(1-2) الحالة اليهودية في إيران.. أفكار وسياسات
كتب: رمضان الغنام
باستثناء دول عربية وإسلامية قليلة، بل ودول غربية، ومراحل تاريخية محددة تمثل السيطرة اليهودية على مجريات الأمور في غالب بلدان العالم ظاهرة تستحق البحث والدراسة، وليس معنى هذا أن العالم بأسره قد تهَّود أو تصهين، أو أنه يعمل بكافة دوله لخدمة اليهود، وإنما في الأمر تفاصيل غاية في التعقيد، لكننا على أية حال يمكننا القول أن مبدأ المصلحة والنفعية هو المبدأ الأكثر تأثيرا في هذه المعادلة، إلى جانب ذلك لا يمكننا بحال من الأحول إغفال الدور الخطير الذي قام به اليهود من ذوي السلطة والمال المنتشرين في كافة أقطار الدنيا، الإسلامي منها وغير الإسلامي.
وكان للدور اليهودي في الدول الإسلامية على وجه التحديد أثره البالغ قديمًا وحديثاً، سيما في الشأن الإيراني، وفي هذا المقال ليس مقصودي تحميل الكلام فوق معناه أو التكلف في إثبات الأثر اليهودي في الحالة الإيرانية، وإنما المراد نقل الصورة كما هي، مع إعطاء مساحات تفسيرية لبعض المواقف والربط بينها وبين مواقف أخرى من شأنها أن توسع الرؤية لمشاهدة أوضح وأدق لواقع اليهود في الدولة الإيرانية، وأثرهم في مجريات الأمور هناك ومن ثم على الساحة الإسلامية بصفة عامة.
فتاريخيا تشير كثير من المصادر-يهودية وغير يهودية- إلى أن إيران، أو بلاد فارس كما كانت تُعرف في القديم تحتل حيزًا هامًا في التاريخ اليهودي، ويرجع هذا الأمر إلى قدم الوجود اليهودي في إيران-كما تزعم المصادر اليهودية- إلى جانب ذلك فاليهود الإيرانيون يعتزون بصنيع الملك (كوروش الكبير) معهم، حيث سمح لهم بالعودة إلى القدس عام 538 م بعد سبيهم على يد (نبوخذ نصر) البابلي في أعقاب تدمير الهيكل قبل ذلك بنحو بضعة عقود من الزمن، على حد قول الرواية اليهودية (1).
وبتخطي عدة قرون تشير الإحصائيات الرسمية الإيرانية إلى أن تعداد اليهود في إيران بلغ 85 ألف يهودي في أواخر العهد البهلوي (2)، وقد تناقص هذا العدد إلى قرابة الخمس في السنوات الأخيرة، نظرًا لتحول البعض إلى ديانات أخرى كـ(الإسلام، والبهائية)، وهجرة البعض الأخر إلى إسرائيل، ومع ذلك يعتبر اليهود في إيران أكبر تجمع يهودي في الشرق الأوسط خارج إسرائيل (3)، وعن هذه الهجرة يقول مؤلف كتاب اليهود في إيران: “إن هذه الهجرة جاءت في سياق هجرة عامة ليهود بلاد الشرق الإسلامي إلى فلسطين” (4)، وقسم الكاتب بعد ذلك هذه الهجرة إلى مراحل خمسة، حددها في كتابه..
اليهود المتخفون، أو (المسلمون الجدد):
أما مسألة التحول للإسلام والديانات الأخرى فقد مر اليهود في هذا الجانب بعدة محطات، ومن هذه المحطات مرحلة الفتح الإسلامي حيث تمتع اليهود في هذه المرحلة بالحرية التامة في اختيار معتقدهم وممارسة شعائرهم، فلم يجبر اليهود على الدخول في الإسلام ومن دخل منهم دخل طواعية، وهو الأمر الذي تغير بعد ذلك بعد تمكن الحكم الشيعي من إيران متمثلا في الدولة الصفوية، فتم التضييق على اليهود وإجبارهم على اعتناق الإسلام (الشيعي)، ما أدى إلى إخفاء عدد كبير من اليهود معتقدهم والتظاهر بالإسلام خشية الاضطهاد.
فمن المحطات الفارقة في تاريخ يهود إيران مرحلة التخفي، التي بدأت منذ عصر الاضطهاد الشيعي لليهود بعد قيام الدولة الصفوية، ولم تنته إلا قبيل الثورة الإيرانية بقليل، حيث تحول كثير من اليهود إلى الإسلام ظاهريًا مع بقائهم على اليهودية سرًا، ومن اليهود من تحول إلى الإسلام لأهداف خاصة، ومنهم من تحول للتمويه على الشيعة ولزيادة الإفساد في معتقدهم، وأطلق على اليهود المتحولين إلى الإسلام -وتحديدًا في مدينة مشهد- في القرنين السابع والثامن عشر لهذه الأسباب (المسلمون الجدد، أو اليهود المتخفين).
يقول الدكتور المسيري في موسوعة (اليهود واليهودية) موضحاً هذه الظاهرة: “اليهود المُتخفّون هم اليهود الذين يتظاهرون باعتناق دين آخر غير اليهودية، بسبب الظروف المختلفة، ويظلون على دينهم في الواقع، ومن أهم فرق اليهود المتخفين (المارانو)، ويُشار إليهم أيضاً باسم (المسـيحيون الجـدد، والكونفرسـوس، والبرتغاليين) في شـبه جزيرة أيبريا، كما يُشار إليهم باسم (الدونمه) في تركيا، وباسم (جديد الإسلام) في إيران، وباسم (التشويتاس) في جزيرة مايوركا” (5).
ويوضح الصورة أكثر أحد كتاب اليهود فيقول في مقال له بعنوان: (قصة اليهود المقسورين من المشهد: بطولة يهودية) يقول: “عاش المقسورين -اليهود المتخفين- من مشهد حياة مزدوجة ظاهرياً، تصرفوا كمسلمين تماماً، ذهبوا إلى المساجد كل يوم جمعة، لكن استمروا بممارسة العادات والطقوس اليهودية في داخل منازلهم، وفي المساء استقبلوا يوم السبت، اعتادوا قبل الذهاب من أجل الصلاة في المسجد أن يتضرعوا إلى الله طالبين المغفرة من رب إسرائيل، استخدموا وسائل متنوعة لكي يتفادوا إلقاء القبض عليهم” (6).
وكان اليهود المتخفون، أو المسلمون الجدد في بادئ الأمر معروفين من قبل الشيعة، وكان الشيعة يتعمدون اجتنابهم شكا منهم في بقائهم على يهوديتهم، ثم سرعان ما تغير الأمر فمن المسلمين الجدد من رحل إلى فلسطين بغير رجعه عائداً إلى يهوديته، ومنهم من ذاب في المجتمع الشيعي حفاظاً على وضعه أو مكانته أو ثروته، ومنهم من رأي في التخفي نصراً ليهوديته وخدمة لأرض صهيون.
يقول الدكتور المسيري: “ولا نعرف شيئاً عن مصير اليهود الذين اعتنقوا الإسلام عنوة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والظن الغالب أنه تم استيعابهم في المجتمع الإسلامي، أما جماعة مشهد فقد احتفظت بهويتها ولم يتزاوج أعضاؤها إلا فيما بينهم، ثم هاجر بعضهم إلى القدس عام 1890م، أما بقية الجماعة فقد ظلت في مشهد حتى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وكونت جماعة اقتصادية مستقلة” (7).
يهود إيران في خدمة البهائية:
بجانب التحول إلى الإسلام قناعة أو تخفيًا وتقية، تحول عدد كبير من اليهود إلى البهائية، ويرجع هذا- في الغالب- إلى سعي اليهود وراء إغراءات البهائيين المادية رغبة منهم في تدشين وضع اقتصادي جديد يرتقي بهم وبأحوالهم، ويجعل لهم سلطة وسطوة في القرار السياسي الإيراني، إلى جانب ذلك كان اليهود يظنون أن تحولهم إلى البهائية سيغير النظرة الشيعية لهم -وهو ما لم يحدث- ويجعل لهم من الحصانة ما يحفظ حقوقهم ويصد عنهم تجاوزات الشيعة، غير أن سببا آخر قلما يشار إليه من قبل الباحثين، نستطيع إضافته إلى هذه الأسباب، وهو سبب ديني بحت، يرتبط من زاوية بالرغبة في مواجهة رجال الدين الشيعة، ومن زاوية أخرى مثل هذا التحول دعمًا قوياً للدولة اليهودية -إسرائيل- وقد ظهر هذا الأمر بشكل واضح من خلال دعم البهائيين لإسرائيل لاحقا.
وصنيع البهائية مع اليهود جاء من باب رد الجميل حيث ساهم اليهود بشكل كبير في نشأة هذه الملة ودعمها بكافة السبل وشرعنة وجودها، وهو الأمر الذي أشار إليه المستشرق اليهودي جولدزيهر في كتابه (العقيدة والشريعة)، حيث قال: “إنه قد بلغ الأمر ببعض اليهود المتحمسين للبهائية أن استخلصوا من دفائن العهد القديم وتنبؤات أسفاره ما ينبئ بظهور بهاء الله وعباس، وزعموا أن كل آية تشيد بمجد يهوه أنها تعني ظهور مخلص للعالم في شخص بهاء الله”، ثم يقول: “وهذا فضلاً عن أنهم -أي اليهود- لم ينسوا أن يستخرجوا مما يحتويه سفر دانيال من الرؤى ما ينبئ بقيام الحركة التي أوجدها الباب، وأن يلتمسوا بتأويلها ما يدل على وقت حدوثها” (8).
وردا للجميل الذي قام به اليهود في مراحل النشأة والتأسيس لهذه الملة رأينا نصوصاً بهائية كثيرة تخدم فكرة الصهيونية، ومن ذلك دعوة البهاء لليهود في كتابه الأقدس للذهاب إلى إسرائيل، يقول في كتابه: “هذا يوم فيه فاز الكليم بأنوار القديم، وشرب زلال الوصال من هذا القدح الذي به سجرت البحور، قل: تالله الحق إن الطور يطوف حول مطلع الظهور، والروح ينادي من في الملكوت هلموا وتعالوا يا أبناء الغرور، هذا يوم فيه أسرع كرم الله شوقاً للقائه، وصاح الصهيون: قد أتى الوعد وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي العزيز المحبوب” (9).
الهوامش:
(1) ينظر: اليهود في إيران- مأمون كيوان: (ص:17) – بيسان للنشر– بيروت- ط1- 2000م.
( 2) دراسات في تاريخ إيران الحديث- د. كمال مظهر أحمد: (ص:183)- طبع الأمانة العامة للشباب- بغداد- 1985م.
(3) ينظر: الموسوعة الحرة ويكيبيديا- سكان إيران.
(4) اليهود في إيران- مأمون كيوان: (ص:79).
(5) موسوعة اليهود واليهودية للدكتور عبد الوهاب المسيري: (2/189).
(6) مقال: “قصة اليهود المقسورين من المشهد: بطولة يهودية” – د. ريفكا شيفك – مركز أورشليم- القدس للشؤون العامة.
(7) موسوعة اليهود واليهودية للدكتور عبد الوهاب المسيري: (2/199).
(8) العقيدة والشريعة في الإسلام جولد زيهر: (ص:280) – دار الكتب الحديثه- د.ت.
(9) الأقدس– للبهاء: (ص:50).
المصدر: طريق الإسلام