إنجيل واحد أم أناجيل – 2
كنا قد تكلمنا في مقالنا السابق عن إنجيلي متى ومرقص في محاولة للتعريف بهما، وإيضاح أن تلك الأناجيل لا تمثل الإنجيل الذي أوحى الله به إلى عيسى عليه السلام ، وأنها ما هي إلا مشاهدات رآها أصحاب تلك الأناجيل أو سمعوها ممن رآها ، وسجلوها في تلك الكتب التي ألفوها بأنفسهم ، ونكمل الكلام فيما تبقى من تلك الأناجيل التي اعتمدتها الكنيسة، وأبطلت العمل بما سواها من أناجيل .
3- إنجيل لوقا
كان لوقا من تلامذة بولس، ولم يكن أبدا من تلامذة المسيح عليه السلام وحوارييه ، وكان من المدافعين والمنافحين عن أستاذه ومعلمه ، وكان بولس يحبه ويسميه الطبيب الحبيب ، غير أن المؤرخين مختلفين في شخصيته ، فبعضهم يقول هو طبيب أنطاكي، وبعضهم يقول هو مصوّر إيطالي، وقد كتب إنجيله باليونانية، واختلف في سنة تأليفه فقيل سنة53 وقيل 63 وقيل 64 ، وتوفي لوقا سنة 70م .
وقد أتى لوقا في إنجيله هذا بزيادات كثيرة ، زيادة عما ذكره متى ومرقص بشكل واضح يرتاب له القارئ ، وهذا أمر ليس بمستغرب طالما أن كاتب هذا الإنجيل هو من تلامذة بولس ومحبيه، وقد علم دارسوا المسيحية مدى التغيير الذي أدخله بولس على النصرانية، فلا غرو أن يضمَّن تلميذه آراء أستاذه أو بعضها كتابا يفترض أنه كتاب وحي، ليكون له سلطان في نشر مذاهبه وآرائه، بعد أن جوبهت أراءه مجابهة شديدة من الموحدين من أتباع عيسى وحوارييه .
4- إنجيل يوحنا
النسبة الشائعة عند الكنيسة أن هذا الإنجيل من تأليف يوحنا بن زبدي الصياد تلميذ المسيح عليه السلام ، وليس ثمة دليل تستند إليه الكنيسة في هذه النسبة سوى أن مؤلف الكتاب ادّعى أنه يوحنا الحواري الذي يحبه المسيح ، وهو ما دفع الكنيسة إلى غضّ الطرف عن مخالفته لغيره من الأناجيل، ولا سيما تصريحه بألوهية المسيح عليه السلام . والطابع الفلسفي الذي امتاز به الكتاب يجعله أبعد ما يكون عن كتابة الصياد يوحنا الحواري، الذي كان بعيدا عن الفلسفة كل البعد، وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول : ” إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية ” وهي المدرسة التي فاحت منها روح الفلسفة آنذاك .
ومن المناسب هنا أن نذكر تعريف دائرة المعارف البريطانية بإنجيل يوحنا – وهي الدائرة التي اشترك في تأليفها خمسمائة عالم من علماء النصارى – حيث جاء فيها : ” أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور، أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين وهما القديسان “يوحنا ومتى” وقد ادعى هذا الكاتب المزوّر في متن الكتاب أنه الحواري الذي يحبه المسيح فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصاً، مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه ، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا ولو بأوهى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل ، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى ” أ.هـ .
وهذا ما قرره أيضا مؤلفو دائرة المعارف الفرنسية ( لاروس القرن العشرين ) فقد قالوا إنه : ” ينسب ليوحنا هذا الإنجيل وأربعة أسفار أخرى من العهد الجديد ، ولكن البحوث الحديثة في مسائل الإيمان لا تسلم بصحة هذه النسبة ” .
والمتمعن في ذلك النقد اللاذع من هذا الكم الهائل من الباحثين يجد أنه ليس بوسع الكنيسة الإصرار بعد ذلك على نسبة هذا الإنجيل ليوحنا بن زبدي الحواري ،ما لم تقدم تفسيرا منطقيا لأمرين أساسيين :
الأول : التباين الشديد بين لغة الكتاب الفلسفية وبين ثقافة وفكر يوحنا الحواري التي تعتبر أبعد ما يكون عن ثقافة الفلاسفة ، ذلك أن لغة الكتاب تمثل خلفية الكاتب ومستواه الثقافي والعلمي ، فلو قدَّرنا أن رجلا نسب كتاب جدل ما، مكتوب على طريقة المتكلمين لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لنادى عليه من بأقطارها بالجهل وعدم المعرفة .
الثاني : غياب الإسناد فضلا عن افتقاد التواتر في نسبة هذا الكتاب إلى يوحنا الحواري ، وإنَّ المرء ليأخذه العجب من كتاب هذا حاله كيف يكون مرجعا دينيا تؤخذ أحكامه وأقواله، مسلمة على أنها أحكام الله وأقواله .
وللأسف فمع وجود هذه الأسئلة التي لم تجب عنها الكنيسة، إلا أنها ظلت متمسكة بهذا الإنجيل داعية إليه ، وكأنها في صمم عما قيل ، ولكن ليس هذا بمستغرب عند من عرف تاريخ النصرانية ، وكيفية تعاملها مع قضاياها الأشد حساسية ، إذ تتعامل معها بمنطق التقليد الأعمى لأساقفتها وباباواتها، ولو كانت مما قضت العقول ببطلانها وفسادها .
وما يهمنا في نهاية هذا الموضوع أن يتبين للقارئ الكريم قيمة هذه الأناجيل وحقيقتها، وأنها ما هي إلا كتب تاريخية، كتبها أصحابها لحكاية أحوال المسيح عليه السلام ، فهي بالتالي عمل بشري ليس له طابع العصمة، لصدوره عمن لا يملكها .
وبالتالي فلا يجوز القول : إن ما في هذه الأناجيل هو كل ما جاء به عيسى عليه السلام، لاحتمال نسيان الرواة بعض أقواله وأفعاله ، ولا يمكن القول أيضا : إن كل ما في هذه الأناجيل قد قاله عيسى عليه السلام حرفا بحرف وعلى وجه الدقة، وذلك لانبناء هذا الأمر على ذاكرة بشر، من الجائز عليها الغفلة والنسيان . ولعل في بعد المسافة الزمنية الفاصلة بين صدور تلك الأفعال والأقوال عن عيسى عليه السلام وبين زمان تسجيلها ما يعد مبررا كافيا للقول باحتمالية الخطأ، كيف لا وقد ثبت بينها الاختلاف والتباين { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }(النساء:82).
فضلا عما يمكن أن تلعبه قناعات رجل مثل لوقا في استجازة إدخال أفكاره ومعتقداته – ولو عن حسن نية – فيما لم يقله المسيح أو يقرره .
وعلاوة على ذلك فلا ننسى تغير الألفاظ وما يستتبع ذلك من تغير المعاني عن طريق الترجمة من لغة إلى لغة ، وهذه أمور ينبغي أن يتأملها النصارى ، وأن ينظروا فيها بعقولهم ، وألا يأخذوا ما تقوله الكنائس وكأنه وحي منزل من رب السماء ، فإن قليلا من التفكير فيما ذكرنا وفيما لم نذكر ربما قاد إلى التفكير الصحيح، وبالتالي إلى الحقائق الصحيحة التي يجهلها النصارى عن دينهم ، نسأل المولى عز وجل أن يهدي ضال عباده ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .
نقلا عن إسلام ويب