عن أي ميلاد يتحدثون ؟!
عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيحتج معظم من يهنئ النصارى في كنائسهم بعيد الميلاد بأنه عيد ميلاد نبي من أنبياء الله الذين لا يصح إيمان المسلم إلا إذا آمن بهم، وهذا الذي ذكروه بشأن الإيمان بعيسى عليه السلام حق لا مرية فيه، ولكن يبقى سؤالان:
•• الأول: هل شرع لنا الاحتفال بميلاد الأنبياء، ومنهم: محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام؟!
•• الثاني: هل ما يحتفلون به هم هو ميلاد عيسى النبي أم عيسى الرب تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً؟!
فبالنسبة للسؤال الأول إن أجابوا عليه بـ: “نعم”؛ توجه عليهم سؤال آخر وهو: أين الاحتفال بميلاد سائر الأنبياء؟!
فإن قيل: إننا علمنا ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم من السيرة، وميلاد عيسى عليه السلام من أتباعه، ولم نعلم الباقي.
قلنا: أما ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنما يشرع لنا تعظيم يوم مولده من أيام الأسبوع -يوم الاثنين- ويكون ذلك بالصيام، ولم يثبت على وجه اليقين يوم مولده السنوي، وأهل السير مختلفون فيه؛ وذلك لعدم ارتباط أمر شرعي به فقلت العناية بضبطه.
وأما ميلاد عيسى عليه السلام فلم يأت في شريعتنا موعد له، والإشارة إلى كونه صيفاً لا شتاء، كما قال تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً} [مريم: 25]، وهذا يكون صيفاً لا شتاء، وقد أشارت (دائرة المعارف البريطانية) إلى هذا الأمر، وزادت فيه دليلاً من الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم، وهو ما ورد فيها من ليلة ميلاد المسيح عليه السلام كان الرعاة يتسامرون فيها في أعلى الجبل، وهذا لا يكون في بلاد الشام إلا في فصل الصيف؛ مما حدا بـ: (دائرة المعارف البريطانية) أن تؤكد أن موعد ميلاد المسيح عليه السلام قد غُيِّر عن عمد؛ ليوافق عيد إله من الآلهة، وهو الإله: “يناير” الذي بدأ: “بولس” بتعظيمه في أول تبشيره بدينه في أوروبا، ثم ادعى أن هذا الإله ما هو إلا المسيح!
وهذا يقودنا إلى السؤال الثاني: حول ماهية المحتفل به، فهم يحتفلون بعيسى بمعتقد آخر غير الذي يراد لنا أن نحتفل به، وذكر ميلاد عيسى عليه السلام وفق معتقدهم لابد أن يتضمن ذكر الإله المتجسد، وذكر الخطيئة الأولى، وذكر الصلب والقيامة، وهذه العقائد ما هي إلا طعن في القرآن والرسول، وفي المسلم الذي ذهب مهنئاً فرحاً.
فأما القران فقد قال الله تعالى: {قل هو الله أحدٌ * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحدٌ} [الإخلاص]، وقال تعالى: {وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} [التوبة: 30]، وقال: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157].
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء يبين لأهل الكتاب ما حرفوه وما بدلوه؛ فكفروا بعد ما جاءهم بالبينات، وقالوا عنه: “كذاب”، واستمرارهم في ترديد ما هم عليه تأكيد لهذا المعنى.
ثم هو طعن فيك أنت أيها المهنئ؛ بالكلام الذي تسمعه هناك دون أن تدري معناه بقول إنك وكل بني آدم تولدون بخطيئة أصلية تبقى في وحلها، اللهم إلا إذا آمنت بالمسيح المخلص إلهاً متجسداً مصلوباً!
إذا واجهت وفود المهنئين بهذه الأمور؛ كان جوابهم أنهم لم يسمعوا بشيء من هذا في أي مرة من المرات التي ذهبوا فيها إلى هناك، بل توسع بعضهم فنفى عن النصارى كثيراً مما يعتقدون! إلا أن المقالات التي تفردها الصحف لرجال الكنيسة في تلك المناسبات تفضح هذا كله، وتأخذ جريدة: “اليوم السابع” الإلكترونية، والتي نشرت يوم السبت 7 يناير مقالتين لاثنين من القساوسة:
الأول هو “الأنبا سرافيم” أسقف الإسماعيلية، والذي تعمد أن يذكر كلمة “الميلاد بالجسد” إشارة إلى أن اللاهوت عندهم مولود من الأب قبل كل العصور، والإله المتجسد مولود من مريم عليها السلام متحداً لاهوته بناسوته.
وإذا الأنبا “سرافيم” قد لجأ إلى الإشارة التي لا يفهمها إلا دارس للمعتقد الكنسي فإن الجريدة ضمت مقالاً آخر للقس: “بولس عبد المسيح”، والذي ظن نفسه يعطي محاضرة في كلية اللاهوت لا أنه يكتب في جريدة عامة في بلد دينه الرسمي الإسلام! فجعل عنوان مقالته: “بميلاده أشرق جسدياً لكي يخلصنا”، لم يترك فيها شيئاً من عقائد الكنيسة التي هي بدورها مصادمة لعقائد الإسلام إلا وذكرها!
وهذه مقتطفات منها، قال: “إن الإشراقة الإلهية التي تمت بالتجسد تعني: تبديد الظلام الدامس قبل ميلاد السيد المسيح -له المجد-، والتي تحتاج إلى أن يقشها نور المسيح: ظلام الخطية التي عمت البشرية”. يعني: عامة البشرية سوى من يؤمن بالإله المتجسد في هذا الظلام الدامس.
ثم قال مبينـاً أين كان هذا الإله قبل التجسد: “الميلاد”، وأن اللاهوت مولود من الأب قبل كل الدهور -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-: “فالسيد المسيح هو النور المولود من الآب قبل كل الدهور، وهو الذي جعل منا أن نحمل اللقب الذي له، فهو قال: “أنا هو نور العالم”، وقال: أنتم نور العالم، فالسيد المسيح يوجهنا أن نسير في النور لتتمتع بالنور الحقيقي الذي جاء إلى العالم، ولا نعثر في سيرنا معه حتى نصل إلى الحياة الأبدية”.
وطبعاً فـ: “الحياة الأبدية”، وفق هذا النص حكر على من اعتقد في “الخطيئة الأولى – التجسد – الفداء – الصلب”!
ومن سماحة الإسلام مع غير المسلمين أن نعلم كل هذه العقائد وأضعاف أضعافها، ثم نطبق القاعدة القرآنية: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256]، وأن نتركهم وما يدنيون به في بيعهم وكنائسهم.
أما أن أذهب مهنئاً، وأسمع ضاحكاً، وأما أن ينشر هذا الكلام على عموم الناس متهماً إياهم بأنهم في ظلام الخطيئة التي ولدوا بها، وسيظلون فيها، ويموتون بها، ويحرمون من دخول الملكوت…!
فهذا يا معشر العقلاء -كما يقولون لكم في الأمثلة الشعبية-: “الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده”، وبعض الأشياء -“ومن أبرزها: التسامح”- إن زادت عن حدها؛ انقلبت إلى معانٍ بالغة الفحش.
المصدر: صوت السلف