قاعدة “لا إكراه في الدين”
جاء الإسلام ليؤكد حقوق الإنسان خاصة حريته، فهو التكريم الحقيقي للإنسان، بل لا معنى لإنسانيته بدون حريته التي بها يكون إنسانا مكلفا سويا مريدا، الحرية التي يحقق من خلالها حق الحياة وحق الملكية الخاصة وحق الحرية الشخصية، حيث حرية الاعتقاد والحرية السياسية والرأي والتملك والتنقل والاختيار وغيرها، وأن أي مظهر ينافي حريته فالإسلام ضده، وأن مبدأ الإكراه –مثلا- منفي بالكلية عن هذا الدين، ومن هنا يمكننا القول بوضوح إن حرية الإنسان هي محور تكريمه الأساس، فما فائدة بقية حقوقه إن لم يكن حرا مختارا مريدا، وقد ذهب الإسلام بعيدا في إعطائه حرية الدين، وهي الأهم على الإطلاق حين أعلن: “لا إكراه في الدين”، سواء بمعنى إكراهه على دين وسلبه حرية اختياره، أو بالمفهوم الشامل لنفي مبدأ الإكراه كليا من الدين، وهذه ميزة لرقي الإسلام في احترام الإنسان، يقول فرانز روزنتال في خلاصة دراسته عن الحرية: “كانت الحرية تقرن بكل ما هو نبيل وطيب في الأخلاق الإنسانية، ولقد أسهم هذا إسهاما كبيرا في حفظ الاحترام لهذا المصطلح، وكانت النتيجة أن فكرة الحرية بدت وكأنها مهمة في عقل المسلم، سواء كان ذلك بشكل واع أو مستتر”.
إن كلمة الإكراه في العادة تُعَدّى بـ: (على) كما قال تعالى: “ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء”، وقال على لسان سحرة فرعون: “وما أكرهتنا عليه من السحر”، بينما قال هنا “لا إكراه في الدين” فعُدّي الإكراه بـ (في)، ومعنى هذا أنه لا إكراه في ديننا مطلقًا، لا في أمور عقدية ولا اجتماعية ولا أي جزء منه، فمبدأ الإكراه ملغى أبدًا، فلا بد من الاقتناع، وبعد ذلك فالناس أحرار في اتباع المنهج الذي يريدون، وهم محاسبون على اختيارهم، ولذلك قال الله بعد ذلك: “قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم”.
ونلحظ أيضًا أن كلمة (إكراه) في الآية جاءت نكرة، وهذا يفيد تعميمها، فمسألة الإكراه غير جائزة في ديننا أبدًا، أما ما في الإسلام من مظاهر القوة أو العقوبات فهي للردع، وهي أمور لا بد منها لأمن المجتمع الإسلامي من ناحية، ولضمان سير الدعوة إلى الله باطمئنان، فهي ليست مسائل إكراه بل وسائل لحماية الدعوة من جهة وحماية المجتمع من ناحية أخرى.
والآية محكمة، ولا التفات إلى من قال بنسخها بآية السيف أو بغيرها من الآيات الحاثة على قتال المشركين، فلا تعارض بين الأمر بالقتال ونفي الإكراه، إذ الجهاد من أجل تأمين حرية الدعوة وحرية اختيار الناس للدين، وحينها لا إكراه في الدين، والإنسان حر باختيار الدين الذي يريد، فالجهاد في نوعه هذا (الطلب) هو لتأمين الدعوة والحرية لا لإكراه الناس.
يقول الأستاذ محمد عبده في قوله تعالى “لا إكراه في الدين”: “قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه، وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا، اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن، معتمدين على أن تبيين الرشد من الغي بالبرهان: هو الصراط المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة، فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أي أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجنّة، فهو أمر سياسي لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذي به العوام، ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم”.
ويقول سيد قطب: “إن قضية العقيدة -كما جاء بها هذا الدين- قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليست قضية إكراه وغصب وإجبار، ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته، يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكنة، يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه، في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجئ مشاهدَها إلجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك.. وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع”.
ويقول: “وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني… إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف “إنسان”، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة”.
إن حقوق الإنسان جزء من إنسانيته، لا يجوز لأية سلطة في هذه الأرض أن تساومه عليها، وهي ليست منّة يُمتن بها على الناس، فإن وجدت فهذا هو الأصل، وإن فقدت فهو اغتصاب لهذه الحقوق واعتداء على إنسانية الإنسان وكرامته، وما أكثر ما تتبجح به دول ومدنيات وحضارات من إعطاء الإنسان حقه، وفي الواقع فهو الاستعباد الذي أذل الناس وأنقص من قيمهم الحقيقية، خاصة العبودية لله تعالى.
ويذكر العقاد نماذج من واقع الجاهلية وكيف كان الاستبداد سيد الموقف، وكانت القدرة على الظلم قرينة لمعنى العزة والجاه، ويذكر نماذج مخيفة في الاستبداد والاستعباد. فجاء الإسلام في أحكامه كلها ليعزز هذه الإنسانية الملتصقة بالإنسان، بغض النظر عن معتقده، فليست خاصة لأناس دون غيرهم.
المصدر :موقع الغد الاردني