الإلحاد وحقيقته

نقض مذهب السفسطة

قد أنكر المسفسطة وجود اليقين وأنكروا أصل العلوم على أربعة أقوال ذكرها إمام الحرمين فى البرهان وابن تيمية فى المسودة.
فطائفة أنكرت أصل العلوم مطلقا، وقد عبر عنهم إمام الحرمين بعبارة دقيقة تشير إلى تهافت مذهبهم: (( وقالت نعلم أن لا علم أصلا )) فلفظة نعلم التى عبروا بها تتناقض مع نفى العلم؛ فكلامهم متناقض لا يستحق النظر ولا يستوجبون ردا ولا التفاتا.


وطائفة قالت ((لم يثبت عندنا علم بمعلوم فلا نعلم انتفاء العلوم)) فهؤلاء توقفوا فى إثبات أصل العلوم بحجة أنهم لم يثبت عندهم علم أصلا.
وتلك حجة داحضة؛ فنفيهم ثبوت العلم لديهم يعنى أنهم يعرفون ثبوته وإلا فمن لا يعرف كيف يثبت الشىء فلا يستطيع أن يعرف إن كان هذا الشىء قد ثبت فى تلك الحالة أو لا، وإذا كان العلم بكيفية ثبوت الشىء ثابت لديهم فهذا يعنى أنه قد تحقق لهم علم ما وهو مبطل لقولهم.


وطائفة أخرى قالت: ((لا ننكر العلوم لكن ليس لنا من القوة البشرية الاحتواء عليها لأن الذين يحاولونها لا يستقرون على حال)) وهذا فضلا عن كونه إمعية لا تليق ببحث علمى فهو أيضا يتضمن دعوى ودعوى كاذبة أيضا؛ فلو أن كل باحث علمى فى مجال ما احتج بكون الناس قد حاولت فى ذلك الأمر ولم تفلح على أنه ممتنع مطلقا لسقط البحث العلمى ولما اخترع أحد شيئا ولا ابتكر ولتوقفت الحضارة عند ما قبل العصور الحجرية، ثم من قال إن الناس لم يستقروا على علم من العلوم أو أن العلوم لا استقرار فيها أصلا؟


بل على العكس من ذلك تماما، وإنما قد يتحقق عدم الاستقرار فيما يتعلق بالظنيات، وحتى هذه لا يمنع اختلاف الناس فيها من البحث العلمى وطلب اليقين.
وطائفة رابعة قالت ((بأن العقود المصممة كلها علوم: فمعتقد قدم العالم على علمه، ومعتقد حدوث العالم على علمه، ومثلوا ذلك باختلاف أحوال ذوي الحواس: فالصحيح يدرك الماء الفرات عذبا، ويدركه من هاجت عليه المرة الصفراء مرا)) وهذا يعنى أنهم يدعون نسبية الحقائق وأن الشخص هو مقياس الحقيقة وهو المذهب الذى كان يحاربه سقراط.


وقال ابن قدامة رادا على من نقل عنه ما قد يوهم هذا القول من علماء المسلمين: ( وقول العنبري: كل مجتهد مصيب. إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه.. وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها.
فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات..
قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه ))، فهذا المذهب المفضى إلى نفى الحقائق بالكلية هو دعوة صريحة للفوضى وانعدام القانون والنظام والأخلاق بصورة عامة، وهو مما يشيعه المغرضون والملاحدة فى مختلف العصور.


وقد ظهرت السفسطة فى العصر الحديث فى صورة مذاهب المنفعة كالوضعية والبارجماتية، و ظهرت لدى العلمانيين أدعياء التسامح.
فأما أصحاب المذاهب النفعية الحديثة فقد فسروا المنفعة بمعناها الضيق وليس بالمعنى المطلق الذى يتمثل فى تحقيق قيمة الخير التى لا تتعارض مع قيمة الحق؛ فرجعوا مرة أخرى لتقرير فكرة أن الإنسان هو مقياس جميع الأشياء، وبنوا على ذلك فكرهم ومذهبهم الفلسفى برمته:
يقول ويليم جيمس ((إن الفكرة الواحدة تكون صادقة فى وقت ما حين تحقق نفعا، وتكون خطأ فى وقت آخر حينما تفشل فى تحقيق ذلك، أو تكون صحيحة بالنسبة لشخص ما وخاطئة بالنسبة لشخص آخر)) .


ومسايرة هذا الاتجاه تقتضى أن تكون الفاشية حق وباطل، والأرض مسطحة واسطوانية وكروية!..
ويقول أوجست كونت (( إن الأفكار تكون صادقة إذا أنتجت نتائج مرضية )) بينما يرى العقلاء أن فائدة العقل هى التوصل إلى الحقائق بغض النظر عن كونها مرضية أو غير مرضية، محققة لرغبات وملذات شخص صاحبه أو غير محققة، لكن الفلسفة المادية قد عكست القاعدة فبدلا من أن تقول: إن هذه المعرفة ترضينى لأنها حقيقة، أصبحت تردد: هذه المعرفة حقيقة لأنها ترضينى.


وهذه الدعاوى لا أساس لها فلو فرض تعارض الحقيقة مع المنفعة بالمعنى الشائع فتلك المنفعة هى النسبية وهى التى تختلف من شخص لآخر وليست الحقيقة.
أما دعاة التسامح من العلمانيين فيقولون: إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي، والأخذ بنسبية الحقيقة: هو التسامح بعينه.
ويرى جون استيوارت مل أن التسامح يقتضى اتباع مذهب نسبية الحقائق وأنه يمتنع مع التسامح الاعتقاد فى حقيقة مطلقة .
والحقيقة أنه ليس من التسامح ولا من أخلاقيات البحث العلمى ولا من متطلبات الوفاق الاجتماعى أن يشك الإنسان فى معتقده وإيمانه فهذا هو التناقض بعينه؛ فعبارة: ((قولى صواب يحتمل الخطأ وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب ))لا تنطبق إلا على الظنيات فقط كالاجتهادات الفقهية، أما ما يتطلب اليقين والقطع كالعقيدة وأصل الدين فإن الأخذ بهذا المبدأ فيه أقل ما يقال عنه إنه قول وقع صاحبه فى التناقض.


بل التسامح أن تعتقد ويعتقد غيرك، ويحترم كل منكما الآخر، ولا يعتدى على حريته فى الاعتقاد، وليس شرطا فى احترام أصحاب العقائد أن تقبل عقائدهم وتعتقدها فإن لم تستطع الجمع بينها وبين عقيدتك تلجأ إلى التسوية والتشكيك فى الجميع ‘ ثم عليك بعد ذلك إما أن تقصر هذا المبدأ على العقائد الدينية فقط فتكون محصلته تعصب للإلحاد ليس إلا، أو تعمم هذا المبدأ ليشمل جميع القوانين والحقائق العلمية، وهذا ليس معقولا فضلا عن أن يكون موقفا إصلاحيا يصدر عن مفكرين يوصفون بأنهم مناطقة وأصحاب منهج علمى يحترمون عقولهم وعقول الناس.
إن نسبية الحقيقة تعنى نفى الحقيقة بالكلية؛ فالحق هو الثابت،وقولنا “حق نسبى” كقولنا وجود عدمى أو عدم وجودى، يقول الكفوى فى الكليات ((الحقيقة هي إما فعيل بمعنى فاعل من حق الشيء إذا ثبت ومنه الحاقة لأنها ثابتة كائنة لا محالة، وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء إذا أثبته فيكون معناها الثابتة والمثبتة)).
ونفى الحقيقة بالكلية مستحيل عقلا لأنه ينفى ضمن ما ينفيه حقيقته هو، وبالتالى فهو باطل على كل حال، ولا يمكن التعبير عن هذا المعنى أصلا بطريقة لا تناقض فيها، وليس للقول بنسبية الحقائق سوى تفسيران لا ثالث لهما:


الأول: أنه قول متناقض لا مغزى له ولا مضمون.


والثاني: أنهم لا يقصدون بـ((الحقيقة)) المعنى المتعارف لكلمة حقيقة بل يقصدون معنى آخر فى أذهانهم.
وفى كلا الحالتين فاستعمال عبارة ((نسبية الحقائق)) هو من كبرى المغالطات.


لكن ما الذى يدفع مناطقة وفلاسفة على هذا المستوى لاستعمال المغالطات السافرة؟
الجواب: أن الذى دفعهم لذلك هو محاولة تجميل مذهب السفسطة، والذى دفعهم لمحاولة تجميل هذا المذهب بالعبارات هو حرصهم على تطبيقه، والذى دفعهم للحرص على تطبيقه رغم علمهم القاطع ببطلانه وأنه عين البطلان هو أنه الملاذ الأخير لمواجهة الحقيقة، والذى دفعهم لمواجهة الحقيقة هو نوازع النفس الأمارة التى تأبى الحق وتستمرئ الباطل حتى تسول لها نفسها الدفاع عنه فى صورة من يدافع عن الحق، وليس لذلك علاقة لا بالمنطق ولا بالفلسفة، فهى مجرد نزعات نفسية ورغبات غير سوية لدى أصحابها تعبر عن نفسها علها تجد صدى وتعاطفا لدى ضعاف العقول أو من له نفس الميول والنزعات.
وقد تكون هناك دوافع أخرى لدى بعض الناس كالوقوع فى الخلط بين نسبية المعرفة ونسبية الحقيقة ومعلوم أن نسبية المعرفة إنما تتعلق بإدراكنا للحقائق وليس للحق فى ذاته .


وقد يكون ذلك نتيجة للاضطرابات التى خلفها الصراع بين سلطة الكنيسة التى تمثل فى أذهان الغربيين الجانب الروحى وبين العلم.
وقد اختلف العلماء فى منهج الرد عليهم كما يقول إمام الحرمين: ((فذهب الأكثرون إلى الانكفاف عنهم؛ فإن غاية المناظر اضطرار خصمه إلى الضروريات فإذا كان مذهبهم جحدها والتمادى فيها فكيف الإنتفاع بمكالمتهم؟!


ومن النظار من كلمهم بالتقريبات وضرب الأمثال وإلزام التناقض فقال للأولين أنكرتم العلوم وادعيتم العلم بانتفائها كلها وهذا تناقض لا ينكره عاقل.
والذي أراه أنه لا يتصور أن يجتمع على عقدهم فرقة من العقلاء من غير فرض تواطوء على الكذب )).


أما إن كان المقصود هو التشهير بهذا المذهب وتحذير الناس منه فليس من الضرورى دائما أن نقوم بتحليله ومعرفة أصوله والرد عليها بل هناك طرقا أخرى:
منها استنباط النتائج الباطلة منه والتى لا مجال لتصحيحها من قبل صاحبها كما هى طريقة أفلاطون فى المحاورات، وكما هو واضح فالسفسطة تؤدى إلى شيوع الفوضى وتبرر الخروج على كل النظم والقوانين، ولا يوجد ما هو أفسد من ذلك ولا أقبح مذهبا منه فى عرف الناس جميعا.
وهناك طريقة أخرى تقوم على: تتبع تاريخ هذا المذهب والمفاسد التى ترتبت عليه فى مختلف العصور، وأنه كان المذهب المقابل للعقل، وأن كل من اعتمد عليه فى الدفاع عن فكر أو هدف سياسى أو دينى لم يلجا إليه إلا بعد ظهور عجزه وانكشاف فساد معتقده.

بقلم  أبو مريم بمنتدى التوحيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى