مشاهير أسلموا

محمد أسد ذلك الرجل

محمد أسد ذلك الرجل, (ليوبولد فايس).. التحوّل الشامل الى الاسلام

محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) ولد في بولندا عام 1900، وتوفي في عام 1992م. وهو كاتب نمساوي مسلم و مفكر اسلامي (يهودي سابقاً) درس الفلسفة في جامعة فيينا؛ وعمل مراسلا صحفيا وسفيرا، وطاف العالم ثم استقر في إسبانيا وتوفي فيها ودفن في غرناطه.

نشأته:
لقب العائلة “فايس” اسم يعني باللغة الألمانية اللون الأبيض، وهذه إشارة واضحة للأصول الألمانية للعائلة، وكتابة “WEISS” بتكرار حرف ” S ” في نهاية الإسم بدلا من “WEIß” دليل واضح على الأصول اليهودية للعائلة. واسم والده “كيفا” وكان محامياً، وجده لأبيه كان حاخاماً، فهو الحاخام الأورثوذوكسي “بنيامين أرجيا فايس”. وقد تولّى جده الحاخامية في “تشارنوفيتش” في منطقة بوكوفينا.

ترجم القرآن للإنكليزية؛ وأكد أن اليهود حرفوا معاني كتابهم، وأن البشارة بمحمد مازالت في النسخ الحالية

قصة اسلامه كما كتبها بنفسه في كتابه (الطريق إلي مكة):

أفغانستان شتاء 1926:
كنت في طريقى راكباً من هرات لكابول بصحبة إبراهيم ودليل أفغانى الجنسية نسير خلال جبال مدفونة مغطاة بالجليد، ووديان وطرق فى “هندو- كش” فى وسط أفغانستان. كان الطقس باردا والجليد يتألق، وتقف على كل الجوانب جبال بيضاء، وأخرى سوداء.

كنت حزينا، وفى نفس الوقت بشكل غريب كنت سعيدا هذا اليوم!!، أما حزني فقد كان لأن من كنت أعيش معهم في الشهور السابقة كانوا محجوبون ببلادة عن حقيقة النور، والقوة، والتقدم الذي يعطيه لهم إيمانهم، وفي نفس الوقت كانت سعادتي، بأن هذه الحقيقة والنور، والقوة والتقدم، في متناول يدي تقريبا الآن، وأمام عيني، كهذه الجبال الشامخة البيضاء والسوداء التي أمامي.

بدأ حصاني يعرج وكأن شيئا في حافره، ووجدت أن الحدوة الحديدية أصبحت معلقة فقط بمسمارين!!،
سألت رفيقنا الأفغانى: “هل هناك قرية قريبة نجد فيها حداد؟”،
نعم، قرية “ديهزانجي” تقع على بعد أقل من ثلاثة أميال، يوجد بها حداد هناك ، وبها قصر حاكم “هزرجات”.

وهكذا اتجهنا إلى هذه القرية، وتمهلنا فى المسير حتى لا نرهق الحصان.

حاكم المنطقة، كان قصير القامة، وكان مرحا الطلعة، وودود ، وكان سعيدا أن يستضيف أجنبيا عنده فى قصره البعيد عن العمران، والمتواضع. وقد كان هذا الحاكم قريب للملك “أمان الله”، ومن المقربين له… وقد كان من أكثر من قابلت تواضعا فى أفغانستان. وقد أصر على بقائي فى ضيافته ليومين.

وفى مساء اليوم الثانى، جلسنا كالعادة لعشاء دسم، وبعد العشاء حضر رجل من القرية ليطربنا بأغانى شعبية، مصطحبا قيثارة بثلاث أوتار، وكان يغنى بلغة الباشتو التى لم أفهمها، ولكن بعض الكلمات الفارسية كانت تخللها بوضوح في الغرفة الدافئة المغطاة بالسجاجيد، بينما وميض الثلج البارد يظهر من خلال النوافذ.

أتذكر أنه كان يغنى عن المعركة بين داوود وجالوت، وبدأها بنغمة متواضعة، ثم تدرجت إلى بعض العنف، وأنتهت بروح الإنتصار.

وبعد أن انتهت، قال الحاكم: “أن داوود كان شابا، ولكن إيمانه كان قويا….”، ولم أتمالك من التعليق فقلت: “كذلك أنتم كثيرون ولكن إيمانكم ضعيف”.

نظر إلي المضيف بدهشة، وارتباك لما تطوعت وذكرته، فأسرعت لأوضح قولي وأخذ توضيحي شكل سيل من الأسئلة:
لماذا فقدتم أنتم المسلمون ثقتكم بأنفسكم التي في القديم ساعدت على نشر الإيمان بالإسلام في أقل من مائة عام من الجزيرة العربية غربا إلى المحيط الأطلسى، وشرقا فى العمق إلى الصين – والآن تستسلمون بضعف، إلى الأفكار والعادات الغربية؟، لماذا لا تستطيعون أنتم يا من كان أباؤكم الأوائل أناروا العالم بعلمهم وفنهم بينما كانت أوروبا تغض فى بربرية وجهل مدقع، فلتعملوا من الآن على أن تعودوا لإيمانكم الخلاق؟، كيف أن هذا الأتاتورك التافه الذي ينكر كل قيم الإسلام قد أصبح عندكم رمزا لإحياء الإسلام؟

استمر مضيفي في صمته وبدأ الجليد ينهمر في الخارج، ومرة ثانية غمرني الشعور المزدوج بالحزن والسعادة الذي انتابني حينما اقتربت من “ديهزانجى”، أحسست بالفخار لما قد كان، وبالخجل لما عليه أبناء حضارة عظيمة.

هل لك أن تدلني – كيف أن الإيمان الذى دلكم عليه نبيكم، وكل هذا الوضوح والبساطة، قد دفنت تحت أنقاض الثرثرة المتحزلقة، والشجار بين علمائكم؟، كيف أن أمراءكم والإقطاعيين يعيشون فى رفاهية، بينما إخوانهم من المسلمين يذوقون الفاقة والفقر المدقع، فى حين أن نبيكم يقول أنه لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع؟، هل لك أن تشرح لى كيف نبذتم النساء خلفكم، بينما نساء الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وصحابته كن يشاركن الرجال فى أمورهم الهامة؟، كيف وصل الحال بكم أنتم المسلمين إلى الجهل والأمية، فى حين يقول نبيكم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر النجوم؟

ظل مضيفي يحملق في دون كلام، وابتدأت أشعر أن ملحوظاتي قد أحبطته. أما الرجل ذو القيثارة كان لا يعرف الفارسية بدرجة تجعله يتتبع كلامي، وأخذ يتعجب من هذا الغريب الذي يتكلم بهذه النغمة مع الحاكم. وفي النهاية، أخذ الحاكم رداءه المصنوع من جلد الغنم وتدثر به، كما يكون قد أحس بالبرد، وهمس لى: “لكنك أنت مسلم….”.

أخذني الضحك وأجبت: “لا ، أنا لست مسلما، ولكني ألممت ببعض القيم في الإسلام التى تجعلني أغضب في بعض الأحيان، كيف أنكم أنتم أيها المسلمون تضيعونها… أعذرني إذا كنت قد أسأت في الكلام، أنا لا أتكلم معك كعدو”.

ولكن مضيفي هز رأسه قائلا: “لا فكما قلت لك، أنت مسلم، ولكنك لا تعرف نفسك… لماذا لا تنطق الآن وهنا بالشهادتين “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وتصبح مسلما فى حقيقة الأمر، فإنك مسلم قلبيا!، قلها يا أخي، قلها الآن، وسأصطحبك غدا لكابول لملاقاة الأمير، الذى سيستقبلك بذراعين مفتوحتين كشخص مثلنا. سيمنحك منازل وحدائق وأغنام، وسيحبك، قلها يا أخي…”.

“إذا قلت ذلك، سيكون نتيجة لأن عقلي قد استراح، وليس نتيجة لأن الأمير منحني المنازل والحدائق”.

ولكن “أصر مضيفي”: “أنت تعرف كثيرا عن الإسلام ربما أكثر من بعض المسلمين، ما هو الذي مازلت تريد أن تعرفه؟”.

“المسألة ليست مسألة فهم، إنها مسألة اقتناع، الاقتناع بأن القرآن الكريم هو فعلاً كلمة الله، وليس مجرد كلمات من شخص نابه ذكي ذو عقلية متفوقة…”.

ولكن كلمات صديقي الأفغاني أخذت تراودني ولم تتركني لشهور عدة!!!

*** أكملت رحلتى عبر أفغانستان عائدا مرة ثانية إلى هرات التي كنت قد ابتدأت منها، وكنا نقترب من الشتاء عام 1926، وهكذا تركت هرات في المرحلة الأولى لطريق العودة للوطن، مستقلا القطار من الحدود الأفغانية إلى “ماف” فى التركستان الروسية، ثم إلى سمرقند، بخارى إلى طشقند ومن ثم مارا بسهول التركمان إلى جبال الأورال، ثم موسكو.

وهالني الدعاية والمعلقات التي تهاجم الدين والألوهية أينما أحل أو أرتحل “وسأتوقف عن ذكرها لأنها مقززة”.

وبشعور بالراحة عبرت الحدود البولندية، بعد أسابيع أمضيتها في آسيا، وروسيا الأوروبية. واتجهت مباشرة لفرانكوفرت حيث الجريدة التي أعمل بها حيث استلمت عملي. ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفت أنه أثناء غيابي، قد أصبح اسمي مشهورا، وأني الآن أعتبر من المراسلين المرموقين في وسط أوروبا؛ فبعض مقالاتى… خصوصا تلك التى تناولت النفسية الدينية المعقدة للإيرانيين – والتي قد جاءت نتيجة لملاحظات علماء شرقيين بارزين، واستقبلت أكثر من أنها معارف عابرة. ونتيجة لأهمية هذا الإنجاز، فقد دعيت لإلقاء مجموعة من المحاضرات فى أكادمية الجغرافيا السياسية ببرلين – حيث قيل لى أنه لم يسبق أن حدث من قبل أن شخصا فى حداثة السن مثلي “حيث كنت حينئذ فى السادسة والعشرين”، قد منح هذا الإمتياز. كما قمت بتدبيج مقالات أخرى عامة بتصريح من مجلة “فرانكفورت زيتنج”، فى صحف أخرى؛ وقد أعيد طبع إحدى المقالات كما أعلم ثلاثون مرة تقريبا، وبمعنى آخر، فإن رحلاتى الإيرانية، قد أثمرت….

وفى هذا الوقت تزوجت: “إلسا”، السنتان اللتان أمضيتهما فى الخارج، لم يضعفا من حبنا البعض، بل زادته قوة، وبسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل، استقبلت تعليقاتها على الفرق الكبير فى السن بيننا.

“ولكن كيف تتزوجنى؟”، بدأت في النقاش معي: “أنت لم تصل بعد للست والعشرون عاما، وأنا فوق الأربعين، ألا تفكر في ذلك، حينما تصل للثلاثون، سأكون أنا في الخامسة والأربعون، وحينما تصل أنت للأربعون، سأكون إمرأة عجوز …”.

أخذت في الضحك!، “وما فى ذلك؟”، إنني لا أرى مستقبلا بدونك.

وأخيرا سلمت للأمر.

لم أبالغ حينما قلت لها إنني لا أرى مستقبلا بدونك. جمالها، ورقتها الفطرية، جذبتني إليها بحيث لا أرى أي امرأة أخرى؛ وحساسيتها في فهم ماذا أريد من الحياة أضاء آمالي، ورغباتي، وأصبحت من الصلابة بمكان وأكثر إدراكا، وطغت على تفكيرى في ماذا أعمل؟

في أحد المناسبات – بعد حوالي أسبوع من زواجنا، أبدت لي هذه الملاحظة: “كم أنت غريب الأطوار عن كل الناس؟، يجب عليك أن تخفض من روحانيات فى الدين… أنت صوفى النزعة!، حساس فى صوفيتك، تشير بأصابعك إلى ما حولك فى الحياة، ولك رؤية متعمقة روحانية فيما يدور حولك يوميا من أشياء، بينما تمر مثل هذه الأشياء على الآخرين بلا اكتراث… ولكنك حينما تتجه إلى الدين، فكلك تركيز… مع الناس الآخرين فالوضع بالعكس تماما…”.

ولكن إلسا لم تكن في حيرة، فهى تعلم عن ماذا أبحث حينما أتكلم معها عن الإسلام؛ وبالرغم من أنها لم تكن فى نفس درجتي من الإضطرار، إلا أن حبها لي جعلها تشاركني تساؤلاتي.

كثيرا ما كنا نقرأ القرآن سويا، ونتناقش في أفكاره؛ وكانت إلسا كما كنت أنا، معجبين بالتمساك الداخلي بين تعاليمه الأخلاقية، وإرشاداته العملية؛ فاستنادا إلى القرآن “الكريم”، فالله لم يدع الإنسان إلى أن يتضرع إليه مغصوب العينين، بل لابد له أن يعمل عقله؛ لم يتنح الله بعيدا عن الإنسان، بل هو أقرب إليه من حبل الوريد؛ لم يخط الله خطا فاصلا بين الإيمان والسلوك الإجتماعي.

والشيء الذي يعتبر في غاية الأهمية أن الإسلام لم يبدأ من بديهية أن الحياة محملة بالصراع بين الروح والجسد، وأن النجاة هي في تحرير الإنسان من قيود الجسد. كل مظهر من مظاهر إنكار الحياة وتحقير الإنسان لنفسه أدانها الإسلام فى أحاديث لرسول الله “صلى الله عليه وسلم”… مثل “لاحظ”.. “أعتقد أنه أراد أن يشير هنا إلى حديث الثلاثة الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» [رواه البخاري] . فالإنسان مطالب بأن يعيش حياته كاملة وبشكل إيجابي، فما منحت غرائزه إلا لتؤدي ثمرتها، ولكن ليستخدمها بطهر وأخلاق وفي محلها الصحيح.

ومن التعاليم للإنسان: أنه ليس لك فقط أن تعيش حياتك، بل المفروض عليك أن تعيشها بكل أبعادها.

صورة متكاملة للإسلام تنبثق في ذهني وبشكلها النهائي وبتحديد، مما أدهشنى أحيانا… كانت تتشكل في عملية من الممكن أن أسميها تفاعلات ذهنية – وبدون وعي مني، فقد بدأت تتجمع من أجزاء متفرقة ومنتظمة، فإذا وضعت هذه المتناثرات بعضها إلى بعض، رأيت نظاما هندسيا دقيقا، أخذ ذهني يجمعه في السنوات الأربع الماضية، لأرى بناء كل عناصره متناسقة منسجمة، تتجمع لتتمم وتعاضد بعضها البعض، لا شيء فيه ينقصه، ولا شيء يزيد عن متطلباته – متزن وهادئ، يعطي الانطباع بأن مسلمات الإسلام كلها في وضعها الصحيح.

منذ ثلاثة عشر قرنا مضت، “يلاحظ أن الكتاب قديم”، وقف رجل وهو يقول: “ما أنا إلا رجل هالك، ولكن الذي خلق الكون أوحى إلي أن أحمل رسالته لكم، حتى تعيشوا منسجمين مع كل خلقه، وقد أمرني بأن أذكركم بوجوده إله له كل القدرة وكل العلم، وقد وضع لكم منهاجا للسلوك الصحيح، إذا قبلتموه فلتتبعونى… هذا كان هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه كانت رسالته.
النظام الإجتماعى الذي أعلنه، كان من البساطة التي تربط مفرداته بالعظمة الحقيقية. بدأ بالتسليم بأن الإنسان كائن حي له متطلبات حيوية، وهذه المتطلبات تخضع للحل والحرمة اللذان يقرهما الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان اجتماعي بطبعه يجتاج إلى مجتمع يحيط به، ولكي يحقق إحتياجاته الثقافية والأخلاقية والطبيعية، فلابد أن يعتمد كل على الآخر.

إن ازدهار القوام الروحي للإنسان (وهو هدف كل الأديان)، يعتمد عما إذا كان يتلقى دعما، وتشجيعا، وحماية له ممن حوله. هذا التكافل الإجتماعي، يظهر السبب لماذا يهتم الإسلام بالنواحي العامة الإقتصادية والسياسية، ولا ينفصل عنها. ولتنظيم علاقات إنسانية بطريقة عملية بحيث لو قابل أي فرد بعض العقبات، يجد التشجيع اللازم لتنمية شخصيته: هذا، ولا شيء آخر، يبدو أنه هو مفهوم الإسلام للوظيفة الحقيقة للمجتمع.

وهكذا كان من الطبيعى أن التشريع الذي أتى به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام خلال ثلاثة وعشرون عاما من مبعثه، لا يرتبط فقط بالنواحي الروحية، بل يمتد ليشمل الإطار لكل الأفراد وللمجتمع أيضا. يشمل ليس فقط مفهوم النقاء الفردي، ولكن يتضمن المجتمع العادل الذي يؤدي هذا النقاء إليه . كذلك يتضمن الخطوط العريضة للمجتمع السياسي… أما التفاصيل فمتروكة للتطورات التي تحدث مع الزمن المتغير… كما يحدد حقوق الأفراد وواجباتهم نحو المجتمع الذي يعيشون فيه، آخذا بعين الإعتبار حقيقة ما يجد من أمور.

الشريعة الإسلامية تتضمن كل مناحي الحياة، أخلاقية، طبيعية، فردية، إجتماعية، العلاقة بين الجسد والروح والعقل، الجنس، الإقتصاد، كل ذلك جنبا إلى جنب، مع اللاهوت والعبادة، كل أمر من الأمور له وضعه فى تعليمات النبي عليه السلام، ولا شيء يخص الحياة ينظر إليه على أنه تافه ليخرج من دائرة التصور الديني… ليس حتى مثل هذه القضايا الدنيوية، كالتجارة، والميراث، وحق الملكية، وإمتلاك الأراضي.

*** كل مفردات الشريعة، وضعت للإنتفاع المتساوي بين أفراد المجتمع، بدون تمييز بين مكان المولد، الأعراق، الجنس، أو ولاء إجتماعي سابق. لا منافع خاصة حجزت لمؤسس المجتمع أو أحفاده. “مداخلة: لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام ما معناه: “نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة”. لا توجد طبقات عليا وطبقات دنيا في المفهوم الإجتماعي، ليست من مفردات القاموس الإسلامي؛ ولا أثر لها في الشريعة الغراء. كل الحقوق والواجبات والفرص، موزعة بين أفراد المجتمع المؤمن بالتساوي.

لا يوجد كهنة بين الله والإنسان، لأن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. لا ولاء، إلا لله ورسوله، وبأمر من الله للوالدين، وللمجتمع المسلم المنوط بتحقيق مملكة الله على الأرض؛ وبذلك فلا يجوز الذي يعلي كلمة “بلادي أو أمتي”، ولتوضيح هذا المفهوم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أكثر من مناسبة، قال بوضوح: “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”.

كل المنظمات قبل الإسلام… حتى الدينية أو شبه الدينية… كانت تنهج المفهوم الضيق، للعصبية القبلية والعشائرية. فمثلا الملوك المتألهين، الفراعنة في مصر، لا يفكرون إلا في أضيق الحدود التي يعيش فيها المصريون؛ وحتى إله بنى إسرائيل فهو إله فقط للشعب المختار. بالعكس فالمفاهيم المستقاة من القرآن الكريم ترفض رفضا باتا التمسك بالعشيرة أو القبيلة. الإسلام افترض مجتمعا سياسيا بعيدا عن الإنقسامات العرقية والقبلية.

وفي هذا المجال فإن الإسلام والنصرانية يتفقان في الدعوة العالمية بعيدا عن القبلية، وفي حين أن النصرانية قد حددت نفسها في مفهوم “أعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، إلا أن مفهوم الإسلام أوسع من ذلك، فقد دعى كل الأمم أن يكون الولاء لله فقط. وبذلك… لتحقيق ما لم تحققه النصرانية… فقد أضاف الإسلام منظورا آخر في تطوير الإنسان: دعى إلى مجتمع مفتوح عقائديا، بالمقارنة مع المجتمعات المغلقة التي نشأت في الماضي، عرقيا، وجغرافيا.

رسالة الإسلام أعطت تصورا، ومنحت البشرية حضارة لا مكان فيها للقومية، لا مصالح شخصية، لا طبقية، لا كنيسة، لا كهنة، لا طبقة نبلاء متوارثة، في الحقيقة، لا شيء متوارث على الإطلاق. ومن أهم الميزات في هذه الحضارة… ميزة لم توجد في أي تحركات للإنسان عبر التاريخ… أنها نشأت عن قناعة واتفاق تطوعي بين معتنقيها والله. هنا، التقدم الإجتماعى… مخالف عما حدث في المجتماعات الأخرى… لم يحدث نتيجة لضغوط، ومقاومة لهذه الضغوط، نتيجة للمصالح المتعارضة، ولكن كجزء لا يتجزأ من تعليمات أصيلة. وبكلمات أخرى، هناك عقد إجتماعي متأصل في النفوس، يسيطر على جذور الأعمال… ليس نتيجة أوامر صاغها من بيدهم الأمر دفاعا عن مكتسباتهم… بل حقيقة متأصل جذورها في الحضارة الإسلامية؛ فقد ذكر القرآن الكريم: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ… فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: 111].

عرفت (من تتبعي لقراءة الحضارة الإسلامية)… أن هذا العقد الذي سجله التاريخ… قد تحقق لفترة وجيزة جدا، أو بالأحرى فخلال فترة وجيزة جدا كانت هناك محاولات جادة لتحقيقه. فيما أقل من قرن بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم، النظام النقي للإسلام بدأ في الفساد السياسي، ودفع في القرون التالية إلى الخلف. ظهرت التطلعات العشائرية لإمتلاك القوة، بديلا عن الرأى الحر للرجال والنساء، الملكية الوراثية بديلا عن المفهوم السياسي في الإسلام كنوع من الشرك في المفهوم الإسلامي، “مداخلة: أعتقد أنه يشير هنا إلى حديث: “ليس منا من دعى إلى عصبية”” – ومع هذا أيضا ظهرت الدسائس والصراعات القبلية والظلم، واضمحلال الوازع الديني، والمهانة في خدمة من بيده السلطة: باختصار حلت المصالح الشخصية التي عرفت في التاريخ.

ولوقت من الزمن، حاول علماء ومفكرين عظام، أن يعيدوا للإسلام رونقه ويذكروا الناس بمفاهيمه النقية، ولكن جاء من بعدهم أقوام دأبوا على تقليد الأجيل السابقة، وانتكسوا بعد قرنين أو ثلاثة قرون، وتوقفوا عن التفكير لأنفسهم… متانسين أن كل عصر يختلف عن سابقه، وكل عصر له احتياجاته الخاصة التي تحتاج إلى التجديد. لقد كان الدفع الأصلي للإسلام في بدايته عظيما، ورفع الأمة الإسلامية إلى مستويات عالية من الثقافة والحضارة العظيمة… حتى أن المؤرخين يسمون ذلك العصر الذي تحقق، بالعصر الذهبي للإسلام، من الناحية الأدبية، والفنية، والعلمية، والثقافية، ولكن بعد ذلك العصر بقرون بسيطة خمد الحافز الإيماني الذي كان يغذي هذا التقدم، وأصبحت الحضارة الإسلامية راكدة، ومجردة من قوتها المبدعة.

لم أتأثر بالوضع الحالي للعالم الإسلامى. السنوات الأربع التي قضيتها في البلدان الإسلامية، أوضحت لي بأنه بالرغم من أن الإسلام مازال حيا، كما هو في عيون العالم، يؤثر من الناحية الأخلاقية فى أتباعه، غير أنهم قد أصابهم الشلل، بحيث لم يترجموا مبادئه إلى عمل مثمر.

ولكن ما شد انتباهي، بعيدا عن حالة المسلمين في عهدنا هذا، هو القوة الكامنة فى تعاليم الإسلام نفسه. كان كافيا لي أن أعلم أنه في مدة قصيرة في بداية التاريخ الإسلامي، محاولة ناجحة قد تمت لتطبيق هذا النظام إلى عمل؛ وبالتالي، ما كان ممكنا في وقت من الأوقات، يظل ممكنا في غيره من الأوقات. ماذا يهم؟،… قلت لنفسي… إن كان المسلمين قد انحرفوا عن تعاليم دينهم الأصلية وركنوا إلى الكسل والجهل؟… ماذا يهم إذا كانوا لا يأخذون بالتعاليم المثالية التي أمامهم، والتي جاءت على لسان النبي العربي منذ ثلاثة عشر قرنا مضت… إذا كانت هذه التعاليم مازالت متاحة للجميع ولكل من يرغب ليستمع إليها؟

وربما نكون… أخذت أفكر… نحن المتأخرين أشد حاجة لهذه الرسالة من المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد عاشوا هم في مناخ أبسط بكثير من المناخ الذي نعيش نحن فيه، وكانت مشاكلهم والصعوبات التي يواجهونها أبسط من تلك التي نواجهها، وتحتاج إلى حلول غير معقدة كما نواجه. العالم الذي أعيش فيه… كل العالم الآن… يتململ لعدم وجود أية قواعد روحانية تفصل بين الخير والشر، وبالتالي، اقتصاديا واجتماعيا. لا أعتقد أن الإنسان الفرد في حاجة إلى خلاص، بل المجتمع هو الذي فى حاجة إلى مخلص أكثر من أي وقت مضى، أخذت أشعر بيقين متزايد، أن وقتنا هذا في أشد الحاجة إلى قاعدة أيدلوجية، وإلى عقد إجتماعي جديد، في حاجة إلى الإيمان بالله، وتفهم مدى الفراغ الذي يحدثه التقدم المادي فقط… ومن ثم نعطي الحياة حقها؛ كيف نوازن بين احتياجات الروح والجسد، ويكون في ذلك الإنقاذ من كارثة محققة نسرع إليها متهورون.

غني عن القول أن مشكلة الإسلام في هذه الفترة… فقد كانت مشكلة بالنسبة لي… شغلت تفكيري أكثر من أي شيء آخر. فى هذه اللحظات، تعدى استيعابي للموضوع مراحله الأولية، حينما كان الموضوع بالنسبة لي ليس أكثر من أبحاث ثقافية، وأيدلوجية جذابة: أصبح الوضع الآن هو بحث مركز عن الحقيقة. مقارنة هذا البحث، بسفريات السنتين الماضيتين، والتي أسفرت عن لا شيء: أصبح التركيز على إكمال الكتاب الذي عهدت لي به جريدتي “فرانكفورتر زيتنج” من المستحيل.

فى البداية كانت نظرة دكتور سيمون متساهلة، لترددي في الإستمرار في إنهاء الكتاب… فقد عدت من رحلة طويلة تستحق نوعا من الأجازة، وزواجي الحديث يعطيني بعض الحق في التراخي في الكتابة الروتينة، ولكن حينما تماديت في التراخي، ونظرا لأن دكتور سيمون يتحمل المسئولية عن الكتاب، فقد طلب مني أنه قد حان الوقت لأنزل إلى الأرض.

في الماضي، كنت أرى أنه متفهم للوضع، ولكني الآن أرى غير ذلك، ملاحظاته المستمرة، وتساؤلاته اللحوحة عن تقدمي فى تحرير الكتاب، أدت أثرها المعاكس لما كان ينشده، فقد شعرت بأن الأمر مفروض علي مما جعلني أمقت فكرة الكتاب نفسها. كنت مهتم أكثر بما كنت ما أزال أريد أن أكتشفه عن ذلك الذي أريد أن أسجله من أحداث مرت بي في رحلتي.

في نهاية الأمر أثار دكتور سيمون هذه الملاحظة: “أعتقد أنك لن تنتهي من الكتاب البتة، أنت تعيش فى داخلك في رعب ما”.

وكالملدوغ رددت عليه: “ربما المرض الذي أعانيه أكثر من الرعب”.

“إذا فما دمت في هذا العناء”، قال ذلك بحدة: “فهل تعتقد أن الصحيفة هي المكان المناسب لك”.

كلمة منه وكلمة مني، تحول الأمر إلى شجار، وفي نفس اليوم قدمت استقالتي من الصحيفة، وبعد أسبوع سافرت أنا وإلسا إلى برلين.

لم أكن بالطبع أنوي ترك الصحافة، فقد كانت جزءا من راحتي النفسية وسعادتي فيها وفي الكتابة… بعدت عنهما مؤقتا ننيجة للكتاب… وكيف لا؟، وهي التي أعادتني للعالم الإسلامي، وهذه العودة كنت حريصا عليها بأي ثمن. ولكن بالنسبة للشهرة التي اكتسبتها في الأعوام الأربعة الماضية، لم يكن من الصعب علي العودة إلى الصحافة ثانيا. فبسرعة جدا حصلت على عقد مجز ومريح مع ثلاثة صحف بزيورخ، وبالرغم من أنها لم تكن في مستوى الصحيفة السابقة إلا أنها كانت من الصحف الشهيرة بأوروبا.

ومنذ ذلك الحين، بقيت أنا وإلسا في برلين، لأكمل محاضراتي عن الإسلام في أكاديمية الجغرافية السياسية. أصدقائي الأدباء السابقين فرحوا بعودتي لهم، ولكن لم تكن العلاقة الجديدة في نفس المتانة التي تركتهم بها قبل سفري للشرق الأوسط صارت لغتنا الثقافية مختلفة عما سبق. وبالتحديد، لم أكن أستطع استخراج أية معلومات من مناقشاتي معهم عن الإسلام؛ كانوا يهزون رؤوسهم بحيرة حينما كنت أقول لهم أن الثقافة الإسلامية يمكنها أن تنافس أيدلوجيات أخرى. وبالرغم أنه في بعض الحالات كانوا يوافقون على رأي من هنا أو هناك من مفاهيم الإسلام، إلا أنهم فى العموم يقولون أن الأديان الماضية هي جزء من الماضي، وأننا في حاجة إلى تجديد في المفاهيم، ونظرة “إنسانية” جديدة. وحتى أولئكم الذين لا ينكرون أهمية المؤسسات الدينية، لم يكونوا مستعدين للتخلي عن النظرة الأوربية للإسلام، بأنه يفتقد إلى الوضوح الذي يتوقع من الأديان.

وقد أدهشني أن سمة الإسلام التي اكتشفتها من أول لحظة… وهي عدم وجود فصل بين الروح والجسد، وأن التأكيد على أن العقل هو الطريق للإيمان… لم تكن واضحة عند المثقفين، الذين ما فتئوا يقولون بأن العقل هو المهيمن على كل شيء فى الحياة: “فالعقلانية” و “الواقعية”، ليس لهما مكان في مجال الدين عندهم. وفي هذا الخصوص لم أجد فرقا بين هؤلاء المتدينين، وهؤلاء الذين طرحوا الدين وراءهم.

مع الوقت، فهمت أين تكمن فيهم هذه الصعوبة. بدأت أدرك أنه في عيون أولئكم الذين يدورون في مدار النصرانية… بضغوطها على عالم “ما وراء الطبيعة” المتأصلة زعما في كل تجربة دينية حقيقية… فإنه من الدرجة الأولى فكل نظرة عقلانية، تكون سببا في الإنتقاص من القيمة الروحية، وذلك ليس خاصا بمؤمني النصارى فقط. وذلك لطول العهد بالأوروبيين في ظل النصرانية، فمن حيث لا يدرون وبلا شعور تعلموا أن ينظروا للدين من خلا المنظار النصراني، ومفاهيم النصرانية، ويعتبرون فقط أنها “صحيحة”، إذا كانت مصحوبة بآثار الرهبنة والخشوع، بعيدا عن الفهم الثقافى.

الإسلام لا يحقق هذه الفرضية: الإسلام يصر على التعاون بين السمات الروحانية والمادية للحياة، وذلك على قاعدة متينة طبيعية من المنهاج. فى الحقيقة فنظرته للحياة، تختلف جذريا من مفاهيم النصرانية، وهذه المفاهيم هي التي اعتمدها الغرب كأساس للحياة، وبذلك يقيسيون صلاحية الآخر بهذه المقاييس.

أما بالنسبة لي، فقد كنت أعرف أنني منجذب إلى الإسلام لا محالة، ولكن التردد جعلني أؤجل القرار الأخير، القرار الذي لا رجعة فيه. فكرة إعتناق الإسلام، هي كرحلة على جسر طويل جدا بين عالمين مختلفين: جسر إذا وصلت لنهايته فلن ترى بدايته. كنت على بينة، بأننى لو أسلمت، فسأفصل نفسي عن العالم الذى نشأت فيه، لا دخل آخر سأعيش به، لا يمكن لمن يجيب حقيقة دعوة الرسول “عليه الصلاة والسلام”، أن يبقي صلة داخلية مع المجتمع الذي يعيش على مفاهيم مغايرة… هل الإسلام حقيقة رسالة من الله “سبحانه وتعالى”، أم هو مجرد حكمة من رجل عظيم، ولكنه غير معصوم؟؟؟

* فى أحد الأيام — كان ذلك فى سبتمبر 1926 — كنت أنا وإلسا نستقل مترو الأنفاق في برلين، كنا في الدرجة الأولى وقعت عيني بالصدفة على رجل أنيق، يظهر أنه من رجال الأعمال، ويحمل حقيبة جميلة على رجليه، وبيده خاتم كبير الحجم من الماس!!!، ولم يكن هذا المنظر للرجل غريبا في هذه الأيام، وهو يعكس الرخاء الذي حل بوسط أوروبا بعد سنوات التضخم التي قلبن الموازين رأسا على عقب. معظم الناس الآن يلبسون ثيابا جيدة، ويأكلون الطيب من الطعام، ولذلك فالرجل الجالس قبالتي ليسا بدعا في ذلك. ولكني عندما تحققت في وجهه وجدت الكآبة عليه!!، كان يظهر عليه القلق، وليس فقط القلق، بل التعاسة أيضا، عيونه تحملق إلى أعلى، وزوايا فمه تتحرك كأن به ألم… ليس ألما جسماني. وحتى لا أتهم بالوقاحة فقد صرفت عيني عنه، لتقع على سيدة أنيقة، فوجدت أيضا التعاسة على وجهها، وكأنها عانت من شيء ما، ولكن الابتسامة على وجهها كانت ابتسامة متكلفة. وهكذا بلا وعي أصبحت أتلفت حولي في الوجوه التي بالمقصورة لأرى أن الغالبية من الوجوه تعكس عن معاناة مخبوءة في العقل الباطن لهم، وهم لا يشعرون بذلك.

في الحقيقة كان شيئا غريبا بالنسبة لي!، لم أر من قبل مثل هذا العدد من التعساء، وربما لأنه لم يسبق لي أن تفحصت مثل هذه الوجوه، لأجد هذه الظاهرة تصرخ بأعلى الصوت في وجوههم.

الإنطباع كان قويا داخلي، حتى أنني ذكرته لإلسا، والتي بدأت هي الأخرى تجول في الوجوه التعسة بعناية، وهي الرسامة المتعودة على كشف تعبيرات الوجوه البشرية. التفتت نحوي مستغربة قائلة: “أنت على حق، كلهم يظهر عليهم كأنهم يعانون من عذاب الجحيم… أتساءل هل يا ترى، هل يدرون ما يدور فى أنفسهم؟”.

أنا أعرف أنهم بالطبع لا يعلمون شيئا عن ذلك، وإلا لأنقذوا أنفسهم من تضييع حياتهم فيما يتعسها، بلا إيمان، وبعيدا عن الحقيقة، بلا هدف غير جمع الأموال، والثروة والجاه، ورفع مستوى معيشتهم، بلا أمل غير امتلاك وسائل للراحة أكثر، وأمور مادية أكثر، وامتلاك للقوة أكثر…

حينما عدنا للمنزل، ألقيت نظرة على مكتبي، وعليه نسخة من القرآن الكريم، فأردت أن أضعها في المكتبة، ولكني بطريقة تلقائية فتحته لأقرأ فيه، فوقت عيني على سورة التكاثر، فأخذت أقرأها:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[سورة التكاثر: 1-8].

في لحظة انعقد لساني عن الكلام، واهتز الكتاب في يدي، وناولته لإلسا، إقرئي هذا!، أليست هذه هي الإجابة على ما شاهدناه في مترو الأنفاق؟؟

نعم إنها الإجابة… نعم إنها الإجابة القاطعة والتي أزالت أي شك عندي أن هذا الكتاب الذي بين يدي الآن، هو وحىي من عند الله العليم بالنفوس: فمنذ ثلاثة عشر قرنا أنزل على رجل لا يعلم دخائل النفوس، ولا يتوقع هذه الصورة التي رأيناها اليوم في مترو الأنفاق، والوضع المعقد الذي نعيشه الآن.

في كل الأوقات كان الجشع موجودا، ولكنه لم يكن في وقت من الأوقات من قبل بمثل هذه البشاعة… كان مجرد رغبة في امتلاك الأشياء… ولكن أن يصبح ذلك هوسا يغطي على كل شيء آخر: شهوة لا تقاوم، لتعمل ولتدبر أكثر فأكثر، اليوم أكثر من أمس، والغد أكثر من اليوم… شيطان يلوي أعناق الرجال ويلهب قلوبهم بالسياط لينفذوا مأربهم التي تبرق أمامهم، ولكن حين يصلوا إليها لا يجدوها إلا شيئا حقيرا، وما أن تقع في أيديهم حتى يتطلعوا إلى مآرب جديدة أخرى براقة، ذات إغراء أكثر، سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا… هذا الجوع، والجوع النهم سيظل دائما موجود، لن يصلوا إلى الشبع مطلقا: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر: 5-8].

الآن رأيت أن هذه ليست حكمة رجل في التاريخ الغابر في الجزيرة العربية مهما كان من الحكمة، فهو لن يتنبأ بالجحيم الذي نعايشه في القرن العشرين. القرآن يتكلم بصوت أكبر من صوت محمد “عليه الصلاة والسلام”.

لقد انقشع الظلام… وها أنا هنا في ساحة المسجد النبوي، والمضاء بمصابيح بالغاز المعلقة على الأعمدة بالأروقة. يجلس الشيخ “عبد الله بن بلهيد” ورأسه محنية على صدره، وعيناه مغمضتين. من لا يعرفه يظن أنه نائم، ولكني أعرفه، وأعلم أنه يستمع إلي بكل حواسه وخبرته في الرجال، ويحاول أن يزن كلامي ويضعه موضعه، وبعد فترة طويلة فتح عينيه ورفع رأسه: وحينئذ، ماذا فعلت؟؟

من الواضح يا شيخ بحثت عن صديق لي مسلم، كان هنديا، رئيسا لمجموعة مسلمة في برلين، وقلت له أنني أريد اعتناق الإسلام، مد يديه في اتجاهي، فوضعت يدي فيهما ونطقت بالشهادتين “أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”، وبعد بضعة أسابيع أعلنت زوجتي إسلامها وفعلت ما فعلت.

محمد أسد
من كتاب الطريق إلى مكة… من صفحة 295 إلى 311

Islam Way

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى