أو تفطير لصائمين ، أو توزيع شريط أو مطوية على الأهل والجيران . كل ذلك إذا كان عن تخطيط وتفكير مسبق ؛ كان أنفع .
(4) التذكير بالغاية من خلق الإنسان :
في زحمة الحياة وملذاتها ؛ واستمتاعه بزينتها ؛ من مأكل وشرب ومنكح ..؛ يغفل الإنسان عن غاية وجوده وسر حياته ، وتتحول هذه الملذات والشهوات إلى إلف يألفه ، لا يكاد يستغني عنه ، ” وهذا الإلف متى طال أمده فإنه يُعبِّد الإنسان لهواه وشهوته ، وينسيه الغاية من خلقه ، والتي من أجلها أوجد الله له الطعام والشراب والزوج كي يستعين بها على طاعة ربه وخالقه .
فإذا أصبحت الأمور؛ الوسائل ؛ هما للإنسان وغاية ، يعيش لها ، وينام عليها ، ويصحو يفكر فيها ، عند ذلك تأسره هذه الملذات ، ويصير عبدا لها ، وبذلك يتحقق فيه قول النبي.. : ” تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس ..” .
وما أحسن ما قاله المناوي موضحا هذه الحكمة ، قال : إنما شُرع الصوم كسرا لشهوات النفوس ، وقطعا لأسباب الاسترقاق والتعبد للأشياء ، فإنهم لو داوموا على أغراضهم لاستعبدتهم الأشياء ، وقطعتهم عن الله ، والصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله ، ويورث الحرية من الرق للمشتهَيات ، لأن المراد من الحرية : أن يملك الأشياء ولا تملكه ، فإذا ملكته فقد قلب الحكمة ، وصير الفاضل مفضولا ، والأعلى أسفلا : { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِين } ( الأعراف 140) والهوى إله معبود ، والصوم يورث قطع أسباب التعبد لغير الله . إهـ ( الأشقر 9)
لذلك ينبغي على المسلم أنه يستشعر في كل لحظة أنه عبد لله وحده ، عبدا لله في رمضان وفي غيره ، عبدا لله في عمله وفي بيته ، عبد لله في مسجده أو في سوقه ، فالعبودية لا تنفك عن الإنسان ، فهو عبد لله في حياته كلها ، حتى فيما يترك ويدع : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (16الأنعام ) ، فالمسلم يستشعر أنه عبد لله في كل أحيانه ؛ لأنه ما خلقه الله ؛ وخلق الجن والإنس إلا لعبادته سبحانه ، فانظر كم من الوقت أنت عبد لله ؟ كم من الوقت أنت مطيع له ؟ إذا حددت الوقت الذي هو لله في حياتك ؛ تعلم ما لك عند الله من المنزلة والكرامة ، ولا تُظلم نفس شيئا !
اسمع لقول النبي ..” من أراد أن يعلم ما له عند الله ؛ فلينظر ما لله عنده ” ( حسن / أخرجه الدارقطني )
ما حظُّ الله من سمعك ؟ وما حظ الهوى و الشيطان ؟
ما حظ الله من بصرك ؟ ما حظ الله من مالك ؟
ما حظ الله من قلبك ؟ هل لله في قلبك مكان ؟ فإن القلب لا يقبل المزاحمة ؟
..” من أراد أن يعلم ما له عند الله ؛ فلينظر ما لله عنده ” ، اجعل هذا الحديث بين عينيك .
(5) إمكانية التغيير :
هذا الدرس من أهم الدروس المستفادة من هذا الشهر ، فنحن لو تأملنا واقع المسلمين الآن لقال الكثير منا : إن هذا الواقع السيء لا يصعب تغييره ، فالشوارع مليئة بالمنكرات ، والصحف وامجلات ، التلفاز والفضائائيات سمومها تبث ليل نهار ، فأنى للناس أن يتغير حالهم ؟ هذا أمر صعب ، لا يصلحه إلا مجدد !!هكذا يقول البعض .
ولكن لنا في رمضان خير شاهد ، فتقول : كيف ؟
أولا : لو نظرنا إلى المساجد في غيررمضان ، وخاصة في صلاة الفجر ، نجدها خاوية إلا من رحم الله ، وعندما يقبل علينا هذا الشهر تمتلىء المساجد بالراكعين الساجدين ، ويتغير واقع الناس إلى الأحسن .
ثانيا : سهولة تغير الإلف والعادة ، وقد تلاحظ شخصا يدخن فتنهاه عن المنكر ..؛ ولكنه تراه يتذرع بالحجج ..، أما إذا دخل رمضان تراه يمتنع عن التدخين أكثر اليوم ، ويصبر ويتحمل ، ولكن ضعف النفس والهوى وتسلط الشيطان والأصحاب :ل ذلك يدفعه للعودة إلى التدخين .
هذه الأمثلة تعطينا الأمل في تغيير الواقع السيء إلى واقع أفضل ، وأن لا نيأس من حال الناس أو حالنا ؛ فلا تيأس من تغيير حالك ، أسألك سؤال : متى آخر مرة ختمت القرآن ؟ الجواب ربما يكون: رمضان الماضي !! وإذا جاء رمضان انظر كم مرة تختم ؟ انظر إلى أخلاقك قبل رمضان ، وإذا جاء رمضان ؟ لاحظ محافظتك على الصف الأول ؟ وهكذا ، إذاً هناك إمكان لتغيُّر للأحسن وترك السيء أو الأسوء .
الأمر فقط يحتاج منا لمجاهدة وإرادة قوية ، والله وعد بالعون والهداية فقال سبحانه : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } (69 العنكبوت( العمر بتصرف 39)
رمضان حقا فرصة للتغيير ؛ ولكن من يستمر حتى في رمضان على هذه الإرادة ؟!
إنه جدير بالصائم ان لا يفعل بعد إفطاره ما يخل بهذه الإرادة ؛ فيهدم في ليلة ما بناه في نهاره من قوة الإرادة والقدرة على التغيير .
ومن لم يتأثر بما يقوله وما يعمله من أركان الإسلام وشعائره تأثرا روحيا ومعنويا تتغير به أخلاقه وطبائعه ، هذا ما استفاد شيئا من العبادات إلا سقوط الفرض عنه !! إنما هي حركات أدّاها ثم انتهت !
فهل الصلاة أمرنا الله بها لمجرد حركات ..! لا أثر لها في حياتنا ؟
هل الحج..؟ أحقاً ما شرع الله العبادات إلا لذلك ( حركات وطقوس ) ؟ أم شرعها الله لأمور عظيمة .
والمسلمون ما قست قلوبهم وتقاعسوا عن واجباتهم فكانوا عرضة لغزو أعدائهم سياسيا وثقافيا إلا بسبب عدم تأثرهم بما يكررون قوله وفعله واعتقاده من أركان الإسلام وشرائعه . ولو أنهم تأثروا بما يقولونه ويفعلونه ؛ لأجج ذلك في قلبهم نار الغيرة لله والانتصار لدينه .ولكن ياللأسف أصبحت عبادات المسلمين اليوم صور بلا روح ، مجرد طقوس وحركات لا أثر لها على سلوك المسلم . (الدوسري بتصرف 25)
إذا رمضان فرصة للتغيير ، وكثير من الناس أسرى لما تعودوه ، وكلما حاولوا ترك العوائد تعثروا ، وبعضهم يحقق نجاحا لمدة معينة ثم يتراجع ، ولكن في رمضان فرصة عظيمة للتغيير ، فالصوم علاج نافع لكثير من هذه العادات المألوفة ، وتمرين على التخلص من سلطانها ، وتذكير للإنسان بأن هذه العادات ليست أمورا لا زمة لا يمكن الخلاص منها ، وإنما هي أشياء فرضها على نفسه ، أو فرضتها عليه ظروف حياته ، وأنه يستطيع بالعزيمة والتصميم أن يتركها .( بادحدح39
وهذا يقودنا لفائدة أخرى من فوائد الصوم
(6) التربية على الصبر وقوة الإرادة :
ما أحوجنا إلى الصبر والمصابرة والتحمل وقوة الإرادة ، وبخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه الصبر ، وضعفت فيه الإرادة ، وقل فيه التحمل ، عصر السرعة والإنترنت ؛ نريد كل شيء بغطة زرّ !!
لنكن صرحاء مع أنفسنا ؛ فلوتعطلت علينا المكيفات في بيوتنا أو سياراتنا أو مساجدنا فكيف سيكون حالنا ؟
وكيف يكون حالنا لو هجم علينا عدونا ؟ هل نجد فينا القدرة الصبر للصمود أمامه
لقد قل الصبر ، وعندما يأتي رمضان نتعلم تلك الخصلة الحميدة ؛ فنصبر على الجوع والعطش ، ونصبرعلى الصلاة وقيام الليل ، ونبذل من أموالنا للفقراء ، ونتحمل أذى الناس وجهل الجاهلين ، ولا شك أن في ذلك تعويد لنا على الصبر والتحمل .
فما أحوجنا إلى الصبر في ميادين كثيرة ، في ميدان طلب العلم ، فالعلم يحتاج إلى سهر وبحث وطول مطالعة ، وكل ذلك لا بد له من صبر .
وفي ميدان الدعوة وتوجيه الناس نحتاج إلى الصبر وسعة الصدر ، فالأخذ بأيدي الناس إلى الحق ، وانتزاعهم من الشهوات والملذات المحرمة أمر شاق وصعب ، فلا بد من التحمل . (العمر 29)
قال لقمان لابنه كما حكى الله عنه :{ يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (17لقمان ) فعند دعوة الناس ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لابد من الصبر عليهم ؛ لأنك تصادمهم في شهواتهم ومألوفاتهم .
أيضا ترك العوائد السيئة والمحرمات المألوفة التي تعود عليها الإنسان سنين تركها يحتاج إلى صبر ، وفي الصوم خير تربية على الصبر ، بل الصوم هو الصبر ، ” لأن الصوم تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة ، فإن فيه صبرا على طاعة الله ، وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات ، وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش ، وضعف البدن ” (ابن رجب284)
يتربى الصائم في رمضان على الصبر عن الحلال لأنه من محظورات الصيام ، وهذا فيه تربية لنا حتى نصبر عن ما حرم الله علينا ، الله سبحانه حرم علينا مؤقتا الحلال في النهار ؛ وأباحه في الليل ؛ حتى تقوى نفوسنا على ترك الحرام طوال العمر ؛ فإذا أفطر الصائم حفظ سمعه عن الحرام ، وحفظ بصره من النظر والمشاهدة للحرام ، وحفظ بطنه من أكل الربا والرشاوي .
فليس من العقل أن يمتثل الإنسان عند الصبر على الحلال ولا يمتثل عند الصبر على الحرام ،
” فالتقرب إلى الله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات ، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان كمن يترك الفرض ويتقرب بالنوافل .
ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل ؛ فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان ، بخلاف الطعام والشراب ، فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه ، فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل ؛ فإنه محرم بكل حال . ( ابن رجب 292)
والصبر من أدل الدلائل على المحبة ، فمن أحب الله صبر به ، وصبر له ، وصبرمعه ،
صبر به : استعانةً ، فهو المصّبر سبحانه .
وصبر له : إخلاصا ومحبّة .
وصبر معه : وهو دوران العبد مع أمر الله وأحكامه ، يسير معها حيث سارت ، ويقف حيث وقفت . فهو قد جعل نفسه وقفا على أوامر الله ، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها ، وهو صبر الصّدّيقين . ( صلاح الأمة ج4ص384)
والمتأمل في الناس وما هم فيه من الذنوب ؛ يجد أن سببه الشهوة ( شهوة المال / الفرج/ الجاه ) ، ولا علاج لها إلا بالصبر ..، وطريق الصبر العبادة ، بل القوة في العبادة .
وقد مدح الله أنبياءه بهذه الخصلة ؛ القوة في العبادة فقال : اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ( 17ص) ، وقال عز وجل : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ( 45ص )
قال ابن عباس : أولي القوة في طاعة الله ، المعرفة بالله .
وقال الكلبي : أولي القوة في العبادة ، والصبر فيها .
وقال سعيد بن جبير : الأيدي : القوة في العمل ، والأبصار : بصرهم بما هم فيه من دينهم .
فطريق الصبر العبادة ، والقوة في العبادة ؛ باغتنام مواسم الخير ، والإخلاص والمتابعة .
(7) تهذيب الأخلاق :
الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان ، ويضعف سلطانه على الصائم ، لذلك ترى الصائم يبعد عن الكذب والفحش في القول والفعل ، ويتحلى بالصبر والصدق والرحمة ، وتنمو في الإنسان نوازع الخير ،
ففي رمضان يتربى الصائم على هذه الأخلاق الحميدة ، وترك كثير من الأخلاق الذميمة ، بل إن النبي حث الصائم خصوصا على ذلك فقال : ” الصوم جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله او شاتمه فليقل : إني صائم ، إني صائم ” ( خ/م ) ، وقال النبي : ” من لم يدع قول الزور العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ” (خ)
” قال بعض السلف : أهون الصيام ترك الشراب والطعام . وقال جابر : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء .( طائف المعارف ص292)
قال الإمام أحمد : ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ، ولا يماري ، ويصون صومه ، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد ، وقالوا : نحفظ صومنا ، ولا نغتاب الناس . ( الروض المربع )
إذا لم يكن في السمع مني تصاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
وما أوصيك به في هذا الشهر وغيره : احفظ لسانك ، نعم هذه العضلة التي لا يتعب الإنسان من تحريكها ، فكم في المقابر من صريع اللسان ، بل كلمة واحدة قد يشقى بها الإنسان ، قال النبي : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة ، …( أخرجه الإمام مالك )
وليس شيء أحق بطول سجن من اللسان ، قال سفيان بن عيينة : طول الصمت مفتاح العبادة .
وقال : الفضيل : ما حج ، ولا صام ، ولا رابط ، ولا اجتهاد أشد من حبس اللسان !! وجرّب هل تستطيع أن لا تتكلم إلا بخير يُكتب لك ! كم مرة تكلمت اليوم في فلان ، وفي زميلك في العمل ؟
” إن أولئك الذين لا يهذب رمضان أخلاقهم ، ولا يغير من طباعهم ، بل قد يزيدون سوء ، ويغضبون لأتفه الأسباب ، إن هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الصيام . والأسوء من ذلك أن بعضهم قد يتحجج لحدة طبعه وسوء خلقه بأنه صائم !! أهذا ثمرة الصيام ؟! ( العمر ص38)
هذا ما صام الصوم المطلوب ؛ إنما امتنع عن الطعام والشراب عادة ؛ لأن الناس يفعلون هكذا ، وعيب أن أخرج عن عادة الناس !!
(8) التذكير بنعمة الله :
عندما يحس الصائم ألم الجوع ، وحرارة العطش في نهار رمضان ؛ يتذكر البؤساء والفقراء الذين لا يجدون ما يكفيهم من ذلك طوال السنة . فيتساوى عندها الغني والفقير في الجوع ، فتذهب غفلة الشبعان عن الجائع ، ويتذكر الموسر حال المعسر ، ويتقي الله فيما سيسأله الله عنهم ، فيأتي رمضان ليذكرنا أولا بهذه النعمة التي نحن فيها فنشكرها ، ويذكرنا ثانيا بمن حولنا من الفقراء الذين ذقنا ألم جوعهم وحرارة عطشهم ، فنمد لهم يد الرحمة ، ونمسح عنهم ألم البؤس ، وندخل السرور على أطفالهم كما نحبه لأطفالنا ، عندها تنشأ الرحمة بين الناس ، وتزول الكراهية والحسد .
والشكر الصحيح والمطلوب هو : حُسن التصرف بالنعم ، وذلك باستعمالها في طاعة الله ، والاستعانة بها على حمل رسالته ، وعدم صرف شيء منها في معصيته .
والصوم الصحيح يُحقق المعرفة بالنعمة ، ويُوقظ الشعور إلى حُسن التصرف فيها ، ولذا ختم الله الآيات المتعلّقة بالصيام بقوله : وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185القرة ) ( الدوسري ص32)
والأكل والشرب ليس هو فقط النعمة ، بل نحن في نعم عظيمة تستحق التأمل ؛ نعمة الإيمان والهداية لهذا الدين ، ونعمة الهداية في الدين .
ومن النعم أن الله أبقاك إلى رمضان وأخذ غيرك !!
ومن النعم الصحة ، جاء رجل إلى يونس بن عبيد ؛ يشكو ضيق حاله . فقال له يونس : أيسرك ببصرك هذا الذي تُبصر به مائة ألف درهم ؟ قال الرجل :لا .( يعني ماذا أفعل بمائة ألف وأنا أعمى ). قال فبيدك مائة ألف ؟ قال : لا . قال : فبرجلك ؟ قال : لا . فذكّره نِعَمَ الله عز وجل . ثم قال يونس : أرى عندك مئين الألوف ، وأنت تشكو الحاجة !!( صلاح الأمة ج5 ص 486)
قال عبد الله بن أبي داود : رأيت في يد محمد بن واسع قُرحةً ، فكأنه رأى ما شقّ عليّ منها ، فقال لي : أتدري ماذا لله عليّ في هذه القُرحة ؟! حين لم يجعلها في حَدَقتي ، ولا لساني ، ..، فهانت عليّ قُرحته . ( صلاح الأمة ج5ص488)
ومن النعم : ما يصرفه الله عنك من الذنوب ؛ وأنت ترى غيرك يهلك فيه !
ومن النعم : شكر النعم ، أن يُفقك الله لشكر نعمته عليك هذه نعمة :
إذا كان شكري نعمةَ الله نغمةً *** عليّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيام واتّصل العمر
إذا مسّ بالسّراء عمّ سرورها *** وإن مس بالضرّار أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه مِنَّةٌ *** تضيق بها الأوهام والبرُ والبحر
(9) الصوم والصحة :
مع أن الصوم عبادة جزاؤها الأجر والثواب في الآخرة .. إلا أن من بديع الحكمة والرحمة الإلهية أن يتعبّدنا ربنا بما فيه خيرنا في العاجل والآجل ، فتكون العبادات سببا في العافية وصحة البدن و سلامته ..
ولا شك أن في الصيام فوائد عديدة للجسم ، ويتضح ذلك فيما يلي :
1- الصوم يوقف عملية امتصاص المواد المتبقية في الأمعاء ، ويعمل على طرحها ، والتي يمكن أن يؤدي طول مكثها إلى تحوّلها لنفايات سامة ، كما أنه الوسيلة الوحيدة الفعالة التي تسمح بطرد السموم المتراكمة في الجسم .
2- بفضل الصوم تستعيد أجهزة الإطراح والإفراغ نشاطها وقوتها ، ويتحسّن أداؤها الوظيفي في تنقية الجسم ، مما يؤدّي إلى ضبط الثوابت الحوية في الدم و سوائل البدن . لذا نرى الإجماع الطبي على ضرورة إجراء الفحوص الدموية على الريق .. أي يكون المفحوص صائما ، فإذا حصل أن عاملا من هذه الثوابت في غير مستواه .. فإنه يكون دليلا على أن هناك خللا ما .
3- بالصوم يستطيع الجسم تحليل المواد الزائدة والترسبات المختلفة داخل الأنسجة المريضة .
4- الصوم أداة يمكن أن تُعيد الشباب و الحوية إلى الخلايا والأنسجة . ولقد أكّدت أبحاث علمية أن الصوم سبب فيه إعادة الشباب الحقيقي للجسد .
5- الصوم يضمن الحفاظ على الطاقة الجسدية ، ويعمل على ترشيد توزيعها حسب حاجة الجسم .
6- الصوم يُحسّن وظيفة الهضم ، ويُسهل الامتصاص ، ويسمح بتصحيح فرط التغذية .
7- الصوم يفتح الذهن ، ويُقوي الإدراك ، وقديما قيل : البطنة تُذهب الفطنة .
8- الصوم علاج شاف – بإذن الله – لكثير من أمراض العصر ، فهو يُخفف العبء عن جهاز الدوران ، وتهبط نسبة الدسم وحمض البول في الدم أثناء الصيام ، فيقي البدن من الإصابة بتصلب الشرايين ، وداء النقرس ، وغيرها من أمراض التغذية .
9- وفي الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب ، وذلك لأن 10 % من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلى الجسم تذهب إلى الجهاز الهضمي أثناء عملية الهضم ، وتنخفض هذه الكمية أثناء الصوم حيث لا توجد عملية هضم أثناء النهار ، وهذا يعني جهدا أقل وراحة أكبر لعضلة القلب.
وهكذا.. وبعد أن يُنظف الجسم من سمومه ، وتأخذ أجهزته الراحة الكاملة بسبب الصوم ؛ يتفرّغ إلى لأم جروحه ، وإصلاح ما تلف من أنسجته ، وتنظيم الخلل الحاصل في وظائفها ؛ إذ يسترجع الجسم أنفاسه ، ويستعيد قواه لمواجهة الطواريء .. بفضل الراحة والاستجمام اللذين أُتيحا له بفضل الصوم .
وقد يشعر الصائم ببعض المضايقات في أيام صومه الأولى : كالصداع ، ولوهن ، وتوتر الأعصاب ، وانقلاب المزاج ، وهذه تُفسّر بأن الجسم عندما يتخلص من رواسبه المتبقية داخل الأنسجة ، ينتج عن تذويبها سموم تتدفق في الدم قبل قبل أن يلقى بها خارج الجسم ، وهي إذ تمر بالدم ، تمر عبر الجسد و أجهزته كلها من قلب ودماغ وأعصاب ، مما يؤدي إلى تخريشها أول الأمر ، وظهور هذه الأعراض ، والتي تزول بعد أيام من بدء لصيام .( مجالس رمضانية ص 80 )
وإذا ما التزم الصائم بغذاء معتدل ، وتجنب الإفراط في الدهون والنشويات ، وجد في نهاية شهر رمضان انخفاضا في معدل الكولسترول عنده ، ونقص وزنه ، ووجد في رمضان وقاية لقلبه ، وعلاجا لمرضه .
ولو اتبعنا النظام الدقيق في غذائنا ، ولم نكثر من الإفطار والسحور فوق طاقة الجسم تتم الفائدة ، ونحصل على المقصود من حكمة الصيام . ولكن – للأسف الشديد – فكثير من الصائمين يقضون فترة المساء في تناول مختلف الأطعمة ، ويحشون معدتهم بألوان عدة من الطعام ، وقد يأكلون في شهر الصيام أضعاف ما يأكلون في غيره ، أمثال هؤلاء لا يستفيدون من الصوم الفائدة المرجوة . يقول الشاعر معروف الرصافي وهو يصف بعض الصائمين الذين يتهافتون على الطعام غير مبالين بالعواقب :
وأغبى العالمين فتى أكــول *** لفطنته ببطنته انــــهزام
ولو أني استطعت صيام دهري *** لصمت فكان ديـدني الصيام
ولكن لا أصوم صيام قــوم *** تكاثر في فطورهم الطعــام
فإن وضح النهار طووا جياعا *** وقد هموا إذا اختلط الظـلام
وقالوا يا نهار لئن تــجعنا *** فإن الليل منك لنا انتـقـام
وناموا متخمين على امتـلاء *** وقد يتجشئون وهم نــيام
فقل للصائمين أداء فــرض *** ألا ما هكذا فرض الصـيام
(د/حسان شمسي باشا)
ونحن لا نصوم من أجل المعدة ، ولا من أجل المحافظة على الجسم ، ولكن ن صوم عبادة لله ، ومن آثار تلك العبادة ما سبق ذكره ، فلله الحمد والمنة .
(10) تخلية القلب للفكر والذكر :
فإن تناول هذه الشهوات قد تُقسّي القلب وتُعميه ، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر ، وتستدعي الغفلة .
وخلو الباطن من الطعام والشراب ينوّر القلب .. ويُوجب رقّته .. ويُزيل قسوته .. ويُخلِيْه للذكر والفكر .( اللطائف ص291 )
وكثرة الأكل توجب عكس ذلك .
قال عمرو بن قيس : إياكم والبطنة .. فإنها تُقسّي القلب .
و قال سلمة بن سعيد : إنْ كان الرجل ليُعَيّر بالبطنة .. كما يُعير بالذنب يعمله .
وقال مالك بن دينار : حدثني الحسن بن عبد الرحمن .. قال : قال الحسن : كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلةً ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة . قال : وكان يُقال : من مَلَكَ بطنه .. ملك الأعمال الصالحة كلها ، وكان يُقال : لا تسكن الحكمة مهدة ملأى .
وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إليّ سفيان الثوري : إنْ أردت أن يصحّ جسمك .. ويقلَّ نومك .. فأقلَّ من الأكل .
قال ثابت البناني : بَلَغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأى عليه معاليق من كل شيء ، فقال يحيى : يا إلبيس ما هذه المعاليق التي أرى عليك ؟
قال : هذه الشهوات التي أُصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربما شبعت ، فثقلت عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غيرُ هذا ؟ قال : لا .
قال يحيى : لله عليّ أن لا أملأ بطني من طعام أبدا ، فقال إبليس : ولله عليّ أن لا أنصح مسلما أبدا !!
ولهذا قال النبي صلى الله في الحديث الحسن الذي أخرجه الإمام أحمد والترمذي .. قال : ” ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطنٍ ، بحسب ابنِ آدم أَكلاتٌ يُقمن صلبه ، فإذا كان لا محالة .. فثلث لطعامه ، وثلث اشرابه ، وثلث لِنَفَسه ” .
قال الشافعي : ما شبعتُ منذ ست عشرة سنة !! لأن الشبع يُثقل البدن ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويُضعف صاحبه عن العبادة .( جامع العلوم والحكم ص 467) .
ومن وصايا لقمان لابنه قوله : يا بني ! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقعدت الأعضاء عن العبادة .
(11) الصوم يقمع الشهوة :
ولهذا جاء في الحديث أن النبي .. قال : ” يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، و من لم يستطع فعليه بالصوم .. فإنه له وجاء ” متفق عليه .
فأشار النبي إلى أن الصوم يمنع من اندفاع الإنسان إلى الشهوة ، وربط بعض أهل العلم هذا الحديث بالحديث الآخر المتفق عليه من حديث صفية .. وفيه قول النبي .. : ” إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ” ( مجالس رمضان للعودة ص 75 ) .
فالصوم يقمع الشهوة .. التي سببها الشيطان .. لأنه يُضيّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان ، و تنكسر سَورة الشهوة والغضب ، ولهذا جعل النبي الصوم وجاء ؛ لقطعه عن شهوة النكاح .
و الصوم والعبادات عموما تُضعف تأثير الشيطان وتسلطه على الإنسان ،
(12) الصوم يربي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة ؛
فالصائم يترك بعض الأمور الدنيوية تطلّعا إلى ما عند الله من الآخرة والثواب ، فمقياس ربحه وخسارته أخروي ، فهو يترك الأكل والشرب والملذات في نهار رمضان .. انتظارا للجزاء الحسن والثواب العظيم يوم القيامة .
وفي ذلك أعظم الدروس لتوطين قلب الصائم على الإيمان بالغيب والآخرة ، والتعلّق بها ، والترفّع عن عاجل ملاذّ الدنيا التي تقود إلى التثاقل والإخلاد إلى الأرض .
واصحاب المقاييس المادية لا يرون في الصوم أكثر من حرمان من لذة الأكل والشرب والجماع ..( مجالس رمضان ص 74)
المصدر :صيد الفوائد